قولهم: إن الحكام كفروا لأنهم استحلوا ما حرم الله كالربا والخمور ونحوها.
(ضمن دراسات شرعية موجزة حول شبهات الدواعش وتنظيم القاعدة وغيرهم من أهل التكفير)
الحلقة (10)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
نجد في بلاد المسلمين البنوك الربوية، وشرب الخمور وبيعها، وكذا النوادي الليلية والفنادق التي يوجد في بعضها الخمور والمحرمات، وربما الدعارة من زنا وغيره، وتعطيل أحكام الشرع كتعطيل الحدود، والأمر بحلقى اللحى أو تخفيفها وخصوصاً في مؤسسات بعض الدول العربية، وبالأخص المؤسسة العسكرية، والموالاة لأعداء الله في الظاهر، وتمجيد الديمقراطية والقوميات العربية، ونحوها من القضايا التي حرمها الشرع، وكل ذلك على مرأى ومسمع من ولاة الأمر، وأيضاً أن ولي الأمر قد يرخص للبنوك الربوية ومحلات بيع الخمور وشربها، وللنوادي الليلية ونحوها مما يتصادم مع الدين.
ومما لاشك فيه أن هذه منكرات عظيمة وكبائر تتصادم مع دين الله، بل ذلك حرب للدين وأحكامه، ويجب على ولاة الأمر أن يتقوا الله في ذلك، فإنهم غداً موقوفون بين يدي الله، وسيسألهم عمن استرعاهم كيف حكم بهم ، فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
قال الله تعالى: “وقفوهم إنهم مسؤولون”.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الحكام المسلمون بهذا الصنيع قد استحلوا هذه المحرمات وكفروا كفراً مخرجاً من الملة أم لا؟
والجواب:
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين السؤال الآتي: (ما هو ضابط الاستحلال الذي يكفر به العبد ؟ ).
فأجاب: ” الاستحلال هو أن يعتقد الإنسان حلّ ما حرّمه الله . . . وأما الاستحلال الفعلي فيُنظر: لو أن الإنسان تعامل بالربا, لا يعتقد أنه حلال لكنّه يُصرّ عليه، فإنه لا يُكفَّر لأنه لا يستحلّه، ولكن لو قال إن الربا حلال، ويعني بذلك الربا الذي حرّمه الله فإنه يكفر، لأنه مكذب لله ورسوله(1)“اهـ
وسئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان السؤال الآتي: (هل وجود البنوك الربوية ووضعها في البلاد دليل على استحلال الربا واستباحته؟).
فأجاب: ” أكل الربا لا يدل على استباحة الربا, أكل الربا كبيرة من كبائر الذنوب, والتعامل بالربا كبيرة وموبقة من الموبقات، لكن لا يدل هذا على كفر المرابي، إلا إذا استحله ولو لم يأخذه، إذا قال الربا حلال فهو كافر ولو لم يأخذ الربا، فإذا جمع بين الجريمتين وقال الربا حلال وأخذه فهذه جريمتان(2)“اهـ
ومن خلال الجوابين السابقين يتبين للقارئ الكريم أن الاستحلال قضية قلبية لا يمكن معرفتها إلا بالتصريح في كل شئ شرعي منصوص عليه كأن يقول في شئ حرمه الله إنه حلال أو جائز أو مباح، أو مسموح به، أو يعتقد ذلك في نفسه، والتصريح دليل على الاعتقاد بالاستحلال، فلا يقال عن فاعل الكبيرة أو الذنب مهما بلغ إصراره إنه مستحل، ولا من دعا أو حمى شيئاً يتصادم مع حكم الله منصوص عليه كالربا والخمر إنه مستحل حتى يعتقد ذلك أو يصرح به مستحلاً.
قال ابن تيمية: ” لفظ الاستحلال إنما يُستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشئ حلالاً(3)“.
وقال رحمه الله: ” فإن المستحل للشئ هو الذي يأخذه معتقداً حله(4)“.
ونقله ابن القيم عن شيخه ابن تيمية في إغاثة اللهفان(5).
قلت: وضابط كفر الاستحلال “وأصله من جنس كفر الجحود والتكذيب” هو: كل من استحل ما حرمه الله ورسوله ، فاستحلاله له جحد للحق، وتكذيب به.
ولا يعني ذلك أنه لا كفر إلا باستحلال، فإن الكفر يقع بالاستحلال والقول والفعل كما بينت ذلك في أكثر من موضع.
ويسمى بالاستحلال الاعتقادي كما وصفه العلماء، وهناك استحلال عملي لا يكفر صاحبه كأن يعمله على سبيل الجهل أو المعصية أو الظن بحله على جهل كالسرقة وشرب الخمور والتعامل بالربا ونحو ذلك، وعليه يتنزل الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في صحيحه موصولاً على الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ” ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر -يعني الزنا- والحرير والخمر والمعازف”.
ولا يكفر المسلم حتى يتم استيفاء الشروط وانتفاء الموانع كما أشرت إلى ذلك في كتابي ” ضوابط التكفير وأهم مسائله”، وهو مطبوع متداول.
وقد تعجبت لبعض خوارج العصر المراهقين الذين أدخلوا في فتاواهم ما لم يأت به الخوارج الأوائل، حيث قال أحدهم مدعياً : إذا شرب فرد من أفراد الشعب الخمر أو زنا أو وقع في كبيرة فإنه لا يكفر، وأما إذا فعل ذلك الحاكم فإنه يكفر لأنه سمح بذلك في الدولة.
وهذا فقه جديد، لا سابق له، ولا دليل عليه سوى الهوى والاستهتار بالفقه الشرعي المطهر، والأصل أن الفرد والحاكم والجماعة يكفر كل واحد منهم بمجرد الاستحلال الاعتقادي أو التصريح بتحليل ما حرم الله بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع اتفاقاً.
وسيأتي مزيد إيضاح في الحلقة القادمة بإذن الله حول ” حكم سن القوانين الوضعية بدلاً عن الحكم بما أنزل الله “، والذي يُعد سنها من الكفر الأكبر المخرج من الملة اتفاقاً.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
ــــــــــــــــــــــ
[1] الباب المفتوح لابن عثيمين (3/97)، لقاء رقم (50)، السؤال رقم (1198).
[2] الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية للحصين (ص 68).
[3] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6 /42).
[4] المصدر السابق (6/29).
[5] إغاثة اللهفان لابن القيم (1/246)