حكم الشراء بواسطة البنك وحكم بيع التقسيط
بقلم الدكتور: صادق بن محمد البيضاني
س76: ما حكم: شراء سيارة عن طريق بنك، والطريقة هي أن أذهب مع موظف البنك إلى الوكالة فأختار السيارة, وهي سعرها مثلا خمسون ألف ريال, فيشتريها البنك ويبيعها لي بستين ألف ريال بالتقسيط ؟
ج76: البنوك الاسلامية وغير الاسلامية في عصرنا الحاضر لا يتعاملون بالطرق الشرعية في كثير من معاملاتهم وإن كانت الاسلامية من حيث الجملة خيراً في بعض معاملاتها من غير الاسلامية، وقد زرت كثيراً من هذه البنوك المسماة اليوم بالاسلامية في أكثر من دولة والتقيت ببعض مدرائها وباللحنة المسماة بالشرعية لديها وناصحتهم حول بعض الأحكام والعمليات المصرفية في المضاربة والمرابحة والقرض العقاري والقروض الأخرى وبينت لكثير منهم أنها تتصادم مع النصوص الشرعية، ولا أجد لدى أغلبهم سوى المجاملة أو الهروب من النقاش أو تعليل ذلك بأن هناك من أفتاهم بجوازها أو أن رئاسة مجلس الادارة تتحمل المسؤولية أمام الله، هكذا هي الأجوبة التي لا تقنع عامياً عاقلاً فضلاً عن المتخصصين في الدراسات الشرعية.
لذا أقول للسائل: أغلب البنوك اليوم إذا أردت شراء أي سلعة بواسطتها سواء كانت سيارة أو غيرها فإنهم يلزمونك بأمور أشهرها: ان تبحث انت عن السلعة من التاجر وتتفق معه على الثمن وتأخذ عرض السعر للبنك، وقبل أن يشتري البنك السيارة أو السلعة يعقد معك البنك عقداً مبدئياً ينص على الوعد بالشراء، ومنها احضار إفادة من جهة العمل بأنك تعمل وأن راتبك ينزل رسمياً آخر كل شهر في البنك أو احضار ضمانة مسلم للمبلغ حال عجزك ، ومنها التأمين الشامل للمركبات والسلع ، ومنها زيادة نسبة مئوية في حال تأخرك عن السداد، ونحوها وهي تختلف من بنك لبنك في بعض صورها، وكل هذه قبل أن يشتروا السيارة، وهذا لا يجوز لأنهم يعقدون العقد المبدئي ويلزمونك بما لا يلزم شرعاً قبل أن يمتلكوا السلعة، ثم يعملون معك عقداً آخر يسمونه عقد شراء نهائي، ولا شك أن هذه طرق وأساليب تتصادم مع الشرع المطهر، فالأصل أنه لا مفاوضة مع المشتري ولا الزام ولا وعد بالشراء، وإنما إذا امتلك البنك السيارة أو السلعة وضمها لمخازنه جاز له بيعها وما دون ذلك فالبيع محرم.
وقد اتفق علماء الاسلام على أنه يشترط في البيع شرطان:
الأول: التراضي بين الطرفين المشتري والبائع عملًا بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ"([1]).
الثاني: أن يكون البائع مالكًا للسلعة التي يرغب في بيعها لما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع ([2]) طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" ([3]) .
وعندهما عن ابن عباس بنحوه مرفوعاً، وقال ابن عباس: "وأحسب كل شيء مثله".
فإذا كان البنك بالفعل قد اشترى هذه السيارة وقبضها وصارت ملكًا له جاز لك أن تشتري منه هذه السيارة بالسعر الذي تتفق معه فيه بشرط ألا يكون بينكما عقد مبرم في الشراء قبل أن يمتلك البنك السيارة، إذ حصول ذلك يمنع من صحة البيع لأنه إن وجد عقد بيع قبل الشراء فمعناه أنك اشتريت من البنك شيئًا ليس ملكه، وإذا لم يتم هناك عقد ولا التزام بالبيع، صح البيع بين الطرفين أي بينك وبين البنك إذا امتلك السيارة وقبضها فعلاً، كما يجب عليك مشاهدة السيارة التي ترغب في شرائها لكن اللزوم هنا أن تنظرها وهي في حوزة من يبيعها لك دفعا للغرر أي الجهالة لكون النبي عليه الصلاة والسلام حرم بيع الغرر لما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر"([4]).
أما مسألة التقسيط بحيث يكون ثمنها نقداً بكذا وآجلاً بمبلغ أكثر من النقد، فالصحيح جوزه بالشروط المتقدمة، وقد اختلفت أنظار الفقهاء في تفسير ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام عند الترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ([5]).
وقد فسر أهل العلم هذا الحديث بعدة:
فمنهم من قال: (بيعتين في بيعة أن يقول أبيعك هذا الثوب نقدًا بعشرة وبنسيئة بعشرين ولا يفارقه على أحد البيعين فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما).
وقال الشافعي:( بيعتين في بيعة أن يقول أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته)] كذا ذكر الترمذي في جامعه ([6]).
وسبب الخلاف يعود في الأصل للحديث المتقدم في النهي
ولقوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه في سنن أبي داود: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا" بمعنى أنقصهما وإلا وقع في الربا.
وقد قيل لراوي الحديث وهو سماك بن حرب أحد التابعين: "ما معنى نهى عن بيعتين في بيعة؟ قال: أن أبيعك هذا نقداً بكذا ونسيئةً بكذا وكذا".
وهناك تفسير ثالث ذكره ابن رسلان في (شرح السنن) وهو على سبيل المثال:(أن يسلفه دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفير الذي لك عليَّ إلى شهرين بقفيزين فصار ذلك بيعتين في بيعة لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول).
فهذه تفسيرات ثلاثة والمسألة خلافية من زمن التابعين:
والجمهور على جواز بيع التقسيط بمعنى أنهم لا يقولون بالتفسير الأول ولا الثاني باعتبار أن الأول فاسد ولذا قال ابن رسلان بفساده عند أكثر أهل العلم وعلل ذلك بكونه لا يُدرى أيهما جُعِل الثمن له.
وباعتبار أن الثاني فاسد أيضًا كذا في(المرقاة) لأنه بيع وشرط ولأنه يؤدي إلى جهالة الثمن لأن الوفاء ببيع الجارية لا يجب وقد جعله من الثمن وليس له قيمة فهو شرط لا يلزم وإذا لم يلزم ذلك بطل بعض الثمن فيصير ما بقي من المبيع في مقابلة الثاني مجهولًا.
والحاصل: أن البنوك والشركات في العصر الحديث تخير المشتري بين حالتين مختلفتين إما نقدًا ابتداء وإما نسيئة ابتداء وله الاختيار فيختار البيع الذي يناسبه.
فالصحيح جوازه لعدم ما يفيد حرمته سوى احتمالات لا يقوم بمثلها الاحتجاج وأما تفسير الراوي التابعي سماك بن حرب فهو فهمٌ فَهَمِهُ رحمه الله، ولكن لا يقال جواز ذلك مطلقًا فيما يتعلق بالبيوع العصرية والتي يغلب عليها المخالفة للشرع الحنيف، بل لا بد من الشروط المتقدمة التي تتوافق مع أدلة الشرع.
ولذا لا مانع أن يشتري البنك السيارة بأربعين ألف ريال ويبيعها لشخص آخر بخمسين ألف تقسيطًا بالضوابط الشرعية التي سبق ذكرها, وبالله التوفيق.
([1]) سورة النساء, الآية (29).
([2]) اشترى.
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب البيوع, باب ما يذكر في بيع الطعام والْحُكْرَة(8/66 رقم 2133)], ومسلم في صحيحه [كتاب البيوع, باب بطلان بيع المبيع قبل القبض(10/119 رقم 3922)] كلاهما من حديث ابن عمر.
([4]) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب البيوع, باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر(10/72 رقم 3881)] من حديث أبي هريرة.
([5]) أخرجه الترمذي في سننه [كتاب البيوع, باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة(3/533 رقم 1231)] من حديث أبي هريرة.
([6]) ذكره الترمذي في سننه [كتاب البيوع, باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة(3/533 تحت حديث رقم 1231)].