الديمقراطية والتحالفات العربية مع أمريكا
( ضمن موضوع دراسات شرعية واقعية في الديمقراطية وأصول الأحزاب السياسية)
الحلقة (11)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
في اللقاء السابق تحدثنا عن صلاحية الرؤساء الأمريكان كحكام لأمريكا، وقلنا هي : “محدودة، فلا يقطع في قضايا السياسات المصيرية حتى يراجع من يحكم أمريكا من وراء الستار، فأمام كل رئيس أمريكي صهاريج استخباراتية متنقلة ومنغصة له، وفي مقدمتها : السي آي ايه والبنتاجون والكونجرس والبيت الأبيض، ووراء هذه كلها مرجع أكبر بمثابة ” خامنئي إيران “، لكن لا يُعرف خامنئي أمريكا من هو؟، وقد قيل إنها قيادة صهيونية خفية.
وفي هذا اللقاء أسأل وأقول: كيف يمكن للدول العربية والعالمية أن تقيم تحالفات مع دولة لا يستقيل رئيسها بكل قرارات حكمه؟
والجواب: لا أرى ذلك مهماً إذا كانت هناك ضرورة أو مصلحة كبرى في الحلف بشرط أن يخلو من الولاء لأعداء الله المتضمن حرب الإسلام وأهله لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: ٥١١].
فإذا سلم هذا التحالف من موالاة الكافرين على المسلمين جاز اتفاقاً، وقد أشار إلى مثل هذه التحالفات ما أخرجه الإمام أبوداود في سننه والحديث صحيح عن ذِي مِخْبَرٍ، رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ، وَتَغْنَمُونَ ، وَتَسْلَمُونَ ، ثُمَّ تَرْجِعُونَ حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ ، فَيَقُولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ ، فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَدُقُّهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ ، وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ ، وَيَثُورُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَسْلِحَتِهِمْ ، فَيَقْتَتِلُونَ، فَيُكْرِمُ اللَّهُ تِلْكَ الْعِصَابَةَ بِالشَّهَادَةِ”.
ومعنى ذلك أنه لا مانع من التحالف مع أمريكا أو أوربا أو غيرهم من غير المسلمين بالضابط المذكور فيما دعت له المصلحة الشرعية، لكن هل أمريكا تحفظ حق حلفائها؟
الجواب: لا.
لماذا؟
لأن مشكلة أمريكا مع العرب قديمة، هي عينها مشكلة الروم مع المسلمين، ومن هنا يتنزل قوله تعالى: “وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ”[سورة البقرة : 120].
حيث تخشى أمريكا والدول الأوربية ظهور القيادات الصالحة في البلاد العربية مما قد يسفر عن عودة “الخلافة الإسلامية” من جديد، وهذا هو عين ما ينغص أعداء الله ويخيفهم.
وقد بدأت التحالفات قبيل خروج الاستعمار الأجنبي من الدول العربية، وتقسيم المنطقة العربية إلى دويلات، وكل دويلة يرأسها ملك أو سلطان أو أمير أو رئيس، بشروط واتفاقيات رسمتها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوربية، ثم صارت أمريكا هي من تقود العالم لنظراً لتقدمها في السلاح، وقوة مصادر دخلها، حيث سجلت عام 1913م أقوى ناتج محلي للفرد الواحد يفوق بنحو 35 % من ناتج الفرد البريطاني الذي كانت دولته أغنى دول أوربا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
وتعد أمريكا وليدة أوربية، وأكبر تجارها منذ قيامها حتى اليوم ” اليهود – وخصوصاً عائلة “روتشيلد” التي تسيطر على نصف اقتصاد العالم -“، ورغم هذه القيود والتحالفات فقد حاد بعض حكام العرب في بعض الأزمنة إلى ربط العلاقة مع أشد أعداء أمريكا وأوربا عسكرياً وهم الروس، وذلك بعد الخيانة الكبرى للعرب، التي ارتكبتها أمريكا وأوربا بتمكين اليهود من إنشاء دولة لهم في فلسطين عام 1948م، وقد سبق هذا التمكين الاعتراف والترحيب الدولي الأمريكي والأوربي عام 1947م بإنشاء دولة لليهود على أرض فلسطين، فصدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يوصي بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة فلسطينية، فكان الترحيب صادماً للعرب، حيث أشعل في نفوسهم الحمية على أبناء جلدتهم الفلسطينيين، فشعروا أن أمريكا ودول الغرب لا تفي بعهودها وتحالفاتها معهم، فكانت لهم ردود أفعال مشرفة رغم ضعفهم، منها اجتماع كافة رؤساء الدويلات العربية وإجماعهم على أن الأرض فلسطينية، لا يجوز أن تكون دولة يهودية، ومنها أنهم كوَّنوا جيشاً عربياً من مصر وسوريا والعراق والأردن وفلسطين وكل من أراد التطوع من بقية الدول العربية الأخرى ودعموه مادياً، لكنه كان هشاً من نواحٍ عدة منها : أن قيادته العامة قومية أكثر من كونها إسلامية إلا بعض القيادات الفرعية التي كانت ترفع شعار النصرة للدين والأرض كقيادات الإخوان المسلمين وبعض العلماء، ومنها ضعف السلاح لأنه كان عبارة عن بنادق، منها بنادق الطنج وبنادق أم سك والنيمس وأم كرار، وأم ركبة، وأم صندوق ذات الطلقة الواحدة، بينما اليهود عندهم رشاشات متقدمة جاءتهم من فرنسا، وليست يومها أسلحة أمريكية، ومنها ضعف الدول العربية وقياداتها، ومنها انشغال قادة الدول العربية بمشاكل شعوبها الفقيرة والثائرة التي فرَّقها الاستعمار إلى أحزاب قومية كثيرة قبيل خروجه، ثم دعمها بعد خروجه عبر سفاراته في البلاد العربية، ومنها وجود بعض المندسين في صفوف القيادات العسكرية المؤثرة، حيث انتهى الغضب العربي إلى غضب مؤقت سرعان ما ضعف، وصار مجرد شجب، ولعل أقوى غضب وردة فعل في المنطقة العربية، الموقف الشجاع من الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله، حيث أوقف تصدير النفط إلى أمريكا وأوربا حتى انتهى الأمر باغتياله بخطة أمريكية من خلال القاتل الأمير فيصل بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود الذي قتل عمه الملك فيصل رحمه الله، ثم روَّج بعض السياسيين المقربين من الإدارة الأمريكية أن سبب قتله للملك فيصل كان انتقاماً لأخيه الأمير خالد بن مساعد الذي قُتل بالرياض نظراً لقيادته لمظاهرات وإضرابات في عهد الملك سعود رحمه الله، وهذا ترويج هزيل، لا مصداقية فيه.
والحاصل أن موت الملك فيصل رحمه الله كان ثمناً لوفائه لدينه وأمته وصدقه الجاد واعتراضه على أمريكا ودول أوربا التي دفعت فلسطين لليهود بقوة السلاح والدعم المعنوي.
سمعت الشيخ محمد بن إبراهيم شقرة – وهو من مواليد قرية عين كارم من قُرى قضاء القدس، عام 1934م – يقول: خرجنا لقتال اليهود وكان بعضنا عنده البندق ذات الطلقة والطنج الذي لا تخرج طلقته إلا بأن يستعمله شخصان في آن واحد، ومنا من خرج في بعض الليالي لصد غزو اليهود لبعض القرى الفلسطينية بالسكاكين والعصي واليهود لديهم أسلحة رشاشة ثقيلة حتى أثخنوا فينا القتل قبل وصولنا إليهم”.
والخلاصة أن التحالف مع أمريكا تحالف هش، تظهر فيه الخيانات الأمريكية واضحةً جلية ليدل ذلك على زيف الديمقراطية المزعومة من خلال مواطن كثيرة، سأذكر منها أربعة مواطن رئيسة، وهي ما يأتي :
الأول: الاعتراف والترحيب الدولي الأمريكي والأوربي عام 1947م بإنشاء دولة لليهود على أرض فلسطين، فصدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يوصي بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة فلسطينية مع تنفيذه بقوة السلاح عام 1948م.
الثاني: تشجيع المنظمات المشبوهة وبث روح القوميات العربية والطائفية في نفوس العرب الضعيفة لزرع الانقلابات وتعرية الحكام العرب حتى تبقى المنطقة العربية غير مستقرة وغير آمنة، فاشعلوا فتيل الفتنة بين الحاكم والمحكوم حتى لا يفكر العرب يوماً من الدهر في التفكير والانشغال ببناء وطن إسلامي قوي، يكتفي اكتفاء ذاتياً باقتصاده الداخلي وقوته الدفاعية العسكرية.
الثالث: استغلوا من خلال سفاراتهم في المنطقة العربية أيادي استخباراتية مهمتها التجسس على الدول العربية وحكامها وشعبها وعلمائها لاستغلال مواضع الضعف لتغذيته ضد الدين والوطن والشعب، وشراء ذمم بعض الإعلاميين العرب لشن هجمات مختلفة ضد الحاكم وعلماء البلدة وبعض القيادات النزيهة في السلطة، ونشر بعض السموم التي تتعارض مع الفطرة والدين بقصد إضعاف الشعب وتمزيقه دينياً ونفسياً واجتماعياً.
الرابع: زرعوا ثورات الربيع العربي للانقلاب على الحكام العرب رغم التحالفات والعلاقة الوثيقة بينهم وبين حكام العرب، فوقفوا موقف المتفرج ما بين مؤيد ومعترض مقسمين الأدوار بينهم لزرع الفتنة بين الحاكم والمحكوم، وهذا ما دفع الفريق ضاحي خلفان من أن يقول كلمات شجاعة وواضحة ضد أمريكا:
منها قوله: “سياسة أمريكا في المنطقة تهدد الأمن العربي.. وتهدف لتصدير الفكر الإيراني.. وتريد قلب الأنظمة العربية بما يتوافق مع مصلحتها.. وأنه : ليس لها صديق وتحقق أحلام إسرائيل وإيران… وقال: ” هذا ليس كلامي فقط بل [ كلام ] كُتَّاب ومفكرين أمريكان، هم من قالوا ذلك، ويقولون إننا نصدر الثورة للوطن العربي”.
وقال: “إن السياسية الأمريكية هي سياسية تحقيق مصالح شخصية لهم وليس تحقيق مصالح الشعوب، كما يزعمون، مستدلاً على ذلك بالقضية الفلسطينية التي لا تتحرك فيها أمريكا مطلقاً على الرغم من أن الشعب الفلسطيني مغتصبة أرضه وإرادته، ويتعرض للقتل والقمع والتهجير بشكل يومي منذ عقود تحت سمع وبصر العالم كافة، وقال: “على الرغم من معاناة الشعب الفلسطيني تقف أمريكا ضد إقامة الدولة الفلسطينية، وهذا يؤكد أنها غير صادقة”([1])، انتهى مختصراً كلامي ضاحي خلفان.
وقد سبق أن قلت في مقال سابق بعنوان: ” الديمقراطية وثورات الربيع العربي –حلقة رقم7″ : حماة الديمقراطية – وهم أمريكا وأوربا – موقفهم هزيل تجاه البلاد العربية في ظل هذه الثورات، فتارة يقفون مع الشعوب، وتارة مع الحاكم، ونسوا مبادئ الديمقراطية التي تنص على السلام والاستقرار والأمن، وعدم التدخل في شؤون الأوطان.
والسبب في أن موقفهم بين طرفي نقيض يعود لكونهم هم مَن صدَّر الثورات للعرب المسلمين من خلال رعاع الأحزاب السياسية وغلمان الإعلام المزيف والمسير.
والحاصل: أن أمريكا والغرب الأوربي يتحالفون مع دولنا العربية والإسلامية وحكامها لكن لا وفاء لهم، ولا عهد، ولا ذمة، ولا سلام، ولا أمان، ولا عدالة، وتحالفاتهم بما يخدم مصالحهم ويغطي بعض نفقاتهم المادية، وأغلبها تحالفات هشة أضرت بلداننا العربية والإسلامية حكاماً ومحكومين، بل “ديمقراطيتهم عجوز شمطاء مزيفة صدروها للبلاد العربية والإسلامية لتكون لعبة ومهزلة يضحكون بها على المسلمين، وواقعنا وما سبق من أحداث أكبر شاهد على ذلك.
فإذا كانت القاعدة تنص على أن: ” السياسة ليس فيها عدو دائم أو صديق دائم، بل هناك مصالح دائمة” فإن أمريكا تجاوزت هذا الحد بعداوتها لنا وعدم رضاها علينا، لكوننا مسلمين.
قال الله تعالى: “ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، قل إن هدى الله هو الهدى”.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
——————————————–
أهم المصادر:
١-جاي باريني – ارض الميعاد – ثلاثة عشر كتابا غيرت أمريكا – الدار الدولية باللغتين العربية والانجليزية.
2-فرانك لامبرت – الدين في السياسة الامريكية – تاريخ موجز – طبعة دار نمو للنشر.
3-مجموع صحف ومجلات ومواقع عربية وأجنبية.
4- د. ﻤﺤﺴن ﻤﺤﻤد ﺼﺎﻟﺢ – ﺴﻟﺴﻟﺔ دراﺴﺎت ﻤﻨﻬﺠﻴﺔ ﻓﻲ اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﻔﻟﺴطﻴﻨﻴﺔ – طبعة كولالمبور
5. جمال حسن أحمد- تاريخ القضية الفلسطينية- مخطوط
6. د.صادق بن محمد البيضاني – إلى أين يتجه المسلمون – مخطوط.
——الحواشي——
([1]) كلمات مقتضبة بعضها مسجلة بصوته وبعضها منشورات صحفية نشرتها صحيفة اليوم السابع الأربعاء، 18 فبراير 2015م