دورة في الفقه الإسلامي وأدلته
الحلقة (4)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
بقية المراحل التاريخية للفقه الإسلامي
في الحلقة السابقة تكلمت عن المرحلتين الأوليين من مراحل الفقه الإسلامي، وهي مرحلة العهد النبوي ومرحلة الصحابة، وفي هذا اللقاء سأتكلم عن المرحلتين الأخيرتين وهما : مرحلة كبار التابعين، ومرحلة صغار التابعين، وتسمى بمرحلة تدوين المسائل، وتفريعها وضبطها بقواعد وأصول الفقه، فأقول وبالله التوفيق :
المرحلة الثالثة : مرحلة كبار التابعين، وهم الذين أخذوا عن الصحابة، وكانت الخلافات في هذه المرحلة أكثر, وتُعد أيامها من أيام العهود الزاهرة الكبرى الداخلة في القرون المفضلة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"([1]).
ولذا فأهل هذه المرحلة عاشروا مرحلة الصحابة، وعاشروا عامة الفتن التي حصلت آنذاك لكونهم أبناء الصحابة، ولعل من أعظم الفتن تلكم الفتنة التي حدثت في أواخر مقتل عثمان, حيث ظهر الخوارج وظهرت مدرسة الجدل والرأي وكثير ممن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من حديثي الإسلام وخاصة من العجم أو من العرب الذين دخلوا متأخرين وتأثروا بمدرسة الرأي والجدل، وبعضهم ربما كان من الزنادقة ودخلاء اليهود والنصارى للقضاء على بيضة المسلمين، فصاروا يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويلفقون بعض الأحاديث ليقووا مذهبهم ورأيهم في ما يخالفون فيه الصحابة أو صغار الصحابة آن ذاك, وفي هذا العصر ظهرت مدرستان فقهيتان: المدرسة الأولى: مدرسة أهل الحجاز أو المدرسة الحجازية أو الحديثية : وكان عندها الحديث قويًا لوفرة أهل الحديث وشروطهم في هذا المكان, وذلك في بلدتين :
الأولى: مكة, وفيها: عبد الله بن عباس, وأخذ عنه مولاه عكرمة وابن جريج وغيرهما.
الثانية : مدينة رسول الله, وفيها : مدرسة عبد الله بن عمر: الذي أخذ عنه مولاه نافع وجماعة, وكان ابن عمر يحبه ويقربه إليه, ويقول: "لقد مَّن الله علينا بنافع"([2]), فنجد أن للموالي مكانة.
وأيضاً بالمدينة مدرسة عبد الله بن مسعود : الذي أخذ عنه سعيد بن جبير وجماعة من التابعين.
المدرسة الثانية : مدرسة أهل العراق أو المدرسة العراقية أو مدرسة الرأي : فإنهم لبعدهم عن أهل الحديث وشروط المحدثين أدخلوا على الحديث شروطًا, فشددوا في ذلك فقل عندهم الحديث، وأيضاً قل عندهم لقلة المحدثين في بلدتهم.
وفي هذه المرحلة وخصوصاً أواخرها نجد أن المسائل الخلافية بدأت تكثر لأنه لم يبق من الصحابة سوى الندرة والصغار منهم, والندرة هذه دلالة على أن الشر بدأ يتفاقم وبدأ يكثر، وهذا مصداق قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أنس " لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ " قال أنس سمعته من نبيكم عليه الصلاة والسلام([3])؛ ولذلك كلما ابتعد الناس عن العلماء الذين قبلهم كلما كثرت الفتن.
وبموت علماء وفقهاء الصحابة عظمت الفتن وتقوت مدرسة الجدل والرأي، وعظم أمر الخوارج والزنادقة والمتكلمين والفلاسفة وغيرهم من أهل الضلال.
والخلاصة أن أصحاب هذه المرحلة أخذوا الحديث وفقه المسائل من الصحابة بما في ذلك المسائل العارضة في أوقات كثرت فيها الفتن وظهرت فيها مسائل جدلية تتصادم مع أصول الشريعة، ولذا لم يتم ضبط الفقه ومسائله بقواعد الأصول الاصطلاحية إلا في المرحلة الرابعة كما سيأتي، حيث أن الحاجة لأصول الفقه وضوابطه صارت ملحة بسبب ما ظهر من الجدل والخلاف والضلال العظيم في المرحلة الثالثة.
المرحلة الرابعة : وهي مرحلة صغار التابعين وأواخر الدولة الأموية, ابتداء من عهد عمر بن عبد العزيز, حيث رأى أهل الحل والعقد وجماعة من أهل العلم أهمية تدوين الحديث والمسائل الفقهية؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان ينهى في زمانه عن كتابة الحديث فكيف يكتب الفقه, وكان نهيه خشية أن يختلط بالقرآن الكريم, وصح عنه أنه أذن لعبد الله بن عمر أن يكتب بعض الأحاديث وبعض المسائل([4]) وكذلك ما جاء عن علي وكتابه في المسائل المتعلقة بالدماء والديات([5]), وفي هذا العهد قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لقد كثر القتلى في حفظة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بكتابة الحديث وبعض المسائل, وخصوصًا أنه كثر في ذلك العهد الحفاظ لكتاب الله, وقد جُمِع القرآن الكريم وحُفِظ من أن يختلط بغيره في زمن أبي بكر وعمر ثم في زمن عثمان, وليس هناك ما يدل على أنه سيختلط بآيات قرآنية أو غيرها, فأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أن يُكتب الحديث([6]), ويقال إنه كلف في ذلك العهد الإمام العلامة المحدث الحافظ الكبير محمد بن مسلم بن شهاب بن عبيد الله الزهري، وجاء أيضاً كما في بعض الروايات أنه كلف القاضي أبا بكر بن حزم([7]) وجماعة من أهل العلم، وهذا يدل على تكرار التكليف لأهميته، ولكن سبحان الله مع الأيام فُقد كتاب الزهري وبعض المدونات وبقي غيرها كثير والحمد لله, وبعد ذلك تسارع الحفاظ وكتبوا كابن جريج وعبدالرزاق الصنعاني ومالك وأحمد بعدهم, فَجُمِعَ الحديث في بلاد الحجاز والشام واليمن والعراق، ثم جمعت المسائل الفقهية ولذلك نجد أن موطأ الإمام مالك عبارة عن مجموعة من الآحاديث مع بعض الآثار مع بعض المسائل, ومن هنا بدأ التدوين ويقال إن الإمام مالك هو أول من دون في الفقه الإسلامي؛ لأنه لم يحفظ كفن أو كعلم مستقل بمسائله كما صار من الإمام مالك, والصواب أن المشهور في جمع الفقه هو أبو حنيفة لكنه خلطه مع بعض المسائل التي بعضها لا تتعلق بالمسائل التفصيلية، بل كل مسألة لا يجد فيها حديثاً أدخل فيها الرأي، وله عذره رحمه الله لأنه لم يطلع على بعض الأحاديث فقد كان في الكوفة، وهي بلدة قليلة الحديث والمحدثين في ذلك العصر, ثم بعد ذلك تسارع أهل العلم وكتبوا في الفقه الإسلامي كتبًا مستقلة، كما كتبوا في الحديث وجردوه عن الآثار، وكذلك كتبوا في الحديث وجردوه عن الضعيف كما فعل البخاري ومسلم، ثم بعد ذلك كثرت الكتب وبدأوا يشرحون هذه الأحاديث ويفصلون المسائل, وكان العلماء في ذلك العهد يختلفون من جماعة إلى جماعة؛ فبعض العلماء كان يكتب الحديث ويستدل بالدليل من الكتاب والسنة, وكان أهل الكوفة إذا ما وجدوا الدليل من الكتاب والسنة اجتهدوا بما يقربهم إلى الله ثم يحكمون في المسألة حتى وإن خالفوا الدليل, ولو اطلعوا على الدليل لرجعوا إليه, ولذا يقول الإمام مالك : " إذا صح الحديث فهو مذهبي", وأفتى رحمه الله في مسائل فنُبه عليها وفق الدليل الصحيح فتراجع, وكان الإمام مالك رحمه الله عندما يكتب هذه المسائل الفقهية يعلق الحكم بالكتاب والسنة الصحيحة, وقد جاء في كتب التراجم أن أمير المؤمنين المنصور قال لمالك : " لو جمعنا الناس على كتابك الموطأ, قال: لا, فإن الناس اطلعوا على مالم نطلع عليه", ومنع أن يحمل أمير المؤمنين الناس على كتابه, فالناس في ذلك الوقت قد ألفوا([8]) كتباً كثيرة, ومن هؤلاء الإمام عبدالرزاق في اليمن، والإمام أحمد بن حنبل في بغداد، والإمام الليث بن سعد المصري في أرض مصر، وكذلك ابن جريج في مكة، والإمام مالك وجماعة في المدينة.
ولذا ربما اطلع الصنعاني على أحاديث لم يطلع عليها أحمد بن حنبل، واطلع الإمام مالك على أحاديث لم يطلع عليها الصنعاني, وهكذا فالفقه مر بهذه الأطوار الأربعة حتى وصل إلينا منقحًا خلال عصور المحدثين والفقهاء.
وقد قعَّد أبو حنيفة بعض قواعد ومسائل الفقه وأصوله في ورقات لم تُحفظ في كتاب مستقل، وعنه أخذ تلميذاه محمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف القاضي، وعنهما أخذ الإمام محمد بن إدريس الشافعي فجمع أصول الفقه كفن مستقل في كتابه " الرسالة" والذي ضمه لكتابه " الأم"، ثم تطور علم أصول الفقه وتوسعت أبوابه، وظهرت كتب كثيرة في أصول الفقه، وأخرى في القواعد الفقهية، وأخرى أيضاً في القواعد الأصولية الإجمالية "الكلية"، كما صارت كتب الفقه مستقلة عن الحديث النبوي، وعن المسائل الفقهية وأصولها.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشده.
_________________
([1]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود.
([2]) المزي, تهذيب الكمال (29/303).
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك.
([4]) أخرجه أبو داود في سننه من حديث عبدالله بن عمرو, وفيه: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق".
([5]) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي جحيفة موقوفًا عليه, وفيه: "قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهمٌ يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وألا يعقل مسلمٌ بكافر", وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث علي بن ابي طالب موقوفًا بنحوه.
([6]) يدل عليه ما في صحيح البخاري: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم الذي تقلد القضاء أن أنظر ما كان من سنة أو حديث فإني خفت اندراس العلم وذهاب الحديث, وبنحوها أخرجها الإمام مالك في الموطأ من رواية محمد بن الحسن.
([7]) ذكره ابن حجر, في فتح الباري (1/218), وابن عبد البر, في جامع بيان العلم وفضله (1/ 331), وفيه: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترًا دفترًا, فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا.
([8]) ابن فرحون, الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب, دراسة وتحقيق: مامون بن محيي الدين الجنان, دار الكتب العلمية, بيروت, لبنان, الطبعة الأولى, 1417هـ, 1996م, ص (72).