دورة في الفقه الإسلامي وأدلته
الحلقة (3)
بقلم الدكتور: صادق بن محمد البيضاني
المراحل التاريخية للفقه الإسلامي
مر الفقه الإسلامي عبر التاريخ بخمس مراحل، وهي مرحلة النبوة، ومرحلة الصحابة، ومرحلة التابعين، ومرحلة صغار التابعين وتسمى بمرحلة تدوين المسائل، ومرحلة تفريع المسائل وضبطها بقواعد وأصول الفقه.
وإليكم في هذه الحلقة بيان المرحلتين الأوليين، فأقول وبالله التوفيق:
المرحلة الأولى:
مرحلة العهد النبوي، وهو العصر الذي كان ينزل فيه الوحي على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وفي هذه المرحلة: كان الناس يرجعون في مسائلهم وأمورهم الشرعية إلى النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، وكان يأتيه حكم مسائل الشرع وحياً من عند ربه بواسطة جبريل فيفتي فيها النبي عليه الصلاة والسلام لفظاً من خلال آيات القرآن الكريم والأحاديث القدسية أو معنى من خلال الوحي فيذكر حكم المسألة بقوله أو فعله، وكانت المسائل التي يُسأل عنها النبي عليه الصلاة والسلام في الجملة قليلة في مقابل ما يرد به الوحي.
وهناك مسائل وقعت قولاً أو فعلاً من صحابي أو جماعة من الصحابة بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حال غيابه فلم يتكلم فيها النبي عليه الصلاة والسلام بل سكت، وهذا إقرار منه بصحة حكمها لأنه لم يأته وحي يعارضها، ولو كانت على خلاف الحق لنزل به الوحي ولأنكرها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يُسمى في علم الحديث بـ "السنة التقريرية ".
وهناك مسائل يُسأل عنها ويسكت حتى يأتيه الوحي بالجواب، كما جاء اليهود إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وسألوه عن الروح، فسكت حتى أتاه الوحي بالجواب، حيث نزل عليه قوله سبحانه وتعالى "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي"([1]) فقال النبي لليهود وللسائلين عن ذلك: الروح من أمر ربي، فجعل ذلك من أمر الغيب الذي خُفِيَ أمره حتى على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
هذا العهد الزاهر لم يحصل فيه خلاف البتة, ولو وجد شيء ظاهره خلاف، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحسمه بالوحي.
المرحلة الثانية:
عهد الصحابة، ويعتبر هذا العصر أفضل العصور بعد عصر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو العصر الأول الذي بدأ فيه الاجتهاد في المسائل؛ إذ لم يكن هناك اجتهاد في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وإنما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصدر حكمه على ضوء الوحي.
ولما مات النبي عليه الصلاة والسلام جَدَّت مسائل لا دليل عليها لا من كتاب ولا من سنة، فعُرضت على فقهاء الصحابة لكي يفتوا فيها وفقاً لعموم أدلة الشرع.
فإنه لما جاء عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أرسلوا جيوشًا إلى بلاد فارس وبلاد الروم وغيرها من البلدان، فكثرت الفتوحات الإسلامية واختلط العرب بالعجم، ودخل الأعاجم في دين الله أفواجاً، فظهرت بعض الأعراف التي عُرفت عند العجم وقد أسلموا، فعرضوها على الصحابة من أجل بيان الحكم الشرعي فيها، فلم يجد الصحابة دليلًا تفصيليًا في كثير منها فرجعوا إلى جملة أدلة الكتاب والسنة واجتهدوا فخرجوا بالحكم الشرعي، وحصل الاتفاق في مسائل، وحصل الخلاف في مسائل أخرى سنبينها في مواضعها إن شاء الله، فكانت الخلافات في المسائل الفقهية قد انبثقت ابتداءً من عهد الصحابة رضوان الله عليهم، أما في زمن النبوة فلا يظهر خلاف في مسألة إلا وقد حسمه الوحي كما تقدم.
عدد الفقهاء المفتين في عهد الصحابة:
ليس كل الصحابة أهل فتيا، بل كان الفقهاء آنذاك لا يتجاوز عددهم ثلاثة عشر فقيهًا، وقيل أكثر، وعلى رأس هؤلاء: عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعائشة وأمثالهم من أهل الحديث من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
لفتة تاريخية:
كان الفقهاء قديماً محصورين في الجملة، أما اليوم فمن أخذ شهادة دكتوراه أو درس عند شيخ أو صار واعظًا أو خطيبًا أو إمامًا وربما مؤذنًا حشر نفسه في صف الفقهاء، وصار يفتي الناس إلا من رحم ربي، فربما تُعرض عليه المسألة ويفتي وليس أهلاً للفتيا ولم يزكه العلماء، فينبغي للشخص إذا عرضت عليه مسألة وهو ليس أهلًا للفتيا أن يعرض عن جوابها، لأن الإعراض عن الجواب دليل على التورع، فهؤلاء الصحابة الثلاثة عشر عندما كانت تعرض عليهم المسألة لم يكونوا جميعًا يفتوا، بل كان بعضهم يقول سل عنها ابن عباس أو عبد الله بن عمر أو عائشة وهكذا كان من بعدهم من أهل القرون المفضلة، وقد جاء عن الإمام مالك - وهو من صغار التابعين على الراجح - حيث عرضت عليه أربعون مسألة على المشهور، فقال في ست وثلاثين مسألة الله أعلم وأفتى في أربع، فقال الرجل لمالك: لقد جئتُ إلى فقيه دار الهجرة إلى الإمام مالك أسأل عن أربعين، وتقول في ست وثلاثين: الله أعلم، ثم تفتيني في أربع، فقال له الإمام مالك: اذهب وحدث الناس عن ذلك.
وهذه قصة مروية في ترجمة الإمام مالك، وقد ذكرها الإمام أبو زرعة الدمشقي في تاريخه (ص 194)، وأوردها القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي في كتابه ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، وأصحها ما أسنده ابن عبد البر في التمهيد أن مالكاً سُئل عن ثمان وأربعين مسألة، فأجاب منها عن اثنتين وثلاثين مسألة بقوله: "لا أدري".
يعني ليس عيبًا أن تقول الله أعلم، ولذلك جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَعْلَمُ"([2])، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يتأخر عنه الوحي في المسألة فيسكت حتى يأتيه الجواب، وهو رسول الله ونبي هذه الأمة.
فهذه المدارس والجامعات والكليات الشرعية في عصرنا اليوم: تُخرج نبذة طيبة من المتعلمين، ولكن هناك من ليس أهلًا لذلك، فمن أخذ عن العلماء وزاحمهم في بيوتهم ومجالسهم ومساجدهم، وأخذ عنهم سنين طويلة، وزكوه، فهذا الذي يصلح أن يكون فقيهًا، احترامًا للعلم وللآداب الشرعية واحتراماً لهذا الدين العظيم، بل وتورعًا وتدينًا في أن نجعل الفتيا في العلماء.
وقد صح أن المسألة الواحدة كانت تُعرض في عهد أبي بكر وعمر وغيرهما فيجمع الخليفة لها أهل الفقه، فإذا أفتى فيها فقهاءالصحابة الثلاثة عشر بقول واحد أو بقول جماعة منهم وكانت راجحة لدى ولي الأمر- الخليفة الراشد - أمضاها لكونه رأساً في العلم، وربما كانت إجماعًا؛ لذلك لا عيب ألا يجيب من لا علم له بقوله: "الله أعلم".
نكتفي بهذا القدر، ونرجئ بقية المراحل للحلقة القادمة بإذن الله.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
([1]) سورة الإسراء، الآية (85).
([2]) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عبدالله بن مسعود موقوفًا.