الموقف الشرعي من الديمقراطية
في حال فرضها على الشعب
( ضمن موضوع دراسات شرعية واقعية في الديمقراطية وأصول الأحزاب السياسية)
الحلقة (15)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
تكلمت سابقاً عن “الديمقراطية” من خلال 14 مقالاً وبينت حقيقتها وزيفها في البلدان العربية والغربية وخاصة في أمريكا، وذكرت أنها لعبة بيد الغرب لفرضها على الشعوب تحت شماعة ” الحرية والعدل والمساواة والأمن والاستقرار والعيش الرغيد” هكذا زعموا ، وذكرت زيف ذلك من حيث الحقيقة والمضمون، مع سرد جملة من الأمثلة الواقعية التي تؤكد زيفها باعتراف الغرب أنفسهم، ناهيك عن واقعها السيء المشاهد على المستوى العربي والدولي، مبيناً كل ذلك في عامة تلكم المقالات التي تجاوزت صفحاتها ” 80 صفحة A4″، وتحمل الأسماء التالية:
1 – الإسلام والديمقراطية وزوبعة الغوغائية، 2 – مناقشة هادئة حول الديمقراطية مع المثقفين العصريين،3 – تصحيح مفاهيم حول الديمقراطية وثورات الربيع العربي،4 – حوارات متجددة وتصحيح مفاهيم حول الديمقراطية،5 – تاريخ أمريكا والنظام الديمقراطي فيها،6 – هل النظام الديمقراطي نظام عادل؟ أحداث الحرب العالمية الثانية أنموذجاً،7 – الديمقراطية وثورات الربيع العربي، مصر أنموذجاً،8 – الديمقراطية وتركيا (1)،9 – الديمقراطية وتركيا (2) حقائق مغيبة،10 – الديمقراطية والرئيس الأمريكي،11 – الديمقراطية والتحالفات العربية مع أمريكا،12 – ديمقراطية المساواة في أمريكا،13 – ديمقراطية الأمن والعدالة والحرية في أمريكا،14 – الديمقراطية الأمريكية والانهيار المحتوم.
وفي هذا اللقاء سأشرع في الحديث عن “الموقف الشرعي من الديمقراطية في حال فرضها على الشعب” وفقاً لقواعد الإسلام، وقد دفعني إلى كتابة هذا المقال ما تلقيته من الجمهور من خلال مجموعة كثيرة من التساؤلات المتكررة والتي تصب في قالب واحد وهو: ما الحل إذا فرضت علينا الديمقراطية في بلادنا الإسلامية، هل نتركها لأنها مزيفة، وبالتالي يستغلها الأعداء لإفساد الوطن والشعب وتغريب الأمة، وما البديل؟
هكذا تكرر السؤال علي في مجالس علمية، ومجالس عزومات الضيافة ومن خلال صفحات التواصل الاجتماعي.
إذن نحن الآن أمام الجواب الذي لا بد منه، فأقول وبالله التوفيق: يكاد جوابي على هذا السؤال قد تم من خلال مجموعة تسجيلات صوتية، ومجموعة كتب ومقالات كتبتها، لو ضم بعضها مع بعض لاستخرجنا منها جواباً كافياً شافياً على السؤال المتقدم، لذا ألخص الجواب في التالي:
أولاً: يجب على المسلم أن يعتقد أن النظام الإسلامي هو الحل وأن غير النظام الإسلامي لن يكون حلا ولا بديلاً، وذلك أن النظام الإسلامي نظام إلهي قائم على الحكم بما أنزل الله وفقاً لأدلة الكتاب والسنة، وهو نظام لا يتخلله خطأ لأن نسبة الخطأ للنظام الإسلامي الإلهي طعن في حكم الله المتمثل بالكتاب والسنة، وأما النظام الديمقراطي فهو نظام بشري من صنيع اليونان غير المسلمين، وأحكامه تتغير وتتبدل حسب ما تراه عقول البشر المنتخبين في مجالس البرلمان، فالحلال والحرام في النظام الديمقراطي ما أحله وحرمه البرلمان المكون من المخلوقين الضعفاء الذين اختارهم الشعب سواء كانوا صالحين أو فاسدين، مسلمين أو غير مسلمين، فلهم الحق أو لبعضهم في ظل النظام الديمقراطي التصويت على جواز كل المحرمات وكل شيء يتصادم مع النظام الرباني السماوي، بخلاف النظام الإسلامي فلا تصويت فيه بل طاعة واتباع لكتاب الله وسنة رسوله في جميع الأحكام، لأنه نظام اختاره رب البشر لعباده الضعفاء البشر.
قال الله تعالى: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ”.
وقال تعالى: “وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا”.
ثانياً : ينبغي للمسلمين أن يعلموا أنه لن يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء.
ثالثاً: أن صلاح السلطة لا يحتاج أن نتصارع عليها، وإنما يتم بالسعي الحثيث لإصلاح من في السلطة من خلال نصح السلطان ووزرائه ومن كان على هرم السلطة نصحاً فيه الشفقة والرحمة للمنصوح، وتكون النصيحة بالعلم مع الحلم بعيداً عن نقد السلطان أمام الملأ، فإن السلطان الغشوم لم يقم سلطانه إلا بالسيف ولا زال يحرسه بالسيف، فحفاظاً على سلامة الدماء والبعد عن بطشه لزمت نصيحته في السر، وذلك للتأثير عليه درءاً للمفاسد وجلباً للمصالح.
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عياض بن غنم رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يبده علانية، وليأخذه بيده، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدَّى الذي عليه”.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:” قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه”.
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر فقال: “إن كنت فاعلاً ولابد ففيما بينك وبينه” ذكره ابن رجب ، في جامع العلوم والحكم (ص83). والأثر أخرجه بمعناه البيهقي في ” شعب الإيمان” (10/73 رقم 71866).
ولذا فحديث أبي سعيد الخدري الذي يقول فيه كما في سنن ابن ماجه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر”، يؤكد نصيحة السر بقوله: “عند سلطان جائر”، ولم يقل: “عند العامة وعلى المنابر وفي الصحف ووسائل الإعلام ونحوها” لأن مثل ذلك لم نر منه سوى المفاسد والدماء وتفلت الأمن وظهور الفساد منذ القدم حتى الساعة.
فإذا علمت ما تقدم فاعلم أن الديمقراطية إذا فُرضت على المسلمين في دولتهم، فإنه يلزمك دفع ما استطعت من شرورها وتقليل ما استطعت من مفاسدها وتفويت الفرصة على من جعلها وسيلة لإفساد الأمة، وذلك من خلال عدة محاور:
المحور الأول، الوظيفة في الدولة:
حيث ينبغي للصالحين والفضلاء العمل في المؤسسات الحكومية سواء كانت حكومات إسلامية أو غير إسلامية، وهذا أمر مطلوب لمن كان ورعاً وأهلاً لذلك، إذ الصالح أولى من غيره، عسى الله أن يصلح وينفع بمثله العباد والبلاد إذا أخلص في وظيفته الحكومية وأقام من خلالها الشرع المطهر، فقد تولى نبي الله يوسف منصب عزيز مصر، وقال لمليكها –وهو كافر على الراجح-:(اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْض إنِّي حِفِيظٌ عَلِيم)[يوسف:٥٥].
بل لو خالط الوظيفة الحكومية أثناء عمله شيء من المخالفات الشرعية فله أن يبقى في عمله متى ترجحت المصلحة على المفسدة، وقد نصت القاعدة الفقهية على: “أنها لو اجتمعت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما”، وأيضاً “أن الأخذ بأعظم المصلحتين جائز عند دفع أعظم المفسدتين”، وكذلك قاعدة ” ارتكاب أخف الضررين للتخلص من أشدهما”.
قال ابن تيمية: “بل لو كانت الولاية غير واجبة، وهي مشتملة على ظلم؛ ومن تولاها أقام الظلم، حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها، ودفع أكثر باحتمال أيسره : كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيداً(6)”.
المحور الثاني: خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
فقد سبق أن قلت: إن الأصل في الانتخابات الديمقراطية الحرمة لأنها نظام ديمقراطي مستحدث يتعارض مع نصوص الشريعة السمحة إلا أننا نستثني ونقول : إذا كانت لمصلحة راجحة فتكون الفتوى فيها بمحضر مجموعة من كبار العلماء حسب كل بلدة بعد النظر في المصالح والمفاسد، فما دعت له الضرورة فإنه يقدَّر بقدره دون تعميم الفتوى لكل زمان ومكان؛ بل تختلف البلدان وأحوالها، فالعلماء في بلدهم يدرسون واقعهم على ضوء الشريعة ومقاصدها، ويصدرون الفتوى الشرعية بمحضر أهل الفتوى في بلدهم وفق قاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: «ونحن لا ننصح مسلماً أن يُرشّح نفسه في هذه الانتخابات في كل البلاد اليوم، لأن الحكومات لا تحكم بما أنزل الله ، لكن أنا أعلم أن هذا الرأي لا يقتنع به كثيرون من طلبة العلم ومن الدكاترة ومن كذا إلى آخره ، حينئذ سنرى في الساحة ناسا يرشحون أنفسهم من الإسلاميين ، سواء كانوا من هؤلاء أو هؤلاء أو هؤلاء، حينئذ يجب علينا أن نختار من هؤلاء الذين نزلوا في ساحة الانتخابات ، نختار منهم الأصلح ، ولا نفسح المجال لدخول الشيوعيين والبعثيين والدهريين والزنادقة ونحو ذلك » ([1]).
وبنحو ذلك، ما قاله الشيخ عبد المحسن العباد حيث قال: «إذا كان دخول المسلمين يرجح جانب الخير للمسلمين فيدخلون، وإذا كان دخولهم لا يقدم ولا يؤخر فإنهم لا يدخلون، وإذا كان دخولهم يسهم في إبعاد من هو شر وتحصيل من هو أقل شرّاً وأخف ضرراً، وحتى لو كان من الكفار أنفسهم كما في البلاد التي فيها أقلية مسلمة، ويكون الأمر دائراً بين كافرين، أحدهما: شديد الحقد على المسلمين متى وصل إلى السلطة إذا حال بينهم وبين القيام بعباداتهم على الوجه الذي ينبغي، والثاني: ليس كذلك – متسامح مع المسلمين، [و] ليس عنده حقد شديد عليهم، ومعلوم :أن الكفر درجات كما أن الإيمان درجات، الكفر يتفاوت [فيه] الكفار، والإيمان يتفاوت الناس فيه، فإذا كان الأمر بين اثنين، ودخول المسلمين يرجح ذلك الهين على المسلمين فلهم أن يدخلوا، وإذا كان دخولهم لا يقدم ولا يؤخر فليتركوه، فدخولهم ليس لاختيار خليفة، فإن هؤلاء الكفار متسلطون، لكن بعض الشر أهون من بعض، وارتكاب أخف الضررين للتخلص من أشدهما مطلوب، ومعلوم أن الله ذكر في القرآن فرح المسلمين بانتصار الروم على الفرس، والاثنان كفار، لكن لماذا يفرح المسلمون بانتصار الروم على الفرس؟ لأن هؤلاء مجوس كفرهم شديد وكفرهم عظيم ، وأعظم الكفر ناحية المشرق كما قال رسول الله [عليه الصلاة والسلام]، وملك الفرس مزق كتاب رسول الله لما جاء إليه ، وأما ملك الروم احتفظ بالكتاب، ففرق بين كافر شديد الكفر على المسلمين وكافر خفيف الضرر على المسلمين، فإذا كان دخولهم ينفع في تحصيل من هو أخف ضرراً فإنهم يدخلون ، وإذا كان دخولهم لا يقدم ولا يؤخر فإنهم يبتعدون» ([2])اهـ.
ولعلي بما تقدم قد أزلت الغواش الذي عشعش في أذهان بعض الفضلاء الذين لم يدرسوا هذه المسألة دراسة فقهية أصولية متأنية وفقاً لأدلة الشرع المطهر القائم على قاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، وكذا قاعدة : ” ارتكاب أخف الضررين للتخلص من أشدهما”، ومما لا يخفى أن الشريعة الإسلامية بكل أحكامها وأوامرها ونواهيها جاءت لتحقيق المصالح للعباد وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ولو كان في هذه الشريعة شيء خلاف المصلحة، لم يصح وصفها بأنها شريعة سمحة مطهرة.
ولا تفهموا من كلامي المتقدم أني أدعو المشايخ أن يرشحوا أنفسهم في الانتخابات فمقامهم أشرف وأعلى وعليهم أن يتفرغوا للدعوة وتعليم الناس الخير، وإنما يختار أفراد المجتمع الأصلح والأنفع للعباد والبلاد وفق ما تدعو له المصلحة، وتُدفع به المفسدة.
المحور الثالث: دور العلماء والدعاة المصلحين وإن اختلفوا.
سبق وأن قلت: إنه يجب على العلماء أن يكون لهم دور فعَّال مهما اختلفوا بحيث لا يستغل بعض المفسدين في الأنظمة أو المنظمات والاستخبارات الخارجية هذا الفراغ بتقويض دورهم، ويتلخص هذا الدور في التالي :
أولاً: إن غزا العدو بلداً من بلاد المسلمين اتفق جميع العلماء المختلفين – على اختلاف جماعاتهم – على وجوب دحر العدو.
ثانياً: إن رأى أحدهم المنكر اتفقوا جميعاً على إنكاره، وإن لزم الأمر لاجتماعهم كعلماء ودعاة مختلفين فلهم أن يجتمعوا على كلمة سواء، وليكونوا لجنة علماء – من الأطراف المختلفة في المنهج والمتفقة في إنكار المنكر– لتذهب للسلطان وتناصحه في إزالة هذا المنكر بالعلم واللين والحكمة.
ثالثاً: إن حصلت نكبة للمسلمين في أي بلد فلهم أن يتفقوا جميعاً في مساعدة إخوانهم المنكوبين من خلال أي جمعية موثوقة أو لجنة مشتركة من الأطراف المختلفة في المنهج والمتفقة لنصرة إخوانهم المسلمين.
رابعاً: لنفرض مَرِضَ داعية أو شخص من أي جماعة أو فئة كانت ، فمن حقه على إخوانه المسلمين زيارته للتخفيف عنه مع استغلال الحدث للنصيحة الملائمة؛ كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن اليهودي، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم». فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: أطع أبا القاسم: فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:« الحمد الذي أنقذه من النار».
خامساً: لو ظهر ظلم على أي مسلم من آخر حاكماً كان أو محكوماً لزم جميع المختلفين أن يقفوا يداً واحدة ضد الظالم بحيث يعالجون الظلم بالحكمة والروية بعيداً عن مفاسد أعظم من رفع الظلم.
سادساً : السعي لدعوة الأمة للالتفاف حول علمائها.
حيث يلزم الجميع أن يرجعوا لكبار علمائهم لأخذ المشورة والفتوى في العارضة أو النازلة أو الفتوى الشرعية المنصوص عليها.
وقد ذكر الله ذلك في قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء:83].
وقال تعالى: “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” [النحل:43]، وقد ثبت في الحديث: «فإنما شفاء العِي السؤال» [أخرجه أبو داود في سننه من حديث جابر]، ومعنى العِي: بكسر العين الجهل.
قال شيخنا صالح الفوزان: «يرد إلى الرسول إليه صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى سنته بعد وفاته (وإلى أولي الأمر) وهم أهل العلم وأهل السياسة والعقل، ولاة الأمور فيحلون هذه المشاكل ويضعون لها الحلول الناجحة بإذن الله عز وجل، هذا هو طريق الحل في هذه المسألة، ويتولى ذلك أهل العلم وأهل الرأي من الرعية – أهل الرأي والبصيرة والعقول – ما هو بالفوضى والدهماء»([3]).
سابعاً: قيام العلماء الربانيين المصلحين الغيورين بدورهم لجمع الكلمة، ووحدة الصف، لإصلاح مواطن الخلاف بين الأطراف العلمية والجماعات المختلفة في الساحة وفقاً للكتاب والسنة حتى لا يكونوا لقمة سائغة للعدو، وحتى نفوت الفرصة على المغرضين والمفسدين([4]).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «أنا أريد بالحركة العلمية أن يكون هناك من العلماء الموثوقين والمرضيين من الجانبين، يجمعون هؤلاء ويتكلمون معهم، والشباب إذا نُمّوا على هذا سيكونون غداً رجالاً ويديرون دفة الأمة، فإذا تربوا على هذا الخلاف وهذه البغضاء وهذه الكراهة حصل شرٌّ عظيم»([5]).
ثامناً: ينبغي لعلماء أهل السنة وكذا دعاة الحركات الإسلامية التي هي أقرب للسنة أن يكون لهم اجتماع دوري في كل بلدة ولو في السنة مرة أو مرتين، ومهمة هذا الاجتماع مناقشة أحوال ومشاكل الشعب والوطن والخروج بمجموعة توصيات يشرف على تنفيذها لجنة من الأطراف المجتمعة أو ممن ترشحهم من غير المجتمعين، ومن أهم أعمالها مناقشة الخلافات والسعي لتخفيف حدتها وعمل جدولة مزمنة ومرتبة لزيارة السلطان والمحافظين والمدراء وقيادات الأحزاب السياسية وبقية موظفي الدولة وغير موظفي الدولة من الأعيان والتجار ونحوهم بغرض النصح وتصحيح الأخطاء بالحكمة والعلم واللين، ويتم تحديد أسماء الزائرين في كل زيارة من خلال هذه اللجنة التي يتفرع عنها عشرات اللجان في عموم المحافظات والمدن، ولن تكون هذه وظيفة مشغلة للعلماء عن الدعوة والتدريس والتأليف لأن الأدوار مقسمة ومرتبة، ولأن هيكلتها إدارية يقوم بترتيبها والأشراف عليها موظفون إداريون تخضع إدارتهم لتعليمات وتوصيات اللجنة العلمية الأم التي تكونت من العلماء في الاجتماع الدوري”، بعيداً عن البيعة والتحزب، وإنما تعاون وفق الكتاب والسنة في حدود المتفق عليه درءا للمفاسد وجلباً للمصالح، ولا مانع من وجود لوائح إدارية لا تتنافي مع الشرع لأجل تنظيم الإدارة ومراقبة سير عملها وفقاً للمهام المنوطة.
ومتى كان العلماء والدعاة عقلاء حكماء هابهم الملوك والرؤساء وغيرهم، فإذا تفرقوا وتنافروا وتدابروا فلن يهابهم أحد، بل ستسقط هيبتهم وثقتهم لدى عوام المجتمع فضلاً عن طبقة المتعلمين، وهذه عادة قديمة، يعرفها كل من قرأ تاريخ الأوائل وأدرك أحوالهم، ولكن بعض الفضلاء لا يعقلون.
المحور الرابع: الدور الحزبي.
وسأعلق على هذا الدور من باب زيادة التوضيح وإلا فالأصل أن المحاور الثلاثة السابقة في ظل النظام الديمقراطي وغيره من الأنظمة الوضعية تغني الأمة المرحومة عن الحديث عن الكلام حول “الأحزاب السياسية”، فأقول :
لا شك أن الدور الحزبي في ظل النظام الديمقراطي وغيره من الأنظمة الوضعية من أخطر الأدوار وأضرها على الشعب والوطن والحياة السياسية، وذلك أن الحزب السياسي بضاعة تتصادم مع الشريعة الإسلامية، وإن ألبسه الديمقراطيون لباس العروس وقالوا عنه: “إنه تنافس شريف يقدم فيه كل حزب ما لديه من البرامج الإصلاحية دون إحداث بلبلة وفوضى تخل بالنظام العام” وطبعاً هذا مجرد كلام لم نجده في الواقع الملموس ولا حتى في دول العالم الغربي المتقدم، بل الموجود هو عكس ذلك تماماً، ولعلكم شاهدتم وتشاهدون من خلال وسائل الإعلام الدول الكبرى مثل روسيا وأمريكا وألمانيا وغيرها ومثلها الدول العربية ذات الأنظمة الديمقراطية، حيث يتكرر فيها تصادم الأحزاب مع بعضها ببعض، فتتطور إلى اتهامات تصل إلى تصفيات لبعض القادة عبر المافيا أو عبر عصابات وجهات مجهولة عند الغرب والعرب وغيرهم.
والحاصل: أن الحزب السياسي يتأسس وفق النظام الديمقراطي بموجب اتفاق مجموعة من مواطني الدولة على مجموعة أفكار ومعتقدات (إيديولوجية) ورؤى برامجية بهدف الوصول إلى السلطة، فيكون في الدولة أكثر من عشرة أحزاب أو عشرين أو أكثر، وكلها أحزاب متفرقة تتناحر لأجل الوصول إلى السلطة، وهذا عين التفرق والتحزب الذي نهى عنه الشرع الحكيم، ويكمن دورها السياسي في تقديم البرامج السياسية التي تخضع للانتخاب الشعبي فإذا فاز برنامجه في التصويت فإن الحكومة تدرجه في مشروعها، ومن أدوار الأحزاب السياسية حق الاعتراض على السلطة وتبني مقترحات بديلة، وكل حزب يقترح البديل وفق توجهه الحزبي ويسميها “إصلاحات” وقد لا تكون إصلاحات حقيقية، وعادة ما تكون إصلاحات تخدم الحزب بالدرجة الأولى، وقد قال “جون بانوا” في تعريف الحزب السياسي بأنه: تجمع منظم بقصد المساهمة في تسيير المؤسسات والوصول إلى السلطة السياسية العليا في الدولة لتطبيق برنامجه في الدولة وتحقيق مصالح أعضائه”، وهذا ما عليه جمهور الغربيين في أن مصلحة الحزب وأعضائه في الواقع فوق مصلحة الشعب، ولا يكون اقتراحه وبديله ملزماً لكنه في العادة يحدث فوضى وبلبلة في الحياة السياسية من قبل المعارضين، لأن كل حزب يدعي أنه النزيه والبطل العظيم، وهذه المنافسات والاعتراضات والتصادمات بين الأحزاب تعرض الوطن والشعب إلى مزيد من التذبذب والتقهقر وخاصة إذا كان هذا الحزب ممولاً من الخارج ليؤدي رسالة العمالة للخارج، وما أكثر هذا النوع الحزبي في بلادنا العربية من خلال السفارات الأجنبية أو العربية المعادية لدولة ما، ومن أدواره خوض الانتخابات البرلمانية بحيث يمثله في البرلمان شخصيات تتكلم وتقترح وتنافس باسم الحزب، فإذا كانت أغلبية الأصوات له فإنه مرشح لقيادة البرلمان والحكومة، ومن أدواره السعي لجمع منتميين جدد وتثقيفهم بهدف الانتماء للحزب، وقد يصل بالمنافسة في الانتخابات الرئاسية إلى تولي رئاسة السلطة، فيكون هذا الحزب هو “الحزب الحاكم”.
والمتأمل في هذا المحور الحزبي يجد أن هذا النوع من التعددية الحزبية بضاعة عفنة تمزق الصف وتشتت المجتمع وتخلق الأفكار المتعددة المنافية للدين، فتجعله عبارة عن شعب متناحر في أي لحظة يمكن أن يولد انفجاراً شعبياً يتحول إلى تصفية قتالية بين قادة الأحزاب ثم إلى حرب أهلية سياسية تقضي على انسجام الشعب واتحاد أواصره.
لأن قادة هذه الأحزاب وللأسف تبنوا النفاق والمراوغة والخداع والسعي لنصرة الحزب دون أن ينظروا لمصلحة الشعب والوطن، ولذا انتهت الأحزاب السياسية المعارضة للحكم في البلاد العربية بأن قامت بثورات الربيع العربي ضد حزب السلطة الحاكم ومن معه من الأحزاب، مستخدمين الشعوب المسكينة التي لا تعرف خطر هذا المخطط ولا مصادره، وانتهت هذه الثورات بتفكك المجتمع وسفك دمه وخراب وطنه مع مزيد من الفقر والتقهقر، وهذه النتيجة هي: ما أراده أعداؤنا، فقد تحقق ما أرادوه بأيدينا.
وقد خاضت بعض الحركات الإسلامية معترك تجربة التعددية الحزبية وكانت مشاركة في الخطأ كغيرها من الأحزاب غير الإسلامية التي لم تتميز بالتصفية والتربية، ولو أنها اكتفت بالمحاور الثلاثة المتقدمة لكانت جهة صالحة ومصلحة ونافعة وإيجابية، ولكن لله في خلقه شؤون.
ثم المتأمل اليوم بعين البصر والبصيرة يجد أن مشاركة الإسلاميين في كل البلاد العربية أدت إلى اتهامهم بالإرهاب والسجن ومنعهم من الحياة السياسية وتأليب الشعوب عليهم حتى تضرر العلماء والدعاة الذين لا علاقة لهم بهذه الجماعات والتنظيمات الإسلامية بسبب خوض هذا المعترك، بينما من تحالفوا معهم من الأحزاب غير الإسلامية لم تُوجه لهم أي تهمة من الأعداء، وهنا يبين السر في أن الأعداء لا يريدون “إسلاماً” بغض النظر عن الأخطاء التي ارتكبتها الحركات الإسلامية مما يتصادم مع الشرع المطهر.
نعم هناك دول عربية وخليجية عُرف ملوكها وأمراؤها بالدهاء واحتواء الإسلاميين بطرق ذكية، ولذا فيها أحزاب إسلامية سياسية لم تُطارد ولم تُمنع من مواصلة الحياة السياسية الحزبية إلا أن هناك إشارات وأصابع اتهام تلاحقهم، ولذا لم يأت دورهم بعد، لأن تطبيق الخطط والبرامج الغربية يمر بمراحل متدرجة وإن طال الزمن، فالآن نسمع عوي الذئاب وغداً هجومها، فاقدروا للأمر قدره.
وقد يقول قائل: في حالة عدم مشاركتنا في التعددية الحزبية فإننا لن نصل للسلطة في ظل النظام الديمقراطي المفروض من الحاكم، فما الحل؟
فالجواب وقد تكرر: أن الإسلاميين لما شاركوا في التعددية الحزبية فشلت تجربتهم لعدة أسباب يطول ذكرها، وقد أشرنا إلى ذلك في أكثر من مقال وجلسة، ومن هذه الأسباب أن أعداء الله جروهم للتحزب ليفشلوهم أمام الشعوب ويجعلوهم من ضمن الأسباب التي كانت سبباً لسفك الدماء وخراب الأوطان وقد فعلوا، لأن الغرب بشقيه الأمريكي والأوربي وكذلك بقية الأعداء لا يريدون للمسلمين خيراً، فهذا البحر الحزبي الذي خضتوه أيها الإسلاميون أوقعكم في الغرق فلم تنجحوا، ولم تفلحوا، بسبب أنه معترك يتصادم مع الدين وبسبب قصوركم وبعدكم عن الضوابط الشرعية، وكذا بعدكم عن مشاورة كبار علماء الأمة، و بسبب كثرة أعدائكم.
إذن الحصيلة الأخيرة أنكم فشلتم، وقد تكررت هذه التجربة مرات ومرات دون أن تحقق نجاحاً ملموساً خلال تسعين سنة من تجاربكم المتكررة حتى اليوم، وهذا يعني أن الحل يكمن في الأخذ بقول نبيكم عليه الصلاة والسلام للصحابة: “إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ” ، فَلَمْ يَسْمَعْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: أَلا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا: مَا قَالَ؟ ، قَالَ: ” إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ” ، قَالُوا: فَكَيْفَ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ كَيْفَ نَصْنَعُ؟ ، قَالَ: ” تَرْجِعُونَ إِلَى أَمْرِكُمُ الأَوَّلِ”([6]).
إذن ما هو الأمر الأول؟ الجواب: أمرنا الأول في عصرنا الحاضر هو العودة إلى ما قبل التعددية الحزبية، وهو خدمة الدين والشعب والوطن وفق أدلة وضوابط الكتاب والسنة بعيداً عن التحزب، وقد لخصت ذلك في المحاور الثلاثة المتقدمة لأهمية تفعيلها في ظل الخلافات المعاصرة بين المسلمين.
لكن قد يقول قائل إذا عشنا في بلاد كافرة “دولة من دول العجم” أو في دولة عربية لا تحكم بما أنزل الله، ولا تستمد الأحكام من الإسلام، بل تحاربه، وتشجع العلمانيين وغيرهم على محاربته، بل وتفرض الانتماء الحزبي، وفي حالة عدم انتمائك لأي حزب، تحرم من حقوقك سواء كنت مواطناً أو مقيماً، فهل يجوز للصالحين تأسيس حزب إسلامي أو الانتماء لحزب هو أولى من غيره، نظراً لهذه الضرورة الملحة؟
فالجواب: أنه قد سبق أن بينت حكم هذه المسألة من خلال مقالات “دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية، وذلك في الحلقة رقم 12 تحت عنوان تشتت الصف بإنشاء الأحزاب السياسية تحت مظلة الديمقراطية” حيث قلت: من عاش في بلاد تحارب الدين علناً ولا تحكم بما أنزل الله ، وتمنع العلماء والدعاة من نشر العلم والدعوة إلى الله، أو في البلاد الكافرة أو كان المسلمون فيها أقلية، ولا تتحقق حقوقهم الشرعية ودعوتهم الدينية إلا بإنشاء حزب لهم، فلا بأس بشرط إنكاره وكراهيته لولا الضرورة مع أمنهم من الفتنة، دفعا للأضرار المترتبة حال عدم خوضهم في ذلك وعملاً بقاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
قالت اللجنة الدائمة وعلى رأسها الشيخ عبد العزيز بن باز: «من كان لديه بصيرة في الإسلام وقوة إيمان وحصانة إسلامية وبعد نظر في العواقب وفصاحة لسان، ويقوى مع ذلك على أن يؤثر في مجرى الحزب فيوجهه توجيهاً إسلامياً – فله أن يخالط هذه الأحزاب، أو يخالط أرجاهم لقبول الحق، عسى أن ينفع الله به، ويهدي على يديه من يشاء، فيترك تيار السياسات المنحرفة إلى سياسة شرعية عادلة ينتظم بها شمل الأمة، فتسلك قصد السبيل ، والصراط المستقيم ، ولكن لا يلتزم بمبادئهم المنحرفة، ومن ليس عنده ذلك الإيمان ولا تلك الحصانة ويخشى عليه أن يتأثر ولا يؤثر، فليعتزل تلك الأحزاب؛ اتقاء للفتنة ومحافظةً على دينه أن يصيبه منه ما أصابهم، ويبتلى لما ابتلوا به من الانحراف والفساد ([7])» اهـ.
وقالت أيضاً وعلى رأسها الشيخ عبد العزيز بن باز: «يشرع للمسلمين المبتلين بالإقامة في دولة كافرة أن يجتمعوا ويترابطوا ويتعاونوا فيما بينهم سواء كان ذلك باسم أحزاب إسلامية أو جمعيات إسلامية؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى»([8]) اهـ.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة قادمة.
([1]) الألباني، سلسلة الهدى والنور – الشريط رقم: (221).
([2]) العباد، شرح سن الترمذي، كتاب الصلاة، شريط رقم:64.
([3]) الفوزان، خطبة جمعة مسجلة صوتيات بعنوان: «وجوب التمسك بمنهج أهل السنة والجماعة»، منشورة على موقعه الإلكتروني.
([4]) انصح بقراءة مقالي الذي بعنوان: “الرسالة الختامية إلى كل عالم وداعية، الحل الأمثل في حل النزاعات التي مزقت الصف وكيفية التعامل مع الخلاف”.
([5]) ابن عثيمين، فتوى صوتية لفضيلته ردا عن سؤال ورده يتعلق بالخلافات بين السلفيين، وهو منشور على الشبكة العنكبوتية.
([6]) أخرجه الطحاوي في “شرح مشكل الآثار” برقم ( 100) الطبراني في الأوسط برقم (8906) وصححه الألباني في “السلسة الصحيحة” برقم (3165)..
([7]) فتاوى اللجنة الدائمة (12/385 فتوى رقم 6290).
([8]) المصدر السابق ( 23/408 فتوى رقم 5651)