الثلاثاء 2 جمادى الآخرة 1446 هـ || الموافق 3 دجنبر 2024 م


قائمة الأقسام   ||    قواعد في التشريع الاسلامي    ||    عدد المشاهدات: 5251

الاستحسان في الدين
(ضمن سلسلة قواعد في التشريع الإسلامي)
الحلقة (8)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

لا يَجوز لأحد أن يستحسن شيئاً في دين الله ليس عليه أثرة من علم، كما يحرم أن يَحمل الناس على العمل به ،فإن ذلك من أعظم المنكرات وأشدها حرمة، وذلك أن المستحسن يوحي أن الشريعة في حاجة إلى تكميل بِما استحسنه من أحكام وآراء وحاشا أن يكون الدين ناقصاً وقد أكمله ربنا جل في علاه فقال: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتْمَمْت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"(1).
فمن استحسن شيئاً خلاف ما ورد به الشرع فقد أفتى بنقصان أحكام التشريع سواء بلسان الحال أو المقال، اعتقد أم لَمْ يعتقد ، لأن هذا واقعه وحاله.
قال الشافعي في الرسالة (ص 256): "وهذا يبين أن حراماً على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر" اهـ
قال الشوكاني في إرشاد الفحول (1/240) : " وقد أنكره الجمهور حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع".
قال الروياني : " معناه أنه ينصب من جهة نفسه شرعاً غير الشرع".
وفي رواية عن الشافعي أنه قال : " القول بالاستحسان باطل".
وقال الشافعي في الرسالة: "الاستحسان تلذذ(2)ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعاً "، انتهى كلام الشوكاني رحمه الله .
قلت : فكل من استحسن شيئاً وحمل الناس عليه خلاف ما عليه الدليل الشرعي فقد شرَّع في دين الله إلا أنه يستثنى من ذلك ما لو استحسن المفتي شيئاً لا يخالف الشرع في الجملة لمصلحة راجحة ،كأن يقول بِجواز سجن بعض المتهمين في القضايا المستحق صاحبها التعزير أو ببناء المنارة للمسجد في أرض الكفار كي يعرف المسجد بذلك، ويفرق بينه وبين الكنائس والمعابد الوثنية ونحو ذلك بشرط ألا ينسب أي شئ إلى الدين أو قواعده وأدلته إلا بدليل.
أما القول بالاستحسان دون هذا القيد أو ما خالف النصوص فمردود لا يجوز ، وقد قال بالاستحسان جماهير الأحناف تبعاً لفتوى أبِي حنيفة في جوازه.
وحجة الأحناف في جوازه ثلاث شبه لا يقوم بِمثلها الاحتجاج :
الأولى قوله تعالى : " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم"(3).
الثانية قوله تعالى : "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"(4).
الثالثة :حديث: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن".
فأما الأولى والثانية فالمقصود بالحسن ما حسنه الشرع بدليل قوله تعالى في الآية الأولى : "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم".
حيث أسند الاتباع إلى ما جاء به ربنا في كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام لا ما استحسنه العقل ولا مزيد على ذلك.
وأما الثالثة فلا يصح ثبوت هذا الخبر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بل هو أثر صحيح من قول ابن مسعود وقد سبق الإشارة إلى تخريجه في الحلقة رقم (5) من هذه الدراسة.
فلا يَجوز حمل الناس على الاستحسان وجعله دليلاً من أدلة التشريع الإسلامي البتة.
ومن تمام الفائدة فقد ورد في تعريف الاستحسان عند من يقول به ثلاث معان مشهورة :
المعنى الأول: وهو الذي يسبق إلى الفهم ما يستحسنه الْمجتهد بعقله ، وهذا باطل لا محالة ، لأن العقل ليس له أهلية أو أحقية في سَن الأحكام التشريعية.
الثاني: أنه دليل ينقدح في نفس الْمجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إبرازه وإظهاره، وهذا ضعيف جداً.
قال الغزالي في المستصفى (ص474): "وهذا هوس لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال أو تحقيق، ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصحيحه الأدلة أو تزييفه ، أما الحكم بِما لا يدري ما هو فمن أين يعلم جوازه ؟ أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد؟ ولا وجه لدعوى شيء من ذلك" اهــ
الثالث : ذكره الكرخي وبعض أصحاب أبِي حنيفة مِمن عجز عن نصرة الاستحسان، وقال ليس هو عبارة عن قول بغير دليل، بل هو بدليل وهو أجناس، منها العدول بِحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن مثل قوله مالي صدقة أو لله علي أن أتصدق بمالي، فالقياس لزوم التصدق بكل ما يسمى مالاً لكن استحسن أبو حنيفة التخصيص بِمال الزكاة لقوله تعالى :"خذ من أموالهم صدقة" (5)، ولَم يرد إلا مال الزكاة، ومنها أن يعدل بِها عن نظائرها بدليل السنة"(6).
قلت: هذا - والله أعلم - تحيل لنصرة الخطأ من الأقوال بِما حسن من العبارات والأقوال الحسنة، والذي يلزم الاعتراف بضعف هذا القول، وإن خالف المذهب لأنه لا مذهبية في الإسلام.
وعلى كل حال فالاستحسانات التي تُنبني عليها مصلحة راجحة ولا تتصادم مع النصوص، لا بأس بها، ولا يمكن ردها بأي حال من الأحوال متى كانت دفعاً لمفسدة أو جلباً لمصلحة لا يلحقها ضرر، وكانت حاجة لا بد منها، رآها عالم رباني صاحب سنة وورع، وذلك أن الشريعة الإسلامية بكل أحكامها وأوامرها ونواهيها جاءت لتحقيق المصالح للعباد وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ولو كان في هذه الشريعة شيء خلاف المصلحة، لم يصح وصفها بأنها شريعة سمحة مطهرة.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
____________________
(1) سورة المائدة آية 3 .
(2) انظر الرسالة للشافعي ص 257 .
(3) سورة الزمر آية 55 .
(4) سورة الزمر آية 18 .
(5) سورة التوبة آية 103 .
(6) انظر المستصفى للغزالي ص 474 .




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام