الثلاثاء 2 جمادى الآخرة 1446 هـ || الموافق 3 دجنبر 2024 م


قائمة الأقسام   ||    الدفاع عن السنة المطهرة وشبهات الطاعنين فيها وفي رجالها    ||    عدد المشاهدات: 6875

مراحل تدوين السنة وعلومها
(ضمن سلسلة الدفاع عن السنة المطهرة وشبهات الطاعنين فيها وفي رجالها)
الحلقة (2)
بفلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني

لقد كان الناس على عهد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يتلقون الأحاديث منه مباشرةً ، وكان الصحابة آنذاك فريقين قوم يحفظونه عن ظهر قلب وهم الأكثر ، وآخرون يكتبونه ويدونونه في الصحف.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه (كتاب الزهد والرقائق ، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم (4/ 2298 رقم 3004)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه".

قال القاضي [ عياض ]: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف ، واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي ، فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب وتحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث :" اكتبوا لأبي شاة" ، وحديث صحيفة علي -رضي الله عنه-، وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات ، وحديث كتاب الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر -رضي الله عنه- أنساً -رضي الله عنه- حين وجهه إلى البحرين ، وحديث أبي هريرة: "أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب " وغير ذلك من الأحاديث، وقيل إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة ، وقيل : إنما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ"([1]) اهـ.

ولما مات -عليه الصلاة والسلام- ظل الناس يتناقلونه جيلاً بعد جيل بهاتين الطريقتين حتى ظهرت مدرسة الرأي وبدأ الكذب يظهر في حديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من ضعاف النفوس والمندسين في صفوف المسلمين فخشي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من خطر ذلك فدعا إلى تدوين الحديث النبوي وجمعه في كتاب أو كتب مستقلة ، فتصدر لذلك رجلان حافظان هما أبو بكر ابن حزم ، ومحمد بن مسلم الزهري ، وكان الظفر في هذا الميدان للزهري وذلك في بداية المائة الثانية.

ثم تسابق المحدثون في هذا القرن إلى تدوين كل ما وقفوا عليه من الأحاديث والآثار دون أن يفردوا الأحاديث على حده، بل جمعوا الحديث ممزوجاً بأقوال الصحابة والتابعين.
فظهر في هذا القرن الإمام عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري المتوفى سنة 155هـ وكتابه يُعد بعد كتاب الزهري أول مصنف في علم الحديث واسمه "السنن" ، ثم تلاهما ربيع بن صبيح السعدي البصري من أتباع التابعين المتوفى سنة 160هـ ، ثم صنف سفيان بن عيينة ومالك بن أنس بالمدينة المنورة ، وعبد الله بن وهب بمصر ، ومعمر وعبد الرزاق باليمن ، وسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة ، وحماد بن سلمة وروح بن عبادة بالبصرة ، وهشيم بواسط ، وعبد الله بن مبارك بخراسان.

وكان مطمح نظرهم ومطرح بصرهم بالتدوين ضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما ، ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما كغريب الحديث والناسخ والمنسوخ والجرح والتعديل ونحوها .

وفي أوائل القرن الثالث : ظهرت فكرة تجريد الحديث الصحيح وإفراده بالتدوين.
فظهر شيخ الإسلام وحسنة الأيام محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هجرية، فألف كتابه الموسوم بـ " الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه" في الحديث الصحيح المجرد، وهو أول من ألف في ذلك ، ثم تلاه تلميذه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري المتوفى سنة 261هجرية - فألف كتابه الصحيح حيث حذا فيه حذو البخاري ، ثم تسابق العلماء فأفردوا كتباً كثيرة في الأحاديث وأخرى في الآثار.

ولما جاء القرن الرابع غلب على أعلامه تهذيب تلك الكتب
المؤلفة وتبويبها والاعتناء بها وجمع ما اشتملت عليه من الأحكام والفوائد ونحو ذلك.

ويظهر أن مرحلة تدوين أصول الحديث انتهت بنهاية هذا القرن.

وفي هذا القرن بدأ الاهتمام بوضع قواعد مصطلح الحديث فظهر شيخ الإسلام القاضي أبو محمد الرامهرمزي المتوفى عام 360هجرية وألف فيه كتابه : المحدث الفاصل بين الراوي والواعي.

قال الحافظ ابن حجر : " لكنه لم يستوعب ، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري لكنه لم يهذب ولم يرتب ، وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل على كتابه مستخرجاً ، وأبقى أشياء للمتعقب، ثم جاء الخطيب أبو بكر البغدادي فصنف في قوانين الراوية كتاباً سماه " الكفاية " وفي آدابها كتابه " الجامع لآداب الشيخ والسامع " وقلَّ فن من فنون الحديث إلا وقد صنَّف فيه كتاباً مفرداً ، ثم جاء بعض من تأخر عن الخطيب فأخذ من هذا العلم بنصيب فجمع القاضي عياض كتاباً لطيفاً سماه " الإلماع إلى أصول الرواية والسماع " ، وأبو حفص الميَّانجي جزءً سماه " ما لا يسع المحدث جهله " إلى غير ذلك من التصانيف التي اشتهرت وبُسِطت واخْتُصِرت إلى أن جاء الحافظ الفقيه تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح عبد الرحمن الشهرزوري نزيل دمشق فجمع لمَّا وَلِي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية كتابه المشهور " المقدمة" فهذب فنونه وأملاه شيئاً بعد شيء ، فلهذا لم يتناسب وضعه ، واعتنى بتصانيف الخطيب المتفرقة فجمع في كتابه ما تفرق في غيره ، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره ما بين ناظم له ومختصر ومستدرك عليه ومنتصر ومعارض له ومقتصر"([2]).

إلى أن جاء الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني المصري فلخَّص المهم من هذا الاصطلاح مما جمعه في كتابه الحافظ ابن الصلاح مع فرائد ضُمَّتْ إليه وفوائد زيدت عليه في أوراق قليلة هي في نفسها جليلة سماها " نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر" ثم شرحها بكتاب سماه " نزهة النظر " ، كما ألف كتاب " النكت على مقدمة ابن الصلاح" وكتباً أخرى في الطبقات والرجال والشروح واهتم اهتماماً بالغاً بعلوم الحديث حتى صار الناس عيالاً عليه في هذه الصناعة إلى يومنا هذا.

وبهذه المقدمة التاريخية الموجزة يتبين أن مراحل تدوين الحديث أو علم الحديث روايةً متقدمة عن مراحل علم الحديث دراية.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.

________________
([1]) أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي ، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الطبعة الثانية ، 1392هـ (18/ 129).
([2]) ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني ، نزهة النظر شرح نخبة الفكر ، مكتبة طيبة ، المدينة ، الطبعة الأولى ، 1404هـ ، (ص16،17) بتصرف.




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام