قواعد في التشريع الإسلامي
فهم الصحابي حجة على من سواه في فهم النصوص ما لم يخالف نصاً أو أحداً من الصحابة "الجزء الأول"
الحلقة (5)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
لا يَشُك عاقلٌ أن الصحابة رضوان الله عليهم أفضل الخلق بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وأتقاهم ، وأعلمهم بالحلال والحرام، وذلك أنَّهم شاهدوا الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام - والوحي يتنزل - وعرفوا فقهه ، وتأويله واتبعوا سنته، فهم أفضل الخلق بعد رسول الله بِهذا القرب والمكانة سماعاً و مشاهدةً واتباعاً.
وكيف لا يكونون بِهذه المنزلة وقد أثنى الله عليهم في كتابه الكريم وامتدحهم في غير ما آية، وجعل رضاه مُقدَّماً لهم على غيرهم من عامة الناس.
قال جل في علاه : "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ، ورضوا عنه"(1).
قال الشاطبي في الموافقات (4/79) : "ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام وما ذاك من جهة كونِهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط، إذ لا مزية في ذلك ، وإنِما هو لشدة متابعتهم له ، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته ونصرته، ومن كان بِهذه المثابة حقيقٌ أن يتُخذَ قدوة وتجعل سيرته قبلة"اهــ
قال ابن مسعود : "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثُم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ(2).
وقصد بالمسلمين هنا : الصحابة.
ومع كون هذه المنزلة الرفيعة نصيبهم ومبلغ فضلهم بين الناس.
إلا أَنَّهم : بشر يصيبون ويخطئون، فلا عصمة إلا لله ثُمَّ لِمَنْ عَصَمَه الله من الأنبياء والرسل، وما دونَهم فيجوز في حقه الزلل والخطأ والنقص لانقطاع الوحي.
ومما يؤكد ذلك ما جاء في الصحاح والمسانيد مِنْ : أَنَّ بعض الصحابة يعلم أبواباً من العلم الشرعي ، ويجهل أخرى ، وهذا أمر بديهي مسلَّمٌ له عند عامة الناس فضلاً عن علماء هذه الأمة.
وأمثلة ذلك كثيرة منها :
الأول : ما أخرجه البخاري في صحيحه ( فتح رقم 18 ) عن أبي سعيد الخدري قال كنت في مجلس من مجالس الأنصار ، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور(3)، فقال : استأذنتُ على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي ، فرجعتُ، فقال ما منعك ؟ قلت : استأذنتُ ثلاثاً فلم يؤذن لي ، فرجعتُ، وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع، فقال : وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ!،أمنكم أحدٌ سَمِعَهُ من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغرَ القوم ، فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
الثاني : ما أخرجه البخاري في صحيحه أيضاً ( فتح رقم 1185 ) عن الزهري قال أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري أنه : عَقَل(4) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا(5)فِي وَجْهِهِ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ، فزعم محمود أنه سمع عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وكان مِمَّن شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول : كنت أصلي لقومي ببني سالم ، وكان يحول بيني وبينهم وادٍ إذا جاءت الأمطار ، والحديث طويل وفيه : قال محمود بن الربيع : فحدثتها قوماً فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي توفي فيها ، ويزيد بن معاوية عليهم بأرض الروم، فأنكرها علي أبو أيوب ، قال : والله ما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما قلت قط !! فكبر ذلك علي فجعلت لله علي إن سلمني حتى أَقْفُلَ(6) من غزوتي أن أسأل عنها عتبان بن مالك رضي الله عنهم إن وجدته حياً في مسجد قومه، فقفلت فأهللت بحجة أو بعمرة ، ثُمَّ سرت حتى قدمت المدينة ، فأتيت بني سالم فإذا عتبان شيخ أعمى يصلي لقومه ، فلما سلَّم من الصلاة سلمت عليه، وأخبرته مَنْ أنا ثُمَّ سألته عن ذلك الحديث فحدثنيه كما حدثنيه أول مرة".
الثالث : ما أخرجه مسلم في صحيحه ( نووي 7/220 : أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقص يقول في قصصه : من أدركه الفجر جنباً فلا يصم، فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه فأنكر ذلك !! فانطلق عبد الرحمن ، وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال فكلتاهما قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير حلم ثُمَّ يصوم، قال : فانطلقنا حتى دخلنا على مروان فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان : عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة، فرددت عليه ما يقول، قال : فجئنا أبا هريرة وأبو بكر حاضرٌ ذلك كله، قال : فذكر له عبد الرحمن، فقال أبو هريرة : أَهُمَا قالتاه لك ؟ قال : نعم، قال : هما أعلم، ثُمَّ رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن العباس، فقال أبو هريرة : سمعت ذلك من الفضل ولم أَسْمَعْه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال : فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك".
فهذه الآثار ونحوها كثيرة في كتب السنة، أكبر شاهد على أن الصحابة ليسوا معصومين، وليسوا حجة في الأحكام الشرعية على غيرهم من الصحابة أو التابعين أو الناس أجمعين، وأَنَّهم يعلمون، ويجهلون رغم فضلهم، ومكانتهم في الإسلام، ولو كانوا حجةً لَلَزِم كونُهم معصومين، ولا دلالة على عصمتهم بإجماع المسلمين.
فهم في مثابة مَن يفتي بِموجب ما علم من الأحكام الشرعية مما حضر حكمَه والوحي يتنَزَّل، أو مِمَّا علمه من رسول الله عليه الصلاة والسلام أو سَمِعَه من صحابي آخر يرفعه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقد ظلَّ أهل الفقه والأصول ردحاً من الزمن يناقشون قضية الاحتجاج بِهم من عدمه ، فتعددت نقولاتُهم وآراؤهم في هذه القضية.
للكلام بقية، نستأنفه بإذن الله في الحلقة القادمة.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
________________
(1) سورة التوبة آية 100 .
(2) صحيح لغيره
أخرجه أحمد في مسنده رقم (3600) واللفظ له، والحاكم في مستدركه وصححه رقم (4465) ، ووافقه الذهبي في التلخيص، والبزار في مسنده رقم (1816)، والطبراني في المعجم الكبير رقم (8582) كلهم من طريق أبي بكر عن عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود، وإسناده : حسن .
وللأثر طريقان آخران بإسنادين حسن، فالأثر صحيح لغيره، كما فصلت ذلك في كتابي تذكرة الأنام بحكم القراءة من المصحف أثناء الصلاة للإمام وغير الإمام (ص12 وما بعدها) الطبعة الثالثة، طبعة دار اللؤلؤة ببيروت.
(3) مذعور : مفزوع .
(4) بمعنى أنه حفظ عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
(5) المج : إخراج الماء من الفم، ويقصد أنه حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أخرج الماء من فمه ومَجَّه في وجه محمود بن الربيع رضي الله عنه.
(6) أَقْفُلَ : أرجع.