الحكام والعلماء وأصحاب الفكر المحدود
(ضمن سلسلة مقالات متنوعة)
الحلقة (18)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
المقصود بأصحاب الفكر المحدود: من يكتب أو يفكر أو يتكلم وفقاً لفكر محدود، مثل أن يكون توجهه حزبياً فهو بموجب فكره وحزبه يتكلم ويكتب وينقد، وأي حادثة أو فتنة تطرأ على الأمة يحكم فيها وفقاً لتوجهه الحزبي معرضاً عن أدلة الكتاب والسنة وأقوال كبار علماء العصر، ويدخل في ذلك أيضاً العوام ممن إذا سمع كلمة طار بها وتحدث دون أن يرجع لعلماء الأمة الذين يراعون في العوارض الحادثة أدلة الكتاب والسنة.
قبل يومين كتبت مقالاً بعنوان: " نصيحة مختصرة في أحداث العصر وفتن الزمان " وقلت من ضمن كلامي في المقال: " أتركوا خلاف ولاة الأمر بينهم، فهم أعلم بحالهم منكم، واشغلوا أنفسكم فيما ينفعكم، وادعوا للمختلفين أن يوحد الله كلمتهم ويصلح شأنهم، وينصرهم على عدوهم وعدو الدين، ويردهم للحق رداً جميلاً" فقال أحد القراء أنتم علماء ترضون السلاطين والطغاة، وقال آخر: العلماء يكيفون الدين بما يرضي حكام المسلمين.
والجواب: أن العلماء رحمة بالأمة وهم أعلم من غيرهم بالكتاب والسنة وهم أكثر من يخشى الله ويتقيه لكونهم تربوا على كتاب الله وسنة رسوله، ولذا امتدحهم الله بقوله: "إنما يخشى الله من عباده العلماء".
والعلماء إذا قالوا: "أتركوا خلاف ولاة الأمر بينهم، فهم أعلم بحالهم منكم" فإنما يقصدون حتى لا تكون فتنة أكبر، فإن التدخل في شؤون ولاة الأمر يفضي لمفسدة أعظم، ثم العلماء هم من يتولى نصحهم بالحكمة والسر والعلم والحلم والأناة، وأما العنف والقوة والتصادم معهم فإنه يفضي لشر أعظم وفتنة أكبر، فإن طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة رضي الله عنهم جميعاً لما تدخلوا في شؤون حكومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأنكروا عليه جهراً تأخير القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، وتبعهم على هذا الإنكار جملة من الصحابة والتابعين، أدى ذلك للخروج عليه، ثم سفكت الدماء بسبب هذه الفتنة في موقعة الجمل بالبصرة عام 36 هـ، فقتل فيها أكثر من عشرة ألاف رجل، وهم خير منا وعصرهم خير من عصرنا استقامة وفكراً ومنهجاً وديانةً، فما بالكم بعصرنا عصر الجهل والفتن والغوغائية؟!!!، وقبل هذه الفتنة حصلت فتنة قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان بسبب التدخل في شؤون حكومته ثم أدى ذلك التدخل للخروج عليه والإنكار عليه جهراً وخاصة خوارج العراق ومصر آنذاك، وفي مقدمتهم الغافقي بن حرب المصري وكان كبيرهم، وكنانة بن بشر التجيبي، وسودان بن حمران، وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وحكيم بن جبلة البصري، ومالك بن الحارث الأشتر، وغيرهم من الخوارج، فاجتمعوا عليه وقتلوه ظلماً وعدواناً وهذا حال الغوغائية في كل عصر،، ومثل ذلك أيضاً تدخل عبد الرحمن بن الأشعث في حكومة الحجاج - ذلك الحاكم الظالم -، فأنكر عليه علناً ابن الأشعث فخرج عن طاعته، وقد فتن في هذ المحنة خلق كثير من أفاضل التابعين وقتل بسببها أكثر من مائة ألف رجل.
لذلك شدد علماء السلف من الصحابة والتابعين وعلماء السنة قديماً وحديثاً ومنعوا الإنكار والتدخل في شؤون الحكام ليتولى مناصحتهم العلماء والعقلاء بالحكمة سراً، بعيداً عن الطعن في الحكام حتى لا يفضي لفتنة لا تحمد عقباها.
للأسف كثير من الناس اليوم تأثر بالإعلام المزيف كأغلب القنوات الفضائية وبعض الأحزاب أو المجالس أو الشخصيات التي تتأثر بما يدور حولها في الساحة من أحداث دون أن يربطوها بأدلة الشرع المطهر وفقه المصالح والمفاسد.
فالعلماء إذا نصحوا العامة بعدم التدخل في شؤون الحكومات فإنما ذلك حفاظاً على دمائهم من أن تسفك والبلدان من أن تخرب، فإن الأعداء يأملون أن يختلف الحاكم المسلم مع رعيته لكي يتدخلوا ويوسعوا الخلاف حتى نتقاتل مع ولاة الأمر، فانتبهوا رحمكم الله للخطر المحدق، وافهموا ما تعنيه نصائح العلماء لكم.
فثورات الربيع العربي : كانت غلطة حيث خرج الناس على حكامهم في الوطن العربي بقصد طلب التغيير للأفضل، وكان طلب الخارجين شيئاً يسيراً ثم تطور إلى طلب إسقاط الحكام بتخطيط مدروس من قادة الأحزاب، وكان موقف العلماء الربانيين أن هذه طريقة غير سليمة وأنها مخالفة للشرع، وستفضي مع الأيام إلى سفك الدماء حالها كحال فتنة ابن الأشعث وكحال الخروج على عثمان وعلي بن أبي طالب، لكن قال العوام وقادة الأحزاب أنتم علماء سلطة، وكان هذا عام 2011م، واليوم عام 2017م، فالآن أنا أسأل هل صدق العلماء يومها أم لا بعدما رأيتم ما حل بنا من الفتن؟
للأسف بعضهم سيقول بعض العلماء أيدوا هذه المسيرات والاعتصامات، وهذا جواب خطأ لا إنصاف فيه، فإذا كان عندكم قادة الإخوان المسلمين علماء وقادة حزب الرشاد باليمن علماء وأيضا من كان ذا فكر محدود علماء، فأنتم بحق تظلمون العلم، ولا تعرفون العلماء الربانيين، فإن العالم الرباني لا يكون ذا فكر محدود ولا ينخرط في حزب سياسي، فإذا فُتن عالم ما وانخرط في حزب سياسي، فقد فتن وضيع هيبة العلم وأسقط مكانته بيده، بل بعضهم ممن تسمونهم علماء أراد تحريف منهج السلف في حكم الخروج على الحكام حتى يغطي سوءته الخارجية التكفيرية، فكتب ما لا يحسن وما لا يحل له، فحرف وشطح وشابه كلامه كلام الخوارج وأهل الغلو، ويدعي أنه سلفي، وهذا والله ما هو من منهج السلف، وهو كأمثاله عالة على منهج السلف الصافي الذي هو أحكم واتقن للمسائل من غوغائية الأحزاب السياسية وقادتها الذين يطعنون في العلماء ويتهمونهم بالتجهيل وعدم فهم الواقع.
وللأسف يسيئ كثير من الناس على وسائل التواصل الاجتماعي ويقولون سبب نكبة اليمن عام 2011م بل كل نكبات الوطن العربي هم العلماء لأنهم أفتوا بالخروج إلى الساحات، فصار العوام لا يفرقون بين عالم رباني وبين داعية ينتمي لحزب سياسي، وصارت حرب اليمن والدماء التي تسفك من عام 2011م إلى اليوم بسبب العلماء حسب زعمهم، وهكذا هو حال العوام وكل زاعق وناعق، وإلى الله المشتكى.
وختاماً أوجه سؤالاً قولوا لي: ما هي المنفعة التي أحصاها الخارجون على ولاة الأمر بسبب ثوراتهم عام 2011م في الوطن العربي؟
الجواب باختصار: تسبب الخروج بالثورات في الوطن العربي في قتل أكثر من مليون وجرح وإعاقة أكثر من مليون، وتشريد أكثر من ثلاثة عشر مليوناً من أوطانهم، وتحطيم المساكن، والبنية التحتية للأوطان، وتعطيل الحياة بكافة مرافقها، وقتل العلماء وتشريدهم والتضييق على المتدينين، وغيرها من النتائج المخيفة، ولا زالت النتائج السلبية مستمرة، في اليمن ومصر وليبيا وسوريا وغيرها من البلدان.
وأنا أعلم - كما قلت سابقاً -: أن الجهلة غير المنصفين والحزبيين سيقولون لي " أنت ومن معك ممن يفتي بضوابط الكتاب والسنة وتحرير المسائل وفقاً للقواعد الفقهية والأصولية المنضبطة" مجرد محاميين وعملاء لولاة الظلم والاستبداد.
وطبعاً هذه لغة سمعناها من ربع قرن وما زالت تتكرر، ولا يهم من يبلغ دين الله بحق ما يحوم على رأسه من الذباب، فقد قال الله عز وجل: "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا".
الصدق مع الله ثم مع النفس والناس يُعَدُّ من أوثق عرى الإسلام المطهر، فما أحوجنا لذلك.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.