أقسام الحديث المقبول والمردود من حيث العمل
الحلقة (17)
بقلم الدكتور: صادق بن محمد البيضاني
نبدأ على بركة الله في هذا الباب بالتالي:
الفصل الأول
أقسام الحديث المقبول
ينقسم الحديث المقبول من حيث العمل به من عدمه إلى خمسة أقسام: المحكم، والمختلف، والناسخ، والترجيح بين ما ظاهره التعارض إن لم يُعرف المتقدم من المتأخر، والتوقف عن الحكم بأحدهما إذا تعذر الترجيح، وإليك بيان هذه الأقسام:
أولاً: المحكم، وهو الحديث السالم من المعارضة.
ومثاله: حديث "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"([1]).
فإنه واضح جلي في أن الوضوء شرط لصحة الصلاة، ولا يتعارض مع غيره من الأدلة.
ثانياً: مختلف الحديث ويسمى مشكل الآثار وهو أن يكون بين الحديثين تنافٍ ظاهراً، فيجمع بينهما كحديث "لا عدوى ولا طيره"([2]) مع رواية "فِرْ من المجذوم فرارك من الأسد"([3]).
والجمع بين الروايتين:
أن تقول: إنه لا عدوى إلا بإذن الله، ولكن دفعاً للوسواس نأخذ بالأسباب فنفر من الأمراض التي قد تكون معدية.
أو تقول: لا عدوى مؤثرة بذاتها وطبعها وإنما التأثير بتقدير الله -عز وجل- ، والأخذ بالسبب لا ينافي التوكل على الله.
أو تقول: من خشي العدوى فر منها ولم يقترب، ومن لم يخش إلا الله توكل عليه ولم يبالِ، وإن اقترب منها لقوة يقينه أن الله -عز وجل- لا يضيع من لم يخش سواه.
ولا شك أن الجمعين السابقين أولى وأحرى بالعمل والترجيح من الجمع الثالث.
ولا يجوز الجمع بين حديثين: أحدهما صحيح، والآخر ضعيف.
ثالثاً: الناسخ، وضده المنسوخ، وهو كل حديث لم يمكن الجمع بينه وبين معارضه مع علم المتأخر منهما إما بالنص كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"([4])، وقوله: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا ما بدالكم"([5])، أو بتصريح الصحابي به كقول جابر كما صح ذلك قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار"([6])، أو بالتاريخ فالأخير ناسخ، والمتقدم منسوخ كحديث "أفطر الحاجم والمحجوم"([7]) وله في بعض طرقه أنه قال ذلك زمن الفتح وذلك سنة ثمان([8])، أو أن يُجْمِعَ العلماء على أنه منسوخ كحديث "من شرب خمراً فاجلدوه، ثم قال في الرابعة: فاقتلوه"([9]).
والأصل عند أهل العلم: أن الإجماع لا ينسخ لكن يدل على وجود دليل النسخ.
قال النووي: إنه حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه قاله في شرح مسلم[10]، وتعقب بأنه لا إجماع إذ قال ابن عمر بالعمل به، و به قال ابن حزم، والله أعلم.
رابعاً: الترجيح بين المتعارضين، إن لم يُعرف المتقدم من المتأخر. فحينئذ نفزع إلى الترجيح، ويعمل بالأرجح منهما والأثبت، كالترجيح بكثرة الرواة أو بصفاتهم العلمية، أو كون أحدهما أتقن من الآخر أو أحفظ في خمسين وجهاً من وجوه الترجيحات وأكثر كما ذكر أهل العلم.
ومثال ذلك: حديث ابن عباس المتفق عليه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تزوج ميمونة وهو محرم".
وقد عارض حديث ميمونة عند مسلم "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوجها وهو حلال".
فيترجح حديث ميمونة لعدة أمور:
الأول: أنها صاحبة القصة فهي أدرى من ابن عباس بزواجها.
الثاني: أن رواية "أنه تزوجها وهو حلال" جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد لكن الوهم إلى الواحد أقرب من الوهم من الجماعة.
الثالث: أنه قد ورد من النهي ما يؤيد قول ميمونة فقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنكِحُ وَلَا يَخْطُبُ" أخرجه مسلم من حديث عثمان.
وبعضهم جمع غير هذا الجمع، فقال: يبقى النهي على عمومه، وزواج ميمونة وهو محرم خاص به -عليه الصلاة والسلام- .
وهذا جمع ضعيف إذ لا قرينة على التخصيص.
خامساً: التوقف عن الحكم بأحدهما، إذا تعذر الترجيح.
ولا أعرف حديثاً اتفق العلماء فيه على التوقف وعدم الترجيح، لكون التوقف قد يكون عند آحاد العلماء دون غيرهم إما لنقص علم أو ورع ونحوهما من الموانع التي تمنعه من الفصل في المسألة، وبالله التوفيق.
([1]) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
([2]) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
([3]) هو الحديث السابق، والزيادة عند البخاري في صحيحه (كتاب الطب ، باب الجذام (5/ 2158 رقم 5380).
([4]) أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (2/ 672 رقم 977) من حديث بريدة.
([5]) هو الشطر الثاني من حديث بريدة السالف الذكر.
([6]) أخرجه النسائي في السنن الصغرى (كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيرت النار (1/ 108 رقم 185).
([7]) أخرجه الأربعة إلا النسائي، والحديث صحيح.
([8]) كما في المسند حيث جاء عن شداد بن أوس أنه قال: مر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان وهو آخذ بيدي فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" والحديث صحيح، على شرط مسلم.
([9]) أخرجه أحمد والأربعة، والحديث صحيح.
([10]) أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، مرجع سابق (5/ 218).