الإثنين 12 ذو القعدة 1445 هـ || الموافق 20 ماي 2024 م


قائمة الأقسام   ||    دراسات شرعية موجزة حول شبهات التكفيريين    ||    عدد المشاهدات: 6157

حكم ”العمليات الانتحارية أو ما تسمى بالاستشهادية أو الفدائية“

(ضمن دراسات شرعية موجزة حول شبهات الدواعش وتنظيم القاعدة وأنصار الشريعة وغيرهم من أهل التكفير)
الحلقة (17)
 بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

العمليات الاستشهادية من الأمور المحدثة التي لا صلة لها بالدين، بل لا يوجد في الأحكام الفقهية الشرعية مسمى “العمليات الاستشهادية”، والمعهود في الفقه الإسلامي هو القتال أو الجهاد في سبيل الله، ويقال للمقتول في سبيل الله: ”شهيد” أو: قتل في سبيل الله، نحسبه كذلك والله حسيبه.

أما هذه العمليات فيقال للمقتول فيها: ” منتحر” بدليل أنه قتل نفسه ، ولم يقتله العدو بخلاف الشهيد، والأولى أن يقال عنها: ” العمليات الانتحارية ” وهذا ما يناسبها لغةً وشرعاً.

فإننا لو رجعنا إلى اللغة العربية والاصطلاح الشرعي لوجدنا أن معنى “منتحر” على وزن مفتعل بمعنى فاعل، أي قاتل لنفسه متعمداً لجزع أو خلاصٍ من الدنيا، وإذا رجعنا إلى تعريف “مقتول في سبيل الله “لوجدناه على وزن مفعول بمعنى هناك آخر قتله، ومثله لو قلنا شهيد، على وزن فعيل، صيغة مبالغة من مفعول بمعنى أنه جاهد حتى قتله غيره في سبيل الله لنيل رضا الله وجنته.

ومن التعريفين نجد الفرق جلياً في الآتي:

أولاً: أن المنتحر لغة على وزن مفتعل بمعنى فاعل، أي قاتل لنفسه، ولذا حكمنا على العمليات الانتحارية بأنها انتحار من هذه الناحية اللغوية، بينما من قُتل في سبيل الله يقال فيه لغةً مقتول على وزن مفعول بمعنى هناك آخر قتله، كما يقال له أيضاً شهيد، على وزن فعيل، صيغة مبالغة من مفعول بمعنى أنه جاهد حتى قُتِل في سبيل الله وصار مقتولاً بفعل فاعل من الأعداء، والفرق واضح جلي من الناحية اللغوية.

ثانياً: أن المنتحر يكون متعمداً قتل نفسه ابتداء ويتأهب لقتل نفسه باختياره، بينما من قتل في سبيل الله لا يتعمد قتل نفسه البتة، وإنما يقاتل في سبيل الله، وقد ينغمس في الكفار بسلاحه لا بنية أن يقتله العدو ولكن بنية قتال العدو فإن قتل فهو شهيد نحسبه كذلك والله حسيبه، بينما من قتل نفسه منتحراً متعمداً وسط العدو فهو قاتلها ولم يقتله العدو، ولذا حكمنا على العمليات الانتحارية بأنها انتحار من هذه الناحية الشرعية.

لكن عند هؤلاء القوم شبهة وهي أنهم يقولون إن قاتل نفسه في العمليات الانتحارية لم يقصدها جزعاً ولا خلاصاً من الموت، وإنما قصد أنه يفدي نفسه ويضحي بها لله وفي الله، فالجواب : ليس من عمل شيئاً بنية حسنة قلنا قد أصاب، فقد يعمل الشخص منا العمل بنية حسنة فيضر غيره بغير قصد، فهل نيته الحسنة حجة له وشافعة له أما أنه محاسب على الجرم الذي لم يقصده؟ مثل شخص حفرَ بئراً على الطريق لأجل أن تكون سبيلاً للشرب، فمر أقوام في طريقهم آمنين فسقطوا في هذه البئر فماتوا أو مات بعضهم، فهل نقول ليس على من حفرها جرم لأن نيته حسنة أم لا بد من محاسبته؟، لا شك أنه لا بد من محاسبته، ومطالبة القضاء بمحاكمته، رغم أنه على نية حسنة، وقد جاء في الأثر الصحيح الذي أخرجه الدارمي وابن أبي شيبة لما أنكر ابن مسعود على الخوارج بعض أفعالهم في المسجد ومعهم حصى، قالوا لابن مسعود: “والله يا أبا عبدالرحمن، ما أردنا إلا الخير، فرد عليهم ابن مسعود بقوله: ” وكم من مُريدٍ للخير لن يُصِيبَه، إنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – حدَّثنا أن قومًا يقرؤون القرآن لا يُجاوِز تَراقِيَهم، وايمُ الله ما أدري لعلَّ أكثرهم منكم، ثم تولَّى عنهم.

فقال عمرو بن سلَمة: رأينا عامَّة أولئك الحِلَق يُطاعِنُوننا يوم النهروان مع الخوارج”.

وقد اتفق العلماء أن مجرد حسن النية لا يكون مبرراً شرعياً لأي عمل قام على قصد حسن.

فما بالكم والنصوص في باب الدماء شديدة وخصوصاً فيما نحن بصدده، ولا يقول قائل نصوص الانتحار في الكتاب والسنة تختلف صورتها عن حمل متفجرات وعن الانغماس في العدو بالمتفجرات، والجواب : أننا لا ننظر إلى عصر النبوة ونقارنه بعصرنا في المتشابهات، فذاك زمان لا متفجرات فيه ولا طائرات ولا دبابات، لكن النظر في القضايا كما تقدم نظرٌ شرعي لا يستلزم منه اتحاد الصور، فالعلة أن صاحب هذه العمليات الانتحارية يقتل نفسه وكذلك من انتحر يقتل نفسه، فلا يقول لي قائل هات من القرآن والسنة دليلاً على أن المخدرات حرام لأن الاتفاق بين المخدرات والخمر منوط بعلة الإسكار، وهكذا تُبنى المسائل في الفقه الشرعي.

وإليكم بعض الأدلة في حكم من قتل نفسه متعمداً:

جاء في الحديث المتفق عليه ”من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردَّى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سمًّا فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحسَّاهُ في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدتُه في يده يُجأُ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً”.

وفي لفظ للبخاري ”ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة“.

وعن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكيناً فجز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات ، قال تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة“ متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ”الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار” متفق عليه.

وهذه الأدلة تثبت قطعاً أن العمليات الانتحارية عملٌ غير شرعي، وأن القائم بذلك قاتل لنفسه مستحق للوعيد إلا أن يتغمده الله برحمة منه وفضل.

قال الله تعالى: ”وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً“.

وقال سبحانه: ”وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ“.

قال البيضاوي في تفسيره (ص444): “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل مؤمن معصوم عمداً” اهـ.

ثم حفظ النفس من الضروريات الخمس ويحرم بالأدلة القاطعة إزهاق الأرواح متعمداً، بينما النكاية بالعدو والجهاد في سبيل الله أمر مندوب، وفي حالة وجوب الجهاد في بعض المواطن فإنه لا يحل إزهاق الروح مقابل النكاية بالعدو، فإن النكاية وقتل بعض الكفار محبب شرعاً بينما حفظ النفس من الضروريات الخمس ومن أوجب الواجبات.

وشيء آخر شرعي وهو: لو اجتمع أمر فيه وعد بثواب الآخرة كالنكاية بالعدو وقتل كافر فأكثر، وآخر فيه تهديد بعذاب أليم كقتل النفس فإننا نقدم العمل بأدلة الوعيد على أدلة الترغيب لأن الوعيد يبني عليه عذاب شديد، وأما الوعد بثواب الآخرة لو تركناه فإنه يحل غيره من الصالحات التي لا تتصادم مع أدلة وعيد النار.

ورغم ما تبين من البيان الشرعي الآنف الذكر بأدلته الصحيحة، وعليه كبار علماء الأمة في العصر الحديث كابن باز والألباني وابن عثيمين والوادعي والفوزان واللحيدان وعبد المحسن العباد والنجمي وغيرهم من كبار العلماء، إلا أن هناك من أهل العلم من أجازها إذا ثبت أن فيها تخفيفاً عن أمة الإسلام ومن ذلك فتوى شيخنا عبد الله الجبرين كما سيأتي، وهناك من أطلق الجواز كالشيخ ابن منيع، وكبعض الدعاة الذين يعتمد على فتاواهم بعض التنظيمات الجهادية [الدواعش وتنظيم القاعدة وأنصار الشريعة] ومن هؤلاء المشايخ الشيخ حمود العقلاء والشيخ سليمان العلوان وبعض الدعاة في بعض الأقطار الإسلامية.

والقضية شرعية، وليست قضية أن كل طرف يجمع له بعض الأحاديث والآثار الصحيحة والضعيفة ويحشرها ليقوي ما يوافق هواه أو ما يراه، بل الواجب هو التسليم للشرع، واختيار أسلم القولين وأحوطهما عند الاختلاف، فإن الانتصار للنفس على حساب الشرع دون النظر في عواقب الأمور الدنيوية والأخروية منعطف خطير ينتهي بالضلال المبين، وشئ آخر لا ينبغي لمن خالفك في الترجيح أن تتهمه وتطعن في عرضه وتصفه بأقبح القبائح لكونه رجح وقوى حكماً شرعياً عليه طائفة من كبار علماء الأمة المعتمدين في الفتوى، فليس المسلم بالطعان واللعان ولا الفاحش البذي، ثم المخالف يلزمه أن يناقش الطرح والنصوص لا أن يتقوى بقول فلان وعلان من المشايخ لأن التنازع لا بد أن ينتهي حكمه في نهاية المطاف إلى أدلة الكتاب والسنة لا إلى كلام من خالفهما من المشايخ، ولا إلى مجموعة من الأحاديث والأثار التي هي إما ضعيفة من حيث الرواية أو صحيحة لا تفيد المطلوب، ثم إن حشر الأثار والقصص سواء كانت صحيحة أو ضعيفة الإسناد لا يجوز الاعتماد عليها في قضايا الدماء التي حفظها من الضروريات الخمس، بل لا بد من دليل صحيح من الكتاب والسنة لا يحتمل غيره، فإن احتمل غيره أخذنا بالأحوط والأسلم والأبرأ للذمة فإن الأخذ بالأحوط علامة من علامات الإيمان والتقوى، وقد كان الصحابة يبتعدون عن مواطن الفتوى إلا ما لا بد منه بخلاف زماننا هذا.

وسأذكر فيما يلي كل ما وقفت عليه من الأدلة التي ذكرها هؤلاء المجيزون سواء كانوا مشايخ أو كانوا شباباً في التنظيمات الجهادية، فإن من العجب العجاب تسرع بعض الشباب الذين يكتبون على الانترنت وبفتون دون أن يتقيدوا بضوابط وقواعد الشريعة، وبعضهم لا يحسن الإملاء|، ناهيكم عن خوضه في مسائل الدماء التي فيها الجمر تحت الرماد، أما غيرهم من المشايخ فعادة ما يستدل بدليل أو اثنين أو ثلاثة ويكتفي معتمداً على ذلك في فتواه كما فعل شيخنا ابن جبرين وابن المنيع وغيرهما.

وإليكم ما قاله هؤلاء المجيزون والجواب على أدلتهم باختلاف مشاربهم سواء كانوا شيوخاً أو شباباً متحمسين، وسأقسم أدلتهم على قسمين:

القسم الأول الأدلة من القرآن الكريم، وهي كالتالي:

الدليل الأول:

قوله تعالى: “ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد”.

حيث قال بعضهم: أنزلها عمر بن الخطاب وأبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة رضي الله عنهم على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه في ذلك ، كما قال كما أخرجه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم ، كذا في تفسير القرطبي (2 / 361).

والجواب: لو تركنا تفسيرها على ما حمله الجمهور من السلف والخلف في باب الجهاد، وقلنا هي محصورة بتفسير عمر وأبي أيوب وأبي هريرة وقلنا هي خاصة على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرر بنفسه في ذلك، لكان كلامهم بمعنى الانغماس في العدو، وهذا قول نقوله ونسلم له، ولا نختلف فيه، لكن الانغماس في العدو لا يقتل المنغمس فيه نفسه، وإنما يقتله العدو بخلاف هذه العمليات الانتحارية، فإن الفدائي المنتحر يتعمد قتل نفسه.

ولذا يجوز الحمل على العدو والانغماس فيه في مثل هذا الموضع متى ترجحت مصلحة ظاهرة، بشرط ألا يتعمد قتل نفسه كما يفعل هؤلاء المتعجلون اليوم في العلميات الانتحارية.

قال ابن العربي في أحكام القرآن (1/166): “الصحيح جواز إقدام الرجل الواحد على الجمع الكثير من الكفار؛ لأن فيه أربعة أوجه:

الأول: طلب الشهادة، الثاني: وجود النكاية، الثالث: تجرئة المسلمين عليهم، الرابع: ضعف نفوس الأعداء ليروا أن هذا صنيع واحد منهم فما ظنك بالجميع” اهـ

الدليل الثاني:

قوله تعالى: “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون”.

حيث قال بعضهم: قال ابن كثير رحمه الله: حمله الأكثرون على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله.

والجواب: نعم الآية تحمل على كل مجاهد يقاتل العدو، بشرط ألا يفجر نفسه فإن فعل فهو منتحر.

الدليل الثالث:

قوله تعالى: “واعدوا لهم ما استطعتم من قوة من رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”.

حيث قال بعضهم: والعمليات الاستشهادية من القوة التي ترهبهم.

والجواب: أن العمليات الانتحارية ليست من القوة المشروعة، بل من الفتنة التي تتسبب في أشر منها، وأيضاً أن فاعلها يقتل نفسه متعمداً.

الدليل الرابع:

قال تعالى في الناقضين للعهود: “فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون”.

والجواب: أن قاتل نفسه في العمليات الانتحارية لا يشرد بالعدو بل يخيفهم ويقتل منهم فينتقمون في المسلمين بأشر مما فعل كما هو مشاهد وتقدم وسيأتي إيضاح ذلك في مواضع متعددة.

القسم الثاني الأدلة من السنة والآثار وأقوال العلماء، وهي كالتالي:

الدليل الأول:

استدلوا بما أخرجه ابن حبان في السيرة (ص315): “أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث زيد بن حارثة إلى مؤتة ناحية الشام، وتجهز الناس معه فخرج معه قريباً من ثلاثة آلاف من المسلمين، ومضى حتى نزل معان من أرض الشام، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم، فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم من أجلها- الشهادة -، ولا نقاتل الناس بعدد ولا قوة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنين- إما ظهور، وإما شهادة، فقال الناس : قد والله صدق ابن رواحة، ثم رحلوا، والتقى الناس فاقتتلوا قتالاً شديداً .. فأخذ خالد الراية ودافع القوم وحاشى بهم، ثم انصرف بالناس فنعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة قبل أن يجيء خبرهم، وقدم خالد بن الوليد بالمسلمين فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون والصبيان يحثون على الجيش التراب ويقولون : أفررتم في سبيل الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ”ليسوا بالفرارين ولكنهم الكرارون”.

ولم أجد سندا صحيحاً لحديث: ”ليسوا بالفرارين ولكنهم الكرارون”، مع صحة القصة في الجملة.

حيث ادعى هؤلاء المجيزون أن الصحابة أقدموا على القتال طمعاً في الشهادة وهذا تعرض للموت.

والجواب من جهتين:

الأولى: أن الصحابة اقتنعوا برأي ابن رواحة في بداية الأمر ورضيه أميرهم زيد بن حارثه فلما حمي الوطيس ورأى خالد خطر ذلك على المسلمين -وقد انتهت إليه إمرة الجيش- صرف الجيش عن القتال فوافقه المقاتلون وأطاعوا أمره، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه وأثنى على هذا الصنيع – وإن كان في صحته نظر – بقوله ” ليسوا بالفرارين ولكنهم الكرارون”.

ولو كان رأي ابن رواحة صائباً لعنف على خالد رضي الله عنه، لكنه عليه الصلاة والسلام شهد لابن رواحة ومن معه من القتلى بالشهادة؛ لكونهم اجتهدوا بما رأوه في أول الأمر.

الثانية: أن الذين قُتِلوا كانوا بسلاح العدو، وأما العمليات الانتحارية فإن القاتل هو المنتحر وليس العدو.

الدليل الثاني:

استدلوا بما أخرجه مسلم في صحيحه (3/1503) من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ”مِنْ خيرِ معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيْعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانُه“.

والجواب أن معنى الحديث: أنه يطلب الموت في سبيل الله بحقه المشروع الذي شرعه الله في مواطن القتال لا أنه يتسبب في قتل نفسه.

ولذا قال النووي كما في شرح صحيح مسلم (13/34): ومعنى يبتغى القتل مظانه يطلبه في مواطنه التي يرجى فيها؛ لشدة رغبته في الشهادة”.

الدليل الثالث:

استدلوا أخرجه أحمد في مسنده رقم (3251) وغيره: “أن علي بن أبي طالب بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة إلى المدينة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياً رد الله مكرهم”.

والجواب أن هذا الحديث: لا يصح بل رواياته كلها واهية ، لا ترتقي إلى درجة الثبوت، وعلى فرض ثبوته كما ادعاه الحافظ في الفتح (7/184) فإنه يجاب عليه: أن علي بن أبي طالب بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليفتدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، مع احتمال أن قريشاً لن تقتله حتى تتيقن من أن النائم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا عين ما كان من قريش كما في رواية هذا الحديث، على أن علي بن أبي طالب لم ينتحر كما في العمليات الانتحارية.

الدليل الرابع:

استدلوا بما أخرجه البخاري في صحيحه برقم (5686) من حديث أنس –رضي الله عنه- قال: ”كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج في عنقه سيف”.

والجواب: أن فيه دلالة على المسارعة لسد الثغور وحماية البلد من العدو وتتبع أمر الغارات، وليس فيه أنه ألقى بنفسه في أحضان العدو.

الدليل الخامس:

استدلوا بأن رسول صلى الله عليه وسلم احتمى بالصحابة يوم أحد ولم ينكر ذلك، ومن ذلك حماية أبي دجانة للرسول بنفسه، ويؤكد ذلك قول أبي طلحة للرسول صلى الله عليه وسلم: ” نحري دون نحرك ” كما في الصحيحين وغيرهما، وكان يقي رسول الله بنحره ويتطاول في ذلك، بل دافع عنه حتى شلت يده.

والجواب: أن حماية قادة المعارك أمر مشروع ومطلوب بحيث يكون الحماة في وجه العدو والقائد المحمي خلف الحماة، وهذا شئ آخر لا علاقة له بقتل النفس عمداً، وغايته أن الحامي لقائده عبارة عن شخص مدافع، وعند لقاء العدو فسيقاتله قطعاً ولن يقتل نفسه متعمداً|، ولن يسعى في ذلك إلا أن يبارزه العدو فيقتله أو يرميه عن بُعد.

الدليل السادس:

استدلوا بما أخرجه ابن السكن عن عكاشة الغنمي أنه وقى النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهبت أنفه وشفتاه وحاجباه وأذناه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ”أنت المجدع في الله “.

كذا في الإصابة لابن حجر(4/441) بسند ابن السكن، وفي إسناده: من لا يعرف، فلا يصح هذا الحديث.

ولو صح لحمل على ما سبق من الدليل الخامس.

الدليل السابع:

استدل بعضهم بما أخرجه مسلم في صحيحه من قصة أصحاب الأخدود وفيها قوله: “ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك، فأبى،… إلى قول الغلام للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنّا برب الغلام، آمنّا برب الغلام، آمنّا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت وأضرمت النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له اقتحم، ففعلوا حتى أتوا على امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام يا أمّه اصبري إنك على الحق”.

وعند أحمد في مسنده (1/ 310) بإسناد لا بأس به: “فقال: “يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فاقتحمت”.

حيث قالوا: في هذا الحديث دلالة على أن الغلام أمر بقتل نفسه فداءً للدين، ولم يسم منتحراً، وأن الله أنطق الطفل ليأمر أمه بالاقتحام في النار، ولو كان في قتل النفس للدين أي محظور لنبه النبي عليه الصلاة والسلام أثناء قصَّه القصة للصحابة على هذا المحظور، وقصة الغلام وشرحه للملك بقتل نفسه وكذا إنطاق الطفل إلا آية لبيان جواز هذا الفعل، ثم قالوا: إن المرأة في هذه القصة ومن كان من أهل الأخدود الذين اقتحموا النار لم يُدخَلوا إلى النار بالقوة وبالمعالجة، بل ذهبوا طوعاً حتى دخلوا النار وباشروها.

والجواب: أن هذا شرع من قبلنا وليس بشرع لنا إلا بدليل لأن رسالة محمد عليه الصلاة والسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع إلا ما دلت عليه القرائن من الكتاب والسنة أنه شرع لنا، وقد دلت القرائن التي سبق بسطها على حرمة قتل النفس بغير حق، وعلى ذلك فإنطاق الصبي باقتحام النار وذهاب المرأة وغيرها ممن ذهب النار طوعاً كما في الحديث الطويل، ومثل ذلك قصة الغلام وشرحه للملك بقتل نفسه، كل ذلك دلالة لما كان في شرع من سبق وليس لما هو في شريعة الإسلام، ثم لا نتمسك بنص هذا الحديث ونقول سكوت النبي عليه الصلاة والسلام وهو يحكي القصة مع عدم بيانه بعد ذكر القصة دليل على إقراره متضمناً الثناء، هذا فهم خطأ واستنباط بعيد يتعارض مع النصوص الشرعية التي تقدم ذكرها، وهي في مسألة عظيمة من الضروريات الخمس التي منها حفظ النفس.

وبذا نقول إن تحريم قتل النفس جاء بأدلة منفصلة عن هذا الحديث، ولا يلزم أن يكون الحكم مبيناً في سياق ذكر قصة كانت في قوم بني إسرائيل.

ثم لا يكون شرع ما قبلنا حجة لنا إلا في مسألتين:

الأولى : إذا وافق شرعنا، والثانية: إذا لم يخالف شرعنا.

ومعنى ذلك أنه لو وافق شرعنا أو لم يخالفه فالحجة في شرعنا الناسخ لما قبله.

قال الله تعالى: “وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا”.

وقال تعالى: “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”

وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار“.

وأخرج أحمد في مسنده بسنده عن عبد الله بن ثابت قال: “جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ، قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى -عليه السلام – ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين”.

فهذه أدلة وغيرها كثير تؤكد أن أحكام من قبلنا منسوخة وليست شرعاً لنا، وأن ما وافق شرعنا أو لم يخالفه، دلالة على أن العمل بشرعنا دون غيره.

الدليل الثامن:

استدل بعضهم أخرجه البخاري وغيره في قصة السرية التي أمَّر عليها عاصم بن ثابت حيث “أحاط بهم القوم، فقالوا: لهم انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحداً، قال عاصم بن ثابت أمير السرية، أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصماً في سبعة فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق، منهم خبيب الأنصاري وابن دثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن في هؤلاء لأسوة يريد القتلى، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة “.

حيث قالوا: الشاهد في الحديث قوله ” فجروه وعالجوه فأبى فقتلوه ” أي لم يستسلم لهم وينقاد.

والجواب: إنه لم يقتل نفسه ولكنه ثبت وصبر بعدما رأى ما حصل مع ذي قبله، فخشي الغدر فاجتهد رضي الله فكان مصيره القتل من الكفار، فهم من قتلوه، ولم يقصد رضي الله أن يتسبب في قتل نفسه لأنه لا يعلم ما مصيره، إذ ذلك من علم الغيب.

الدليل التاسع:

استدل بعضهم بما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 100)، قال: قال الشافعي رضي الله عنه “تخلف رجل من الأنصار عن أصحاب بئر معونة، فرأى الطير عكوفاً على مقتلة أصحابه، فقال لعمرو بن أمية، سأقدم على هؤلاء العدو، فيقتلوني، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابنا ففعل، فقتل، فرجع عمرو بن أمية، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً حسناً، ويقال: قال لعمرو: فهلا تقدمت؟”.

ثم قالوا: قوله “سأقدم على هؤلاء العدو، فيقتلوني” أي ليس له هدف النكاية بالقوم ولا الدفاع عن أصحابه بل مجرد القتل في سبيل الله.

والجواب: أن هذا حديث ضعيف جداً، وذلك أنه سقط من إسناده من حدث عنه الشافعي، وربما سقط منه أيضاً شيخ شيخ الشافعي، فهو مرسل لا يصح بحال.

الدليل العاشر:

ما أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”.

 




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام