الفتوى بغير علم والرد على الدعي ناصر اليماني في إنكار عذاب القبر
مناقشة البيان الثاني – اللقاء الثاني
الحلقة (15)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
هذا هو اللقاء الثاني في مناقشة البيان الثاني للدعي ناصر القردعي.
يقول ناصر: " وأنا المهديّ المنتظَر الحقّ الإمام ناصر محمد اليماني أفتي بما يلي:" اهـ
وأقول وبالله التوفيق: أما أنك المهدي الحق فهذا كذب مكرر، وقد سئم العقلاء ممن قرأ بياناتك كثرة تكراره، وقد بينت بطلان مهديتك من خلال الحلقات رقم ( 9 و 14) من هذه الدراسة، فأغناني عن التكرار.
وأما أنك إمام فالجواب: أنك إمام جهل وضلال وهوى، وليس لك سابقة علم، بل دجال من الدجالة، وكما يقال "الإمام يمدحه عمله والصالحون شهود" وليس لك عمل صالح ممدوح، ولا صالحون يشهدون لك بذلك، بل كل علماء الاسلام اليوم وطلاب العلم والصالحين وعقلاء العوام ممن عرفك أو قرأ لك قال فيك: دجال وكذاب أشر".
وأما قولك: " أفتي بما يلي " فالجواب: من أنت حتى تفتي يا ناصر؟!!!
أخرج الخطيب البغدادي بسنده في كتابه الفقيه والمتفقه (2/ 235): أن مالِك بن أنَس قال: "ما أفتيت حتى شهد لي سبعون (يعني من العلماء) أني أهل لذلك "اهـ
فمن شهد لك بأن تكون مفتياً يا ناصر؟؟!! وخصوصاً أنك عامي ولم تطلب العلم.
يقول العلامة الرازي في المحصول (6/81): "اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن من يفتيه من أهل الاجتهاد، ومن أهل الورع ...، واتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالم ولا متدين" اهـ
يا ناصر: إن للفتوى شروطاً، أهمها ما يلي:
الشرط الأول، الاسلام: فهل طعوناتك في الدين والقرآن والسنة، وادعاؤك علم الغيب، وكذبك على رسول الله متعمداً، والتقول على الله أبقت لك مسمى الإسلام أم أنك قد خرجت من الدين كله؟!!!
قال ابن سيرين ـ رحمه الله كما في مقدمة صحيح مسلم: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" اهـ
فهل نأخذ الدين وأحكامه منك يا ناصر، وقد مرقت من الاسلام مروق السهم من الرمية؟
الشرط الثاني والثالث: التكليف والعلم، وأنت عامي ودجال ودعي، ولا علم لك.
الشرط الرابع: العدالة بمعنى أنك على الصراط المستقيم وصاحب صدق.
وهذا الشرط معدوم عندك باتفاق كل من عرفك أو علم بك من علماء الاسلام، بل مشهود لك بالفسق والضلال لكونك خرجت عن طاعة الله بمعصية الله والطعن في شريعته.
قال الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (2/ 230):" علماء المسلمين لم يختلفوا في أن الفاسق غير مقبول الفتوى في أحكام الدين وإن كان بصيراً بها " اهـ.
فما بالكم بناصر وليس بصيراً بها؟!!!!
الشرط الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر: الورع، والعفة، والتأني في الفتيا، ورصانة الفكر، واستشارة غيره من أهل العلم، وشهادة أهل العلم له بالفتيا.
وهذه كلها لا وجود لها عند ناصر، فبمَ علوت على العوام يا ناصر؟!! بل العوام خير منك ورعاً وعفة وتأنياً، وليس لهم ارتباط لا بجهات استخباراتية ولا مشبوهة على حساب الدين.
يقول ناصر: في أول فتوى له في بيانه الثاني: " أولاً: في شأن عقيدتكم في عذاب القبر أنه في حُفرة الجسد فأنكر ذلك جُملةً وتفصيلاً، ولم ينزل الله في ذلك من سُلطان في القرآن العظيم، بل ينفيه القرآن ويؤكد العذاب من بعد الموت للمجرمين منكم على الروح في النار من دون الجسد في الحياة البرزخيّة إلى يوم يبعثون". اهـ
وأقول : لم يذكر الدعي ناصر القردعي في هذا البيان أي دليل على انكاره لعذاب القبر سوى أنه أفتى بأنه لا عذاب في القبر لكنه ذكر كلاماً طويلاً وساق أدلة من القرآن في انكار عذاب القبر في بيان آخر، وسيأتي مناقشة أدلته إن شاء الله عند وقوفنا عليها في موضعها من البيان الآخر الذي هو عبارة عن مقال هزيل لا يرتقي إلى مستوى الرد الانكاري العلمي القائم على الأدلة الشرعية حيث يخبط الكلمات خبط عشواء ويكررها كثيراً، ويضرب الأدلة من القرآن بعضها ببعض، ويسوقها في غير موضعها، ويفسرها على هواه، ويستنبط من بعض الآيات ما لم يسبق له من الدجل والضلال، ويسمي أحاديث النبي في سعة قبر المؤمن مد البصر بحديث الشيطان قاتله الله، ويقول كيف يكون طول القبر سبعين ذراعا والقبر صغير او ضيق، محكما في ذلك عقله البشري القاصر لكونه جاهلا بالشرع وأدلته، ولا يعلم ان الحياة البرزخية من أمور الغيب إلا ما ورد فيه الدليل، وان التوسعة لقبر المؤمن في عالم غير مشاهد لنا في الدنيا، ظناً منه أن كل من يقرأ له جاهل مثله ومغفل لا يفهم كمن تبعه وصدقه على جهل أو بسبب مس أو مرض نفسي، وعلى كل حال فأنا أناقش كلامه سياقاً سياقاً حسب كل بيان على حده، فلا استبق الأحداث وسأنقل لكم ما قاله هنالك عندما نصل له ثم أحيل الرد إلى هذا الموضع كي لا يتكرر الكلام والرد.
ولذا أقول بإيجاز رداً على انكاره لعذاب القبر ما يأتي:
القبر منزل الموتى، وفيه يُسْألُ الشخص عن ربه، ونبيه، ودينه.
فَمَنْ حَسُنَ جوابُه أَمِنَ العذاب، وصار قبره روضةٌ من رياض الجنة، ومَنْ لم يُحسن الجواب فقبره حفرةٌ مِنْ حفر النار.
وأهل السنة والجماعة يوجبون الايمان بفتنة القبر وبعذابه ونعيمه، ويؤمنون أنهما (أعني النعيم والعذاب) يلحقان الروح والبدن معاً.
وقد أنكر الفلاسفة والمعتزلة سؤال القبر، ونعيمه، وعذابه بحجة أن العقل لا يُثْبِتُ مثل ذلك.
وهذا باطل لا يُلتفتُ إليه، إذ العقل لا يدرك كل شيء، وإن أدرك شيئاً فلا يدرك التشريع برمته.
لأن الشرع أمرٌ تعبدي لا دخل للعقل فيه، فهو كتاب وسنة وهما منزلان من عند الله وحده، ولو كان للعقل قوة التشريع لكان له نصيب من ذلك ولكن هذا محال اتفاقاً.
وقد وردت أدلة كثيرة في الكتاب والسنة تثبت الحياة البرزخية وما في القبر وما يحصل فيه من النعيم أو العذاب، واثبات ذلك من ثلاث جهات:
الجهة الأولى، الأدلة من القرآن:
الدليل الأول: قال الله تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ".
فهذه الآيات تثبت أن الشهداء أحياء منذ مقتلهم وأنهم يتنعمون في قبورهم، بخلاف غيرهم من الفاسقين والكافرين، ويؤكد ذلك ما ثبت عند الامام أحمد في مسنده من حديث عائشة قالت: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقتلى أن يطرحوا في القليب، فطرحوا فيه ... فلما ألقاهم في القليب وقف عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا"، فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟ قال فقال لهم: "لقد علموا أن ما وعدتهم حق"، قالت عائشة: والناس يقولون لقد سمعوا ما قلت لهم وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد علموا".
فخطاب النبي عليه الصلاة والسلام لأصحاب القبور دليل على أنهم قد لقوا فيها ما وعد الله به، وهذا تفسير للآية المتقدمة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: " النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ([1]) غُدُوّاً وَعَشِيّاً ([2]) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ"([3]).
قال ابن كثير في تفسيره (4 / 82): "وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور" اهـ
الدليل الثالث: قوله تعالى: "مِمَّا ([4]) خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً" ([5]).
قال ابن كثير في تفسيره (8/236): "نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار" اهـ يعني نار القبر.
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وغيره لما فاتت النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه صلاة العصر يوم الخندق قال " ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً، كما حبسونا عن صلاة الوسطى".
وهذا دليل صريح أن النار في الآية هي نار القبر.
قال ابن القيم كما في كتابه الروح (ص58):" ومما ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحقٌ للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، فلو أكلته السباع، أو أُحْرق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صُلب، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور" اهـ
الجهة الثانية، الأدلة من السنة على إثبات نعيم وعذاب القبر: وهي أكثر مما أن تحصى، ومن ذلك:
الأول : ما أخرجه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا ([6]) إلى القبر، ولمَّا ([7]) يُلْحَد ([8]) فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير ([9])، وفي يده عُودٌ ينكت ([10]) به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، وقال: وإنه ليسمع خَفْقَ ([11]) نعالهم إذا ولوا مدبرين ([12]) حين يقال له: يا هذا مَنْ ربك ؟، وما دينك؟، ومن نبيك؟ قال: ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: مَنْ ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم ([13]) ؟ فيقول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: وما يدريك ([14])؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به، وصدقت.
فذلك قول الله عز وجل: "يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ"([15])، قال: فينادي منادٍ من السماء أنْ قد صدق عبدي فأفرشوه ([16]) من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، وألبسوه من الجنة، قال: فيأتيه مِن رَوْحِها ([17]) وطيبها ([18]).
قال: ويُفتح له فيها مد ([19]) بصره، قال: وإن الكافر فذكر موته، قال: وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه ([20]) لا أدري، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء أنْ كذب فافرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، قال : فيأتيه من حَرِّها وسَمُومِها ([21]).
قال: ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ([22])، قال : ثم يقيض ([23]) له أعمى ([24]) أبكم معه مِرْزَبَّة ([25]) من حديد ، لو ضُرِب بها جبل لصار تراباً، قال : فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين ، فيصير تراباً، قال : ثم تعاد فيه الروح.
وللحديث ألفاظ وزيادات متفاوتة، وهو حديث صحيح.
الثاني: جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان، فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ -لمحمد- فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما، ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون. وأما الكافر أو المنافق فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه".
الثالث: أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل، فيقول: ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون قولاً فقلت مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك".
الرابع: أخرج أحمد من حديث عائشة بسند حسن: "فإذا كان الرجل الصالح أجلس في قبره غير فزع، وإذا كان الرجل السوء أجلس في قبره فزعاً"
الخامس: في كل صلاة بعد التشهد الأخير علمنا النبي عليه الصلاة والسلام الاستعادة من عذاب القبر، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وعذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال"، وفي لفظ لمسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع.." وذكره.
السادس: أخرج مسلم في صحيحه من حديث زيد بن ثابت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "تعوذوا بالله من عذاب القبر، قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر".
السابع: جاء في الحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين [جديدين] فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ بلى إنه كبير، أما أحدهما؛ فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر؛ فكان لا يستتر من بوله ".
وأحاديث كثيرة يطول بسطها تثبت عذاب القبر ونعيمه بالتواتر.
الجهة الثالثة، الأدلة من الواقع المشاهد:
لقد نبشت بعض القبور بعد موت بعض الناس بيوم وأكثر لسبب أو لأخر، وظهر على بعض أجساد الموتى ما يفيد النعيم وخصوصاً من كان منهم صالحاً، وبعضها ظهر عليه أثر الحروق والعذاب، مما يؤكد ما نحن بصدده، وقد تطرق أهل العلم في كتبهم لكثير مما شاهدوه ولمسوه في أزمنتهم، وقد حصل في زماننا ما يؤكد ذلك أيضاً:
قال ابن رجب رجمه الله في كتابه أهوال القبور (ص16) بعد أن ذكر أحاديث عذاب القبر ونعيمه: "وقد أطلع الله من شاء من عباده على كثير مما ورد في هذه الأحاديث حتى سمعوه وشاهدوه عيانا ونحن نذكر بعض ما بلغنا من ذلك" اهـ، ثم ذكر من القصص جملة تؤكد عذاب القبر ونعيمه في الواقع.
وذكر السيوطي عن المقريزي أنه قَدِمَ في سنة 697 البريدُ بأن رجلاً من الساحل قد ماتت امرأته فدفنها، وعاد فذكر أنه نسي في القبر منديلاً فيه مبلغ دراهم، فأخذ فقيه القرية، ونبش القبر؛ ليأخذ المال، والفقيه على شفير القبر، فإذا المرأة جالسة مكتوفة بشعرها، ورجلاها قد ربطتا بشعرها، فحاول حل كتافها؛ فلم يقدر، فأخذ يُجهد نفسه في ذلك فَخُسِفَ به وبالمرأة، حيث لم يُعلم لهما خبر، فغشي على الفقيه مدة يوم وليلة، فبعث السلطان بخبر هذه الحادثة إلى الناس؛ ليعتبروا بذلك.
وأخرج ناصر السنة ابن الجوزي رحمه الله عن عبد الله بن محمد الديني عن صديق له، أنه خرج إلى ضَيْعَةٍ له، قال: فأدركتني صلاة المغرب إلى جنب مقبرة، فصليت المغرب قريبًا منها، فبينما أنا جالس إذ سمعت من ناحية القبور صوت أنين، فدنوت إلى القبر الذي سمعت منه الأنين، وهو يقول: أَوه! قد كنت أصلي، قد كنت أصوم. فأصابتني قشعريرة فدنا من حضرني، فسمع مثل ما سمعت، ومضيت إلى ضيعتي ورجعت في اليوم الثاني، فوصلت موضعي الأول، وصبرت حتى غابت الشمس، وصليت المغرب، ثم استمعت إلى ذلك القبر، فإذا هو يئن يقول: أوه! قد كنت أصلي، قد كنت أصوم. فرجعت إلى منزلي وحُمِمْتُ، فمكثت شهرين محمومًا. - وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمرو بن دينار قال: كان رجل من أهل المدينة له أخت فماتت، ورجع إلى أهله، فذكر أنه نسي كيسًا كان معه في القبر، فاستعان برجل من أصحابه، فأتيا القبر فنبشاه؛ فوجد الكيس، فقال للرجل: تنح حتى أنظر إلى حال أختي، فرفع بعض ما على اللحد، فإذا القبر يشتعل نارًا، فرده وسَوَّى القبر ورجع إلى أمه، فسألها عن حال أخته. فقالت: كانت تؤخر الصلاة ولا تصلي -فيما أظن بوضوء-، وتأتي أبواب الجيران إذا ناموا، فَتُلْقِمُ أذنها أبوابهم فَتُخْرِجُ حديثهم" ([26]).
وقد وقفت على حادثة في مقبرة أعرفها قبل 20 سنة باليمن حيث كانت نار تخرج من قبر رجل عاصي ليلاً ثم تنطفي، وقد تكررت مرات.
ولو تابع الناس أخبار الموتى وزاروا المقابر والتقوا بالحفارين الذين ينامون بالقرب من سور المقابر وكذلك حراسها لحدثوهم بكثير من القصص التي شاهدوها وسمعوها من بعض القبور، مما يؤكد في الواقع المشاهد ما يكون للصالحين من النعيم، وما يحصل لغيرهم من العقاب الأليم وهم في قبورهم.
ولتمام الفائدة أقول: عذاب القبر ضربان:
الأول: دائم، وهذا عذاب الكافر لقوله تعالى: "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ"([27]).
الثاني: منقطع، وهذا خاص ببعض العصاة من المسلمين فينقطع متى شاء الله، إما لكون ما عُذِّبَ بسببه قد كَفَى حسبْ جرمه الذي يكون حسابه بالقبر، وإما أن يُرْفع عنه لدعاء أو صدقة ونحوهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (4/262): "وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ما بين الموت إلى يوم القيامة: هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة والجماعة، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع "اهـ
وقال رحمه الله أيضاً في المصدر السابق (4/282): "العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما يكون للروح مفردة عن البدن" اهـ
أكتفي بهذا، وقد أطلت عليكم، وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
([1]) يحرقون فيتألمون.
([2]) صباحاً ومساءً، الغدو: أول النهار ما بين صلاة الغداة وهي الفجر إلى طلوع الشمس، والعشي: من صلاة الظهر أي بعد الزوال إلى صلاة المغرب فتبدأ عشوة الليل أي ظلمته أو إلى صلاة الصبح فتنتهي.
([3]) سورة غافر، الآية رقم (46).
([4]) بسبب.
([5]) سورة نوح، الآية رقم (25).
([6]) وصلنا.
([7]) جازمة بمعنى لم.
([8]) يحفر ويقطع ويُعمل شق في جانبه.
([9]) كناية عن غاية السكون أي لا يتحرك منا أحد توقيراً لمجلسه صلى الله عليه وسلم.
([10]) يضرب بطرفه الأرض وذلك فعل المفكر المهموم.
([11]) صوت.
([12]) تركوه راجعين.
([13]) ما اعتقادك في الرجل الذي جاء فيكم يقول إنه نبي.
([14]) أي شيء أخبرك وأعلمك بما تقول.
([15]) سورة إبراهيم، الآية رقم (27).
([16]) ابسطوا له بساطاً.
([17]) الراحة والنسيم.
([18]) عطرها.
([19]) منتهى.
([20]) كلمة يقولها المتحير الذي لا يقدر من حيرته للخوف أو لعدم الفصاحة أن يستعمل لسانه في فيه (لا أدري) أي شيء أو ما أجيب به وهذا كأنه بيان لقوله هاه هاه، وقد تقدم بيان هاه هاه من الناحية اللغوية.
([21]) تأثيرها وريحها الحارة.
([22]) جمع ضلع، وهو عظم الجنب أي حتى يدخل بعضها في بعض من الشدة والتضييق والضغطة.
([23]) يسلط ويوكل.
([24]) كيلا يرحم.
([25]) المطرقة الكبيرة.
([26]) راجع "قصة واقعية تدل على عذاب القبر" للشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل.
(