حكم القول بـ (حرام علي أن آكل كذا من بيتكم)
بقلم الدكتور: صادق بن محمد البيضاني
س74: حدث خلاف بين امرأة وبناتها بشأن موضوع ما, فقالت المرأة في لحظة غضب: حرام علي أن آكل كذا في بيتكم، مع علمنا بأن عملًا كهذا لا يجوز، لأنه يدخل في باب تحريم ما أحل الله, فما هو العمل الآن إن أرادت هذه المرأة أن تأكل ما حرمته على نفسها ؟ وهل يلزم دفع كفارة حيال ذلك ؟ وجزاكم الله كل خير .
ج74: لا يحل لشخص أن يحرم على نفسه نعمًا أنعمها الله عليه، لأن الحل والحرمة بيد الله وحده, ولذا نهى نبيه عليه الصلاة والسلام عن الامتناع عن شرب العسل فأنزل عليه في ذلك سورة تتلى إلى يوم القيامة .
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلًا, فتواصيت أنا و حفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير ([1]) أكلت مغافير, فدخل على إحداهما فقالت له: ذلك, فقال: "لا بل شربت عسلًا عند زينب بنت جحش، ولن أعود له" فنزلت: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" إلى قوله: "إن تتوبا إلى الله" لعائشة و حفصة, وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه: لقوله "بل شربت عسلًا "([2]).
واختلف أهل العلم هل يلزم في ذلك الكفارة أم لا فذهب الشافعي وجماعة إلى أنها لا تلزم لكونه لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كفر بعد أن حرم على نفسه شرب العسل ولكون التحريم لا يشمل القسم.
وذهب ابن عباس وتبعه أحمد وجماعة إلى وجوب الكفارة عملًا بما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الحرام يكفر، وقال "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ".
وأخرج النسائي بإسناد حسن عن ابن عباس أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراما، قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك"، ثم قال ابن عباس: عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة ([3])، وعملًا بقوله تعالى: "قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ"([4]).
وقد اختلف العلماء القائلون بالكفارة هل تلزمه كفارة الظهار وتسمى الكبرى أو كفارة اليمين وتسمى الكفارة الصغرى، والراجح أنها الصغرى لآية التحريم المتقدمة، وقد سبق أن أفتيت في الطبعة الأولى من كتابي المنتقى بعدم الكفارة وقد طبع الكتاب في أربعة مجلدات، وكانت الفتوى مقيدة بأنه لا كفارة إلا بمين عملاً بما أخرجه الضياء المقدسي في المختارة بإسناد صحيح عن ابن عمر عن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة لا تحدثي أحدًا وإن أم إبراهيم علي حرام فقالت: أتحرم ما أحل الله لك قال فوالله لا أقربها قال: فلم يقربها نفسها حتى أخبرت عائشة فأنزل الله عز وجل: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم"([5]).
ثم تراجعت إلى القول بكفارة اليمين بمجرد التحريم لما قمت بتخريج صحيح البخاري بعد أن تأملت فتاوى جماهير الصحابة في ذلك، ومنهم عمر وعثمان وابن عباس وابن مسعود وغيره.
وقد اشتهر عندنا بالديار اليمانية قول الشخص علي الحرام أو حرام أو بالحرام أن تتغدى عندي ونحوها من الألفاظ، ولكل شخص مقصد فمنهم من يقصدها يميناً ومنهم من يقصدها طلاقاً ومنهم من يقصدها ظهاراً، وعليه فمن قصدها طلاقاً فزوجته طالق وإن قصدها حراماً لزمته كفارة اليمين، ومن قصدها ظهاراً فقد ظاهر زوجته وذلك إذا حنث لكنه يلزم في حرام الظهار التصريح كأن يقول زوجتي حرام علي كظهر أمي أو أختي ونحوها، وهذه التفصيلات الثلاثة تحمل على النية عملاً بحديث عمر بن الخطاب كما في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
وستتكرر معنا هذه المسائل الثلاث في أكثر من موضع من خلال هذه الحلقات، وسيأتي لها مزيد أيضاح، كل في موضعه بإذن الله، بالله التوفيق.
([1]) جمع مغفور بضم الميم وقيل جمع مغفر بكسر الميم: شيء حلو كريه الرائحة.
([2]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب الطلاق, باب { لم تحرم ما أحل الله لك } / التحريم 1 /(5/2016 رقم 4966)], ومسلم في صحيحه [كتاب الطلاق, باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق(2/1100 رقم 1474)] كلاهما من حديث أم المؤمنين عائشة
([3]) أخرجه النسائي في سننه [كتاب الطلاق, قوله جل ثناؤه يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك(3/356 رقم 5613)] من حديث ابن عباس موقوفًا.
([4]) سورة التحريم, الآية (2).
([5]) أخرجه الضياء المقدسي في المختارة(1/300 رقم 189) من حديث عمر بن الخطاب.