مناقشة هادئة حول الديمقراطية مع المثقفين العصريين
تصحيح مفاهيم
( ضمن موضوع دراسات شرعية واقعية في الديمقراطية واصول الأحزاب السياسية)
الحلقة (2)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
في الحلقة الأولى تكلمت عن “الاختلاف بين الإسلام والديمقراطية وزوبعة الغوغائية “، وقد تواصل معي بعضهم وشكروا الطرح وما جاء فيه، وكتب بعضهم معنى الديمقراطية وفقاً لما يفهمونه كأشخاص غير دارسين لحقيقة الديمقراطية، وربما فهموه من خلال التلفزيونات ووسائل الإعلام أو المجالس العامة أو تلقوه من بعض الشخصيات غير الدارسة، وخرجوا بتصور خاص بهم للديمقراطية، واستنتجوا من ذلك معنى الديمقراطية ومفهومها بفكر محدود، وقالوا هذه هي الديمقراطية دون أن يرجعوا لمصادر الغربيين الذين شرَّعوا الديمقراطية للبشر من دون الله.
وبعضهم قال: الديمقراطية آليات وتنظيمات لا دخل لها بالدين ولا تتعارض مع الدين.
والجواب ما يلي:
من الخطأ الشائع لدى بعض الناس في عصرنا الحاضر وخاصة النشء أن يفهم الديمقراطية بفهمه المحدود قبل أن يطلع على حقيقتها ومفهومها من كلام وأقلام من أسسها وصنعها وخاصة أقطابها ورواجها كـــ : لورد برايس وسيلي وجون ستيوارت وغيرهم.
فلم يقل هؤلاء الديمقراطيون: إن الديمقراطية مجرد آليات لأمور إدارية تنظيمية، بل قالوا هي تشريع لحكم الشعب نفسه بنفسه ليختار الحاكم مع مطلق الحرية لسن أحكامه عبر الناخبين بشكل دوري من خلال المجالس البرلمانية.
ولذا لا تعترف الديمقراطية بأحكام شرعية إسلامية أبداً، بل لا تعترف بالأديان كلها، ولو كانت تعترف بذلك ما ناقش البرلمانيون في البلاد الإسلامية، ومنها عربية التصويت على جواز بيع الخمر بالأغلبية في البرلمان، أليس شرب الخمر محرماً بالكتاب والسنة ولا يقبل التصويت؟!! وهناك دول عربية صوتت على الاختلاط في المدارس والجامعات من خلال البرلمان بالأغلبية أليس الاختلاط محرماً وذريعة للمفاسد ومنصوصاً على تحريمه؟!!
وهناك دول عربية صوتت على جواز النوادي الليلية مع التغاضي عن بيع الخمور فيها ووجود الداعرات والزنا، أليس هذا منصوصا على تحريمه؟!! وأمثلة كثيرة، ناهيك عن تطبيق التشريع الديمقراطي بحذافيره في البلاد الكافرة والتي كان من أواخرها تصويت الديمقراطيين على إباحة زواج الرجل بالرجل واعتماده في المحاكم في أمريكا وغيرها من الدول الأخرى، وقد بارك الرئيس أوباما هذا الفوز بنجاح الشواذ وحصولهم على الأغلبية الساحقة في أمريكا، وصار شرعاً مسموحاً به بأمريكا مُنذ 26 يونيو 2015م، وأمريكا هي الدولة الثامنة عشر التي تَسمَح بزواج الرجل بالرجل من خلال النظام الديمقراطي، وبعض الدول العربية تتدرج في سن قوانين تمثل خطورة على أفكار وعقائد المسلمين من خلال النظام الديمقراطي الذي صفق له بعض الإسلاميين، وهناك دولة عربية لا أحب ذكر اسمها يدور في أروقتها مناقشة بعض القضايا التي تخل بأخلاق المسلمين من خلال المجالس البرلمانية الديمقراطية، وكل هذا بسبب أننا تلقينا الديمقراطية بالترحيب قبل أن نعي حقيقتها من خلال من أسسها.
ومن المعلوم لدى كل عاقل أنه لا يحل أصلا في شريعتنا الإسلامية التصويت على أحكام ورد فيها نص شرعي.
لذا الديمقراطية نظام تشريعي من الدرجة الأولى باتفاق قادتها ومؤسسيها، بل وهذا واقعها كما أسلفت لكم في الأمثلة السابقة، وليس مجرد نظام آليات وأنظمة إدارية لا دخل لها بالدين لأن هذا تعبير المخدوع الذي لا يعي الديمقراطية أو المخدوع بها مع علمه أنها عارضت الدين.
ولا يقول قائل نأخذ من الديمقراطية ” الجانب التنظيمي لاختيار حاكم الدولة عبر صناديق الاقتراع كرئيس للدولة ونواب البرلمان ومسؤولي السلطة المحلية كالمحافظين ومدراء المديريات وأجهزة الرقابة علي سير أعمال الحكومة والسلطة التنفيذية….. إلى آخره من التنظيمات الإدارية.
فمن الخطأ أن يفهم المتعلم أن هذه الآليات متعلقة بالديمقراطية، بل الحكومات الشيوعية والفاشية وكذا الدول الإسلامية منذ القدم في الدولة الأموية والعباسية وهكذا إلى الدولة العثمانية وكذا بعض الدول الأخرى غير الديمقراطية عندها آليات تنظيمية ولا تأخذها من الديمقراطية لأن الديمقراطية نظام تشريعي وضعي، وعندما قامت دول الغرب ببناء الدولة الديمقراطية وضعت آليات بناء الدولة من خلال علم الاجتماع والعلوم الإدارية الأخرى.
فالتنظيم الإداري له كلية في الجامعات تسمى بكلية العلوم الإدارية، وفيها عدة أقسام ومنها قسم العلوم الإدارية السياسية، وفيها يتم دراسة كل ما يتعلق بهيكلة الدولة وفقاً لأي نظام إسلامي بحت أو شيوعي أو ديمقراطي أو فاشي أو غيره، فالإدارة شئ والتشريع الديمقراطي شئ آخر.
النظم الإدارية واختيار الحاكم موجودة كلها في النظام الإسلامي، وقد ناقشها العلماء الأكابر كابن تيمية وابن القيم والنووي وابن حجر وغيرهم كثير، وبينوا ما يتعلق بالدولة وشروط الحاكم وشروط مجلس الشورى وشروط أعضائه ونحوها وفقاً للنظام الإسلامي، وأيضاً علماء الاجتماع كعبد الرحمن بن خلدون في القرن الثامن الهجري تكلم عن الدولة وعن بنائها وأطال فيها النفس، وأيضاً غيره من علماء الاجتماع المحافظ أطالوا النفس في هذا الباب، بل ونقدوا ابن خلدون في بعض أطروحاته وصححوا بعض المسارات التنظيمية والهيكلية في بناء الدولة الحديثة بما لا يتصادم مع أدلة الشريعة الإسلامية.
للأسف يظن بعض المتعلمين أن الدول الديمقراطية وحدها هي التي فيها النظم الإدارية وأن المسلم لن يستطيع يقوم بدولة مدنية منظمة حتى يخوض غمار الديمقراطية، وهذا فهم خطا، وقد كتبت كتاباً لطيفاً في الدولة بكافة مرافقه وهياكلها وإداراتها وأجهزتها ومؤسساتها وموظفيها من الرئيس إلى أدنى موظف، وعنوان هذا الكتاب : ” مشروع الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي، وقد لخصت منه مقالاً سياتي في هذه الدراسة، وهو مقال الحلقة رقم (18).
يا إخواني أكرر وأقول : النظام الديمقراطي هو نوع من أنظمة التشريع البشري الوضعي الذي قام لأسقاط حكم الأديان ومنها الدين الإسلامي، وهذه قاعدة عند مؤسسي الديمقراطية اليونان ومعمول بها حتى هذه اللحظة، فليست الديمقراطية مجرد آليات وتنظيم إداري، أو ممكن أن نأخذ من الديمقراطية الإدارة، لأن الإدارة شئ مستقل لا غنى عنها للنظام الديمقراطي الحاكم وغيره من الأنظمة الأخرى كالفاشية والديكتاتورية والشيوعية والاشتراكية ونحوها، فكل هذه الأنظمة ومنها النظام الإسلامي تستفيد من علم الاجتماع والعلوم الإدارية كل ما يتعلق بتنظيم الدولة.
وقد استفاد المسلمون من علم الاجتماع والعلوم الإدارية تنظيم دولهم، فلا يمنع أن نستفيد نحن كمسلمين في ظل الدولة الإسلامية المحافظة من علوم الاجتماع والعلوم الإدارية لتنظيم إدارة الدولة المسلمة التي تحكم بما أنزل الله، فهذه شؤون دنيوية مباحة طالما ليس فيها ما يتعارض مع الشرع، لكن لا يظن بعض العوام أن هذا محصور بالنظام الديمقراطي.
فالنظم الإدارية في الدولة يتم سنها بموجب دراسة العلوم الإدارية وهي تخصص جامعي، والميزانية مثلاً من خلال دراسة إدارة أعمال القطاع العام، وأما شروط الحاكم ومدة حكمه وكذا أنظمة المرور ومن سيتولى السلطة المحلية كالمحافظين ومدراء المديريات وأجهزة الرقابة علي سير أعمال الحكومة والسلطة التنفيذية وغيرها، فهذه كلها يقررها أعضاء عاملين في الدولة ووزاراتها وهيئاتها وفي مجلس الشورى من أهل الحل والعقد وبعض الشخصيات الاستشارية والإدارية في الدولة الإسلامية التي تحكم بالنظام الإسلامي، وهكذا بقية الأمور الشكلية في بناء الدول وأنظمتها الآلية.
فالإسلام دين ونظام وقد حكم العالم لسنوات طويلة بلا ديمقراطية، وهذا هارون الرشيد حكم ربع الكرة الأرضية بلا ديمقراطية، وقبله الخلفاء الراشدون، وأيضاً الدولة الأموية والعباسية ودولة السلاجقة السنية التي قامت في إيران والعراق وسوريا وآسيا الصغرى، والدولة العثمانية وغيرها من دول الإسلام السالفة، كلها لديها أنظمة إدارية مرتبة من غير ديمقراطية.
فالنظام الإسلامي فيه آليات واجتهادات لعلماء الإسلام تصب في مصب أدلة الكتاب والسنة من غير نظر لآلية الديمقراطية لأنها تتصادم مع أحكام الدين.
الذي يؤلمنا أن بعض المسلمين يريد عن يعبر عن مفهومه للديمقراطية لا بمفهوم الديمقراطية الذي قامت عليه في عقر دارها، وبالتالي يعطي الجمهور معلومة خاطئة عن حقيقة الديمقراطية، ولا يدري هؤلاء بأنفسهم إلا وقد صاروا آداه للكافرين ولقمة سائغة للأعداء من غير شعور، وهذا ما وقع فيه بعض الإسلاميين والمثقفين من الأحزاب الأخرى الذين زلت ألسنتهم وأقلامهم بمدح الديمقراطية لآجل يغطوا بعض غلطاتهم أمام جمهورهم الذي تلقى كلامهم وكأنه الحقيقة.
عوداً إلى ذي بدء أقول الديمقراطية كما عرفها أهلها هي: أصل يوناني مكون من مقطعين احدهما demos وتعني الشعب والأخرى crates وتعني الحكم أو السلطة، لذا فمعناها عندهم: ” الشعب هو صاحب السلطة أو الشعب يحكم نفسه بنفسه.
إذن من التعريف يتبين لك أنها تشريع وضعي من خلاله يختار الشعب حاكمه وأحكامه التشريعية التي تحل ما تراه وتحرم ما تراه، ولذا قلت سابقاً : ” فالحلال والحرام في النظام الديمقراطي ما أحله وحرمه البرلمان”
ويؤكد تعريفها الذي قلناه ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام في إحدى خطبه: ” بأنها حكم الشعب بواسطة الشعب ومن أجل الشعب”.
والحاصل: أنها تشريع أو شكل من أشكال التشريع الذي يشارك فيه كل فرد من أفراد المجتمع بشكل دوري لاختيار الحاكم وممثليه في مجلس البرلمان الذي يسن القوانين والأحكام، وهذا خلاصة كلام أقطاب الديمقراطية كـــ : لورد برايس وسيلي وجون ستيوارت وغيرهم.
فافهموا الديمقراطية على حقيقتها يا أبناء الإسلام، وانتبهوا للأخطار التي تحوم حولكم.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم