قواعد في التشريع الإسلامي
الاجماع حجة شرعية
الحلقة (4 )
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
اتفق العلماء على أن الاجماع([1]) من الأدلة الشرعية التي يُحتج بها عملاً بما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة"([2])، والحديث حسن لغيره.
وقد ساق العلماء جملة من أدلة الكتاب والسنة تدل على حجية الاجماع، يطول بسطها.
قال الإمام الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه (6/ 384) : " فهو– أي الإجماع – حجة شرعية، ولم يخالف فيه غير النَّظَّام([3]) والْإِمامِيَّة([4])" اهـ
وقد حصلت شبهة لدى بعض مثقفي العصر بسبب ما ورد عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال من رواية ابنه عبدالله : "من ادعى الإجماع فهو كاذب"اهـ
وقد ورد ذلك عنه رحمه الله من ثلاث طرق:
الأولى: من طريق ابنِهِ عبدِالله كمَا في مَسَائلِهِ رقم (390) بلفظ : " من ادّعى الإجمَاعَ فهو كاذبٌ، لعلَّ النّاسَ اختلفُوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يَقولُ : لا نعلم النّاس اختلفوا أو لم يبلغنا".
الثانية: من طريق الإمَام المروذي بلفظ : " كيْفَ يَجوزُ للرجل أنْ يَقولَ أجمَعُوا إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم، لو قال : إنّي لم اعلم مخالفاً لكان أحسَن".
الثالثة: من طريق أبي طالب بلفظ: "هذا كذبٌ ، مَا علّمهُ أنَّ النّاسَ مُجمعون، ولكن يُقال : ما أعلم فيه خلافاً، فهو أحسن من قوله : إجمَاع النّاس".
والجواب على ذلك: أن الإمام أحمد لم يقصد به عدم جواز الإجماع في مسألة ما أو أنه يمكننا مخالفة ما بلغنا من أقوال السابقين والخروج عنها لأنه يقول بالأجماع، وقد قال به في أكثر من مسألة؛ وإنما قصد: توجيه النقد إلى دعوى الإجماع الصادرة من الذين ليس لهم معرفة بخلاف السلف -خاصة بعد الشيخين أبي بكر وعمر فقد تفرق فقهاء الصحابة واختلفوا- كالمبتدعة والمتكلمين وفقهائهم, أو قصد الإجماع المدعى في الذي لا يُعلم فيه خلاف لأنه قد يوجد نص, أو قصد التورع لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه كما دلت على ذلك النقول عنه، مع العلم أن الامام أحمد قالها في سياق الرد على المتكلمين ومن نحا نحوهم، ومما يؤكد ما ذكرناه ما يلي:
قال الإمام داود في مسائله عن الإمام أحمد (ص327): "سمعت أحمد قيل له: إن فلاناً قال : قراءة فاتحة الكتاب –يعني: خلف الإمام- مخصوص من قوله: "وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له" [الأعراف:204] فقال: عمن يقول هذا؟! أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة" اهـ
قال عبدالله ابن الإمام أحمد، في مسائله التي رواها عن أبيه (ص443): "قلت لأبي: إذا لم يكن عن النبي في ذلك شيء مشروع يخبر فيه عن خصوص أو عموم؟ قال أبي : ينظر ما عمل به الصحابة، فيكون ذلك معنى الآية, فإن اختلفوا: ينظر أي القولين أشبه بقول رسول الله، يكون العمل عليه"اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى في كتابه "العدة في أصول الفقه (4/1059): "الإِجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجتمع الأمَّةُ على الخطأ، وقد نص أحمد -رحمه الله- على هذا في رواية عبد الله وأبي الحارث: "في الصحابة إذا اختلفوا لم يُخْرَج من أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا، له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل البدع، لا ينبغي أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا"، وقد علق القول في رواية عبد الله فقال: "من ادعى الإِجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المَرِّيسي، والأصم، ولكن [يقول] : لا نعلم، [لعل] الناس اختلفوا ولم يبلغه""اهـ
قلت: فالإمام أحمد قالها رداً على هؤلاء المتكلمين وليس رداً للإجماع بدليل ما تقدم من تصريحه بقوله رحمه الله : " أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة" يعني قوله تعالى : " وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له" كما تقدم ونحوه من الأمثلة.
وقال القاضي أبو يعلى في كتابه "العدة في أصول الفقه (4/1090) : " إجماع أهل كل عصر حجة، ولا يجوز إجماعهم على الخطأ، وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية المروذي، وقد وصف أخذ العلم فقال: "ينظر ما كان عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن، فعن أصحابه، فإن لم يكن فعن التابعين"اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب في آخر (شرح الترمذي): "وأما ما رُوي من قول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب" فهو إنما قال إنكاراً على فقهاء المعتزلة [فقد ذكر الأصم وهو أبو بكر الأصم، شيخ المعتزلة] الذين يدّعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين"اهـ.
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (2/115) : " وإنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدعون الإجماع ولا يعرفون إلا قول أبي حنيفة ومالك ونحوهما، ولا يعلمون أقوال الصحابة والتابعين، وقد ادعى الإجماع في مسائل الفقه غير واحد من مالك ومحمد بن الحسن والشافعي وأبي عبيد في مسائل وفيها خلاف لم يطلعوه وقد جاء الاعتماد على الكتاب والسنة والإجماع في كلام عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وغيرهما حيث يقول كل منهما: اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما أجمع عليه الصالحون. وفي لفظ: بما أجمع عليه الناس؛ لكن يقتضي تأخير هذا عن الأصلين، وما ذاك إلا لأن هؤلاء لا يخالفون الأصلين"اهـ
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
_________________
[1] سيأتي أقسام الإجماع في موضعه من أصول الفقه إن شاء الله.
[2] أخرجه أبو داود في سننه،كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها، حديث رقم (4253)، كما أخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " وغيرهما، وقد خرجته ضمن حواشي كتابي " مجموع فتازى الوادعي"، طبعة دار الرشد بالرياض عام 2004م.
[3] هو إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام البصري، وكان ميلاده ما بين عام 160هـ و185 هـ، تتلمذ في الاعتزال على يد أبي الهذيل العلّاف، ثم انفرد عنه، وله يُنسب مذهب (النظّامية)، وکان من کبار المتكلمين المعتزلة.
[4] يعني الرافضة الإثني عشرية.