بدعة الاحتفال بالمولد النبوي وبيان أول من ابتدعها
( ضمن سلسلة المواسم المبتدعة)
الحلقة (1)
للدكتور صادق بن محمد البيضاني
لقد شرَّع الفاطميون العبيديون الباطنيون، وهم : بنو عبيد بن ميمون القداح في القرن الرابع الهجري بالقاهرة بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، فكانوا : أول من أحدث [هذه البدعة] من خلال خلفائهم الفاطميين، "وأولهم المعز لدين الله، الذي توجه من المغرب إلى مصر في شوال سنة361هـ ، فوصل إلى ثغر الإسكندرية في شعبان سنة 362هـ ، ودخل القاهرة لسبع خلون من شهر رمضان ، فابتدعوا ستة موالد ... ، منها المولد النبوي"([1]).
وقال بعض أهل العلم: "[ إن هذه البدعة ظهرت في ] مطلع القرن السابع الهجري... وأول من ألف فيها مولداً [ على المشهور ] أبو الخطاب بن دحية ، سماه " التنوير في مولد البشير النذير"([2]).
وليس في هذين القولين إشكال في تاريخ النشأة ، إذ قد يكون بداية هذه البدعة في القرن الرابع الهجري، وأنها اشتهرت وبدأ فيها التأليف في مطلع القرن السابع الهجري.
وللأسف مع مرور الزمن تلقف كثير من أبناء الإسلام هذه البدعة نظراً للتعتيم العلمي، وقلة العلم ، وانتشار فرق الضلال ، وخصوصاً طوائف المتصوفة والشيعة الذين وافق هواهم وضلالهم، حتى صار الاحتفال به يوماً بهيجاً يحتفل به المسلمون على المستوى الدولي، فتُغْلق المدارس والمعاهد والجامعات والدوائر الرسمية ؛ احتفالاً بهذه الذكرى غير المشروعة، ظانين أن مثل هذه المناسبة قربةٌ يتقربون بها إلى الله، مع أنها بدعة لم يحتفل بمثلها رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولا صحابته الكرام، ولا القرون المفضلة الثلاثة، فشيئ لم يسع رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ولا صحابته الكرام، ولا القرون المفضلة الثلاثة، فكيف يسعنا؟؟! ونحن دونهم في العلم والإيمان، فسبحان مَنْ طمس على قلوب أهل الأهواء، أصحاب الطبول والشطح والرقص والغناء ، حتى أوهموا عامة المسلمين أن الاحتفال بالمولد شريعة ربانية.
ما يحدث في الاحتفال بالمولد من البدع والمنكرات والمخالفات:
المحتفلون بهذه البدعة يُظهرون كثيراً من البدع، والمنكرات، والمخالفات، وهي تختلف من مجتمع لآخر، فلا يطرد هذا، لا في كل البلاد، ولا في كل الموالد، ومن هذه المنكرات ما يلي:
اولا: اختلاط الرجال الأجانب بالنساء الأجنبيات.
ثانيا: الشطح - نوع من الرقص - والرقص، وضرب الدفوف، والتزمير بالمزامير.
ثالثا: حصول بعض الفجور من شرب الخمور، وخلوة بعض مشايخ الطرق الصوفية بالنساء.
رابعا: الأغاني باستعمال المعازف كالموسيقى.
خامسا: قراءة بعض القصائد الشركية.
سادسا: الاستغاثة بالرسول، والموتى، وطلب المدد، والغوث منهم.
سابعا: الترنح وميلان الجسوم بما يشبه الشخص الخامل.
ثامنا: قراءة موالد صاحب التنوير، والحريري، والبرعي، وغيرهم.
تاسعا: تخصيص ذلك اليوم بالصيام وكثرة الصلاة على الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، مع قيام ليله بنية أنها ليلة شريفة ومباركة.
عاشرا: توزيع الحلوى على الأطفال والنساء وهذه بدعة يفعلها النصارى في عيد ميلاد المسيح.
حادي عشر: إقامة المؤتمرات، والحفلات على الطرق الصوفية .
ونحوها من المخالفات التي لا يسع المقام بسطها.
حجج القائلين بهذه البدعة:
تمسك القائلون باستحباب هذه البدعة بعللٍ كثيرة واهية، كالآتي :
أولا: كونها ذكرى سنوية ، يتذكر فيها المسلمون نبيهم -عليه الصلاة والسلام- فيزداد حبهم ، وتعظيمهم له.
ثانيا: سماع بعض الشمائل المحمدية، ومعرفة النسب النبوي الشريف.
ثالثا: إظهار الفرح بولادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - لما يدل ذلك على حبه ، وكمال إيمانه به وعملاً بقوله تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا".
رابعا: إطعام الطعام وهو مأمور به ، وفيه أجر كبير لاسيما بنية الشكر لله – تعالى-.
خامسا : الاجتماع على ذكر الله – تعالى - ، من قراءة القرآن ، والصلاة على النبي - عليه الصلاة والسلام - " ([3]).
ثم قالوا: وهذه كلها من الدين، ومشروعة لأنها من الخير، فإحياؤها بدعة حسنة، وقد ورد في ذلك من الأدلة العمومية التي تدل على فعل الخير قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} ([4]).
وقالوا: قد صح عن عمر بن الخطاب من الأدلة أنه " خرج ليلةً في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع ([5]) متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ([6])، فقال عمر: إني أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثم خرج ليلةً أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر: نعم البدعة هذه " ([7]).
وقالوا جاء في الحديث: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده, من غير أن ينقص من أجورهم شيء" فالاحتفال بالمولد سنة حسنة.
وقالوا: إن ميلاد النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يوم الاثنين، وهو يوم عظيم، عظمه الإسلام بهذا المولد الشريف، حتى كان النبي عليه الصلاة والسلام يصومه، ويدعو الناس لصيامه ، وإذا كان كذلك فيوم ميلاده عيد للمسلمين، حتى جاء عنه - عليه الصلاة والسلام- أنه سئل :"عن صوم الاثنين؟، قال: ذاك يوم ولدت فيه ، ويوم بعثت ( أو أنزل علي فيه) " ([8]).
وتمسك بعضهم : بـ" ما رُوِي من أن أبا لهب الخاسر، رؤي في المنام، فسئل، فقال: إنه يعذب في النار ، إلا أنه يخفف عنه كل يوم اثنين، ويمص أصبعيه ماء بقدر هذا ، وأشار إلى رأس أصبعه، وأن ذلك كان بسبب إعتاقه جاريته ثويبة لما بشرته بولادة محمد - عليه الصلاة والسلام- لأخيه عبد الله بن عبد المطلب ، وبإرضاعها له -عليه الصلاة والسلام- " ([9])، ونحوها من الأدلة ، والترهات البعيدة عن الصراط المستقيم.
وأما الرد على هذه البدعة، والجواب على ما استدل به المبتدعة فهو كالتالي :
أولاً: أن هذه البدعة لم تكن معهودةً عند سلفنا الصالح، ولو كانت هذه الذكرى من الخير المشروع، لكانوا أسبق الناس إلى ذلك، فشيء ما فعلوه ، وما وسعهم فعله ، فكيف نفعله؟ والنبي- عليه الصلاة والسلام- يقول: "خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " ([10])، فأصحاب هذه القرون الثلاثة لم تر أنه بدعة مستحسنة، فكيف نستحسن ما لم يسحسنه الشرع؟!، ولم يقل به السلف الصالح، وهم أفهم وأسبق للخير منا، بل هم قبلتنا وقدوتنا في الاتباع، " ومن كان بِهذه المثابة حقيقٌ أن يتُخذَ قدوةً ، وتُجعل سيرته قبلةً ([11]).
وفي الحديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ([12]).
قال الإمام مالك "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنةً، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة ؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " فما لم يكن يومئذ ديناً ، فلا يكون اليوم ديناً} ([13]).
وعن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنةً" ([14]).
فقول المبتدعة: "إنهم يتذكرون في مثل هذه المناسبة نبيهم - عليه الصلاة والسلام- فيزداد حبهم ، وتعظيمهم له " هراء ما أنزل الله به من سلطان ، لأن حب النبي - عليه الصلاة والسلام- يوجب اتباعه ، والاتباع يستلزم منه تعظيمه في حدود الشرع من غير إطراء كما قال عبد الله بن المبارك :
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لأَطَعتَهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
وقد شرط الله لمحبته متابعة رسوله -عليه الصلاة والسلام- فقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ([15]).
وعمل هذه البدعة تفيد أن محبتهم مجرد دعوى، فلو كانوا يحبونه كما يزعمون لاستنوا بسنته وما ابتدعوا البدع التي ليست من دين الله، لأن الآية بينت أن شرط المحبة اتباع الرسول - عليه الصلاة والسلام-ٍ.
ثانياً: قولهم: نحتفل لأجل " سماع بعض الشمائل المحمدية، ومعرفة النسب النبوي الشريف " فالجواب: أن معرفة الشمائل المحمدية، ومعرفة النسب النبوي الشريف ، تُعرف من خلال قراءة كتب السنة المحمدية، وطلب العلم، لا من الموالد المبتدعة التي يترنم بها المنشدون ، ثم الواقع خلاف ذلك ، فلو جئنا بعامي يحضر مجالسهم، لأظهر لنا جهله بما يسمع منهم ؛ لأنهم إذا قرأوا شيئاً من ذلك فلا يكادون يفصحون ، ثم هذه الشمائل التي يسوقونها في الموالد ، كثير منها من الموضوعات، والحكايات الباطلة، كما عهدناه عنهم من خلال حضورنا مجالسهم قبل معرفة السنة الغراء ، فالحمد لله على نعمة العلم والسنة.
ثالثاً : قولهم: " إظهار الفرح بولادة الرسول عليه الصلاة والسلام " وعملاً بقوله تعالى : " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا".
فالجواب : لماذا لم يُظْهِر هذا الفرح بهذه الهيئة من سبقنا من صحابة النبي - عليه الصلاة والسلام- ؟! أهؤلاء المتصوفة أحب لرسول الله - عليه الصلاة والسلام- من صحابته الكرام ، إنها شبهة شيطانية رانت على قلوبهم، فأصبحت كالكوز مجخياً لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً إلا ما أشرب من هواها.
وأما قوله تعالى : " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا"" فجوابه : يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية (4/ 275): "بهذا جاءهم من الله من الهدى ودين الحق ، فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به" اهـ
قلت : فهذه الآية دالة على فرحة المسلمين بدين الحق والهدى وكل شئ مشروع مما هو رحمة من الله وفضل بشرط ألا يتصادم مع أدلة الشرع المطهر، فهي في علم الأصول من الأدلة المطلقة التي تقيد بغيرها مما جاءت به النصوص أو ما لم يخالف الشرع، ومما هو معلوم أن الاحتفال بذكرى المولد بدعة مخصصة أو مقيدة بلا دليل شرعي، بل ومخالفة للشرع لكونها مناسبة دينية محدثة، وقد اشتملت هذه البدعة على شيئين لا دليل عليهما الأول : الفرحة المخصصة في زمن مخصص، والثاني : الاحتفال البدعي.
رابعاً : قولهم: " إطعام الطعام وهو مأمور به ، وفيه أجر كبير لا سيما بنية الشكر لله – تعالى- ".
فالجواب: أن إطعام الطعام للمساكين، والفقراء، وللضيف، من الأمور التي رغّب فيها الشرع في كل وقت ، وليست مخصصة في وقت دون وقت ، وهؤلاء قد خصصوه بمثل هذه المناسبة من غير دليل ، فواقعهم خلاف كونه مشرعاً أو كونه شكراً لله ، إذ يمكن فعله من غير تخصيصه بزمن لا دليل عليه.
خامساً : قولهم : الاجتماع على ذكر الله – تعالى- ، من قراءة القرآن ، والصلاة على النبي - عليه الصلاة والسلام-.
فالجواب: أنه ما ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام- وأصحابه الكرام مثل هذه الاجتماعات وهذا الزمن المخصص التي تُقام فيها هذه الأذكار الجماعية ، من قراءة القرآن ، والصلاة على النبي - عليه الصلاة والسلام- ، ولو كان هذا مستحباً لسبقونا إليه ، وفي الحديث "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ " ([16])، وقوله: "عضوا عليها بالنواجذ " كناية عن التمسك بها ، من غير زيادة، أو نقصان؛ فإن من زاد فقد تعدى، وأساء، وظلم.
سادساً : احتجاجهم بقوله تعالى: "وَافْعَلُوا الْخَيْرَ" احتجاج في غير موضعه ؛ لأن هذا من الأدلة العامة التي خصصتها الأدلة الأخرى، حيث جاء في الكتاب والسنة ذكر الخير، وأنواعه، ومواطنه، إما تخصيصاً أو تقييداً ، ولو كانت الآية على عمومها في جميع الأحوال، لما نهانا الشرع عن بعض الأذكار في بعض المواطن، ولكان جائزاً للشخص أن يقرأ بفاتحة الكتاب أثناء ركوعه، وسجوده، بدلاً من الأذكار المخصصة، والقاعدة في هذا الباب أن " الدليل لا يحتمل إلا مراده " وقد نزل على نبيه - عليه الصلاة والسلام- ما يمنعه من الزيادة في الدين، أو التوسع فيه إلا ما قام به الدليل، ومن ذلك قولــه تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9)} ([17]).
سابعاً: أن ما جاء عن عمر أنه جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح ، وقال: " نعم البدعة هذه " فالجواب من جهتين:
الأولى: أنه جمعهم على أمر مشروع، سَنَّهُ النبي - عليه الصلاة والسلام- في حياته ، تقول عائشة :" أن رسول الله – عليه الصلاة والسلام - خرج ذات ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله – عليه الصلاة والسلام - فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها"([18]).
فالتراويح سنة كانت على حياة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد علل النبي - عليه الصلاة والسلام- عدم خروجه في الليالي التي غاب عنها بقوله:ٍ " خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها " ، وهذا دليل واضح وجلي على سنيتها.
الجهة الثانية: أن قول عمر "نعم البدعة هذه " يفيد معنيين :
الأول: بمعنى الاستحسان الذي شرعه الله لحديث عائشة السابق.
الثاني: أنها كلمة في مقام الرد بالضد ، وهذا من صيغ العرب ، والتقدير: إن كانت بدعة في نظركم ، فلتكن كذلك ـ أي ـ عند من أنكرها مع أنها مشروعة،ٍ لوجود ما يدل على أن بعضهم أنكر عليه هذا الجمع، ولذا من أنكر عليه لم يخالفه بعدها ومضت الأمة على ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: "والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة" ([19]) يعني صلاة التراويح في المسجد جماعة على إمام واحد.
ثامناً: قولهم: "إن ميلاد النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يوم الاثنين ، وهو يوم عظيم عظمه الإسلام بهذا المولد الشريف .. فنحن نعظمه بهذا الاحتفال" هذا كلام مردود لبدعيته ، ولما اشتمل عليه من الإطراء من خلال المدائح المبالغ فيها ، ولكونه من التشبه باليهود والنصارى في أعيادهم ، وفي الحديث " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله " ([20]).
تاسعاً: أن استدلالهم بالرؤيا المنامية مردود من جهتين :
الأولى: أنه لم يثبت سندها.
الثانية: أنه لو ثبت سندها لما كانت حجة ؛ لأن الشرع لا يؤخذ من المنامات ، ولكن من الكتاب والسنة.
وأما استدلالهم بقوله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً .." إلى آخره فله سبب ودافع, وهذا الدافع يوضح لنا أن المقصود من الحديث من أحيا السنن وليس من اخترع وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله .
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث جرير – رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالًا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: "يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ " إلى آخر الآية "إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً".
والآية التي في الحشر : "اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ".
ثم قال : " تَصَدَّقَ رجل من ديناره, من درهمه, من ثوبه, من صاع بره, من صاع تمره"، حتى قال : "ولو بشق تمرة ".
قال فجاء رجل من الأنصار بِصُرَّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت.
قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مُذْهَبَةٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ".
فسبب الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام حسَّ بفاقة القوم وفقرهم فدعا إلى التصدق في زمن كثر فيه الفقر وقل فيه المال فتهلل وجهه لما رأى. الزكوات والصدقات قد تجمعت أمامه فرأى أن هؤلاء المتصدقين قد سنوا سنة حسنة بفعلهم هذا في وقت قل فيه المال فكأنهم أحيوا هذا الفعل في وقت حاجته فقال مقولته المشهورة الآنفة الذكر .
ومن التأكيدات أيضاً في انكار البدع التي لا دليل عليها ولو كانت حسنة في نظر المبتدعة قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين : "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديّ تَعْرِفُ منهم وتُنْكِر".
وأختم قولي بمثال جلي يدركه عامة الناس في أوضح صورة وأبلغ سياق في لزوم السنة والحذر من البدع وإن كانت البدعة في نظر البعض لا تضر في الدين .
وهذا يتضح تمام الاتضاح فيما أخرجه الشيخان من حديث البراء بن عازب – رضي الله عنه - قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام : "إذا أويت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: "اللهم أسلمت وجهي إليك إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك, اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به"
قال: فرددتها على النبي عليه الصلاة والسلام فلما بلغت "اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت".
قلت: ورسولك قال: "لا ونبيك الذي أرسلت" فإنكار النبي عليه الصلاة والسلام اللفظ غير المسنون والذي تلفظ به البراء عن غير قصد الابتداع يدل على خطر ما هو أعظم من ذلك كإضافة الأحكام غير شرعية إلى الشرع وحمل الناس عليها بنية التعبد وليس لها أصل في الشريعة مع أن قول البراء ورسولك لا يعارض الواقع لأن نبينا رسول بل خاتم المرسلين ومع ذلك قال له النبي عليه الصلاة والسلام : "لا".
قال الفاكهاني: "لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة، أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكَّالون" ([21]).
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
_______________
([1]) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري (2/ 457).
([2]) أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام للشيخ محمد بخيت المطيعي ) ص44) .
([3]) الإنصاف فيما قيل في الموالد من الغلو والإجحاف للشيخ جابر بن موسى " أبو بكر الجزائري" (ص364).
([4]) سورة الحج ، الآية رقم (77).
([5]) جماعات.
([6]) من ثلاثة إلى عشرة.
([7]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (2/ 707 رقم 1906)] من رواية عبد الرحمن بن عبد القاري - وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبد الله بن الأرقم على بيت المال.
([8]) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب الصيام، باب استحباب ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس (2/ 818 رقم 1162)].
([9]) الإنصاف فيما قيل في الموالد من الغلو والإجحاف للجزائري (ص368).
([10]) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب الشهادات، باب لا يشهد على جور إذا أشهد(3/ 938 رقم 1335)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم(4/ 1963 رقم 2533)] من حديث ابن مسعود.
([11]) الموافقات للشاطبي (4/ 80).
([12]) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا جور فالصلح مرود (2/ 959 رقم 2550)، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/ 1343 رقم 1718)] من حديث عائشة.
([13]) الاعتصام للشاطبي (1/ 49).
([14]) الإبانة لابن بطة (1/339).
([15]) سورة آل عمران، الآية رقم (31).
([16]) أخرجه أبو داود في سننه [كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4/ 200 رقم 4607)] من حديث العرباض بن سارية.
([17]) سورة الأحقاف ، الآية رقم (9).
([18]) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد(1/ 313 رقم 882)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح(1/ 524 رقم 761)]. من حديث عائشة.
([19]) فتح الباري لابن حجر (4/ 253).
([20]) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب الأنبياء ، باب "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها "، (3/ 1271 رقم 3261)] من حديث ابن عباس.
([21]) المورد في عمل المولد للفاكهاني (1/ 8ـ9).