مشروع “الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي”
( ضمن موضوع دراسات شرعية واقعية في الديمقراطية وأصول الأحزاب السياسية)
الحلقة (18)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
قيام دولة إسلامية حديثة وفق النظام الإسلامي العادل المتمثل بالكتاب والسنة مطلب كل مسلم غيور على دينه، ومطلب كل من يرفض التحاكم إلى غير ما أنزل الله.
بل عموم المسلمين اليوم يرجون قيام هذه الدولة التي تقيم العدل والاستقرار والأمن وتطبق أحكام الله في محاكمها وأجهزة أنظمتها المختلفة بمثل ما كانت عليه الدولة الراشدة في العهد النبوي الزاهر، وفي زمن الخلفاء الراشدين الأربعة، ومن سار بسيرهم كأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ومما لا شك فيه أن العدل والأمان في هذه الدولة يشمل كل من يعيش فيها من المسلمين وغيرهم، لأن الدولة الإسلامية الراشدة تمنح البشرية جمعاء الأمن والأمان وكافة حقوقهم التي ضمنها لهم الإسلام.
وإليكم أمثلة من التاريخ تشهد بذلك:
المثال الأول: قصة القبطي مع عمرو بن العاص.
وتتلخص القصة: “أن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عندما كان واليًّا على مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشترك ابنٌ لعمرو بن العاص مع غلام من الأقباط في سباق للخيول، فضرب ابن الأمير الغلام القبطي اعتمادًا على سلطان أبيه، وأن الآخر لا يمكنه الانتقام منه؛ فقام والد الغلام القبطي المضروب بالسفر صحبة ابنه إلى المدينة ، فلما أتى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، بَيَّن له ما وقع، فكتب أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص أن يحضر إلى المدينة صحبة ابنه، فلما حضر الجميع عند أمير المؤمنين عمر، ناول عمر الغلام القبطي سوطًا وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عمرو بن العاص، فضربه حتى رأى أنه قد استوفى حقه وشفا ما في نفسه، ثم قال له أمير المؤمنين: لو ضربت عمرو بن العاص ما منعتك؛ لأن الغلام إنما ضربك لسلطان أبيه، ثم التفت إلى عمرو بن العاص قائلاً: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”([1]).
المثال الثاني: قصة فتح سمرقند.
في عهد عمر بن عبدالعزيز فتح الجيش الإسلامي مدينة سمرقند ولم يمهل قائد الجيش قتيبة بن مسلم أهل المدينة ثلاثة أيام، ولم يخيّرهم بين الإسلام والجزية والقتال، وكان أهل سمرقند يعرفون ذلك عن المسلمين، فقام أهل سمرقند بإرسال شكواهم إلى خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز يقول رسول أهل سمرقند – وهو أحد كهانهم-: ذهبت أقطع الطرق والبلاد حتى وصلت إلى دمشق عاصمة الخلافة ودخلت أعظم بناء في المدينة فوجدت أناساً يركعون ويسجدون، فسألت أحدهم أهذه دار الوالي؟ فقال: لا، هذا المسجد، أما صليت؟ فقلت له: ما صليت قط إنني على دين أهل سمرقند، وأخذ يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته، ثم قال لي: اسلك هذا الطريق نهايته بيت الوالي فذهبت فإذا بي أجد رجلاً قد ارتقى سلماً بأعلى الدار، ووجدت امرأة على الأرض تناوله الطين ليسد فتحة في الدار، فرجعت إلى الذي دلني، وقلت له أسألك عن دار الوالي، فتدلني على رجل طيان، فقال لي تلك دار الوالي، فتعجب ورجع إلى الدار ووجد أن ذاك الطيان هو أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، فأخبره بما حدث في الفتح، فأمر عمر بن عبدالعزيز بتعيين قاضي للتحقيق في الأمر، فسأل القاضي قتيبة عن ما حدث، فقال: الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم أنعم الله به علينا وأنقذه بنا من الكفر، فقال القاضي: هل دعوتم أهله إلى الإسلام والجزية والقتال؟ فقال: لا ولكننا دخلناه مباغتة، فقال القاضي: حكمت بأن يخرج جميع المسلمين كافة من سمرقند كما دخلوها، فلم يصدق أهل سمرقند هذا، وأخذوا ينظرون للجيش وهم يخرجون، ولم يصدق ذلك حتى خرج الجيش كله، فقال الكهنة: والله إن دينهم لهو الحق، فأسلم الكهنة، ثم اسلم جميع أهل المدينة”([2]).
المثال الثالث:
تروي المؤرخة النصرانية المعاصرة “إيريس حبيب المصري” في كتابها: “قصة الكنيسة القبطية” عن غزو الفرنسيين لمصر، وقيام بعض النصارى المصريين برئاسة “المعلم يعقوب” بتكوين جيش اسمه “الفيلق القبطي”؛ لمساعدة “نابليون” في غزو مصر، ودلُّوا على عورات البلاد؛ فأفلح، وكان عدد المصريين النصارى ألفي رجل، فلما انهزم نابليون، وانسحب الجيش الفرنسي عائدًا إلى بلاده خرج معهم المعلم “يعقوب” وجيشه إلى فرنسا، فجاءت نساؤهم وأطفالهم يستعطفون الحاكم المسلم، قائلين: “نحن لا ذنب لنا فيما فعله رجالنا”. فأمر الحاكم المسلم بتأمينهم، وعدم المساس بهم، وبالفعل نسي المسلمون ما كان من نصارى القبط، وعاشوا في مصر بأمان.
وتحكي المؤرخة المعاصرة “كارين أرمسترونج” أن: “أهل الشام كانوا يرسلون إلى قادة جيوش المسلمين يدعونهم لفتح بلادهم وتخليصهم مِن الروم المسيحيين؛ لما سمعوه عن عدالة المسلمين في حكم البلاد”.
ولقد شهدت كتب المؤرخين النصارى “كارين – وإيريس – وأندرو ميللر” وغيرهم بعدل الحكام المسلمين مع غير المسلمين.
وأمثلة العدالة والأمان في الإسلام أكثر مما تحصى بأقلام المؤرخين غير المسلمين فضلاً عن المؤرخين المسلمين وتاريخهم العدل المشرف.
شَهِدَ الأَنَامُ بِفضْلِهِ حتى الْعِدَا وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ به الأَعْدَاءُ
الدولة الحديثة والتقدم المعاصر
لا تمانع الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي من الاستفادة من كافة الوسائل والعلوم والأبحاث الحديثة التي تكون سبباً من أسباب التقدم والرقي.
ومن ادعى أن الإسلام لا يواكب العصر فيما أباحه الشرع من العلوم الدنيوية فهو جاهل بأدلة الكتاب والسنة، ولا يلتفت لقوله.
إذ الحقيقة التي دلت عليها النصوص الشرعية وأثبتها التاريخ الإسلامي أن: الإسلام يقبل التقدم العلمي والتكنولوجي والتطور المحمود الذي يرقى بالحياة والإنسان، لكنه في الوقت نفسه يرفض التغريب الذي يَسلخ الأمة من جلدها، ويبعدها عن دينها.
فقديماً أخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره من أمراء المسلمين نظام الدواوين وأنظمة تقسيم الجيوش ونظام رواتبهم وتقسيم الوظائف وهيكلة بناء الدولة في ظل كثرة الفتوحات وتوسعها من عجم الروم والفرس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً.
فهذه الأمور الحياتية المعاصرة والوسائل النظامية الحديثة لا حرج من أخذها من غير المسلمين لكونهم أعلم منا في أمور الدنيا وعلومها طالماً لم تخالف نصاً شرعياً، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”.
والحاصل: أن الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي تدعو إلى التطور والتقدم والمساعدة في الحصول على التكنولوجيا الجديدة، وتعبئة وتوجيه الموارد إلى القطاعات الإنتاجية، وفرض المعايير واللوائح، وإنشاء المواثيق الاجتماعية، وتنظيم الخدمات والبرامج الاجتماعية وتمويلها، وبناء الدولة بناء معاصراً يتواكب مع العصر بما لا يتصادم مع أصول شريعتنا السمحة.
الدولة الحديثة دولة رحمة وشفقة بالبشر
لقد أعطى الإسلام الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية حق العيش والأمان وضمن لهم الأمن والاستقرار، وخيَّر من لم يدخل في الإسلام بخيارات تضمن لهم السلامة والأمان وإن لم يسلموا، ومن فرضت عليه الجزية وليست عنده قدرة في دفعها فإنها تسقط عليه، وعلى كافة فقراء غير المسلمين.
وقد اشترط الفقهاء لفرض الجزية على أهل الذّمّة عدّة شروط،ً أهمها: البلوغ، والعقل، والذّكورة، والحرّيّة، والمقدرة الماليّة، والسّلامة من العاهات المزمنة، فأسقطوا الجزية على كل ذمي لا قدرة له على دفعها، بينما فقراء المسلمين لا تسقط عليهم أمريكا وغيرها من الدول غير الإسلامية الرسوم والضرائب السنوية إذا عاشوا في تلكم البلدان غير الإسلامية، وهي مبالغ أكثر من الجزية الإسلامية السنوية.
وإليكم بعض أدلة الرحمة في الإسلام:
قال الله تعالى: “لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ” (التوبة: 128).
وقال صلَّى الله عليه وسلم كما ثبت عنه: “يا أيها النَّاس إنَّما أنا رحمة مُهْداة” أخرجه رواه الحاكم وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي.
وثبت عنه أنه قال: “من لا يَرحمْ، لا يُرحمْ، ومن لا يَغفرْ لا يُغفرْ له، ومن لا يَتب لا يُتبْ عليه” أخرجه الطبراني عن جرير.
وأخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلَّى الله عليه وسلم: “إنَّ الله لم يبعثني معنِّتاً و لا متعنِّتاً ولكن بعثني معلِّماً ميسِّراً”.
وكان يوصي أمراء سراياه وبعوثِه بقوله: ”اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدُروا، ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليداً” أخرجه أحمد ومسلم عن بريدة رضي الله عنه.
وفي رواية قال: “لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلّوا، وأصلحوا وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين”. أخرجه أبو داود في سننه.
وحرّم الشرع الحكيم الاعتداء على من أمّنه المسلمون من أهل الذّمّة والعهود والمواثيق، فقال صلى الله عليه وسلم: ”من قتل معاهَدًا لم يرَحْ رائحةَ الجنَّة، وإنَّ ريحَها ليوجد من مسيرةِ أربعين عامًا” أخرجه البخاري.
ما توفره الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي
ليعلم الشرق والغرب وكل أبناء الإسلام أن: دولة الإسلام توفر لكل من يعيش فيها كل ما يحتاجه منذ ولادته حتى بعد موته الذي ينتهي بغسله، وتكفينه، والصلاة عليه، وحمل جنازته، ودفنه في مقبرة خصصتها الدولة على نفقتها واهتمت بحدودها ومقابرها وحراسة سورها للمحافظة على حرمة الميت بعد وفاته.
فهي توفر للمواطنين والمقيمين: حقوق التعليم الصحيح، وحرياتهم غير المنافية للشرع، والخدمات والمنافع العامة، وتهتم بشئون الدفاع والنظام العام، وتحمي حقوق الملكية، وتهتم بالصحة وتحسين مستوى المعيشة، وتحارب الفقر والجهل والتخلف والاستبداد والرجعية، وتسعى لتحسين مستوى التربية والتعليم والبيئة، وتمنع الاحتكارات، وتنظم القطاع المالي والإداري في الدولة، وتشجع على الصناعة والزراعة ونحوها مما يطول ذكره وفق نظام أساسي في كافة دواوين الدولة ومؤسساتها ووزاراتها وهيئاتها ومحافظاتها وقراها، مع متابعة حقيقية وفق مراقبة تامة لكل هيئات ووزارات ودواوين ومؤسسات الدولة بعيداً عن الفساد الإداري الذي نلمسه في الدول والجمهوريات القائمة على الأنظمة الوضعية البشرية، كما تحفظ لهم كل الواجبات والمسؤوليات التي يتم تطبيقها ضمن نطاق هذه الدولة ودستورها العام، كما توفر لهم فرص العمل والعيش الكريم لمواطنيها لكونها تتجنب تحولهم إلى عاطلين يشكلون عبئاً على الميزانية العامة أو مثالاً للبطالة، أو مصدر هدر لجزء من المال العام فيلحقون الضرر بمنافع بقية من يعيش على أرض الدولة باعتبار أن هذا الضرر الجسيم هو صورة للفساد المالي والإداري الذي تعاني منه العديد من دول العالم الثالث، كما تسعى الدولة لبناء مجتمع اقتصادي نموذجي وتؤهل أفراده ليكونوا منتجين وليسوا عاطلين يشكون الفقر باعتباره ظاهرة اجتماعية سلبية تتناقض مع قيم ومثل النظام الإسلامي، كما توفر لهم المناخ الأمني والاستقرار النفسي باعتبار الحاجة إلى الأمن ضرورة دينية واجتماعية ونفسية لا يمكن الاستغناء عنها، كما توفر لهم بناء المؤسسات التعليمية الدينية والدنيوية وتهيئة مستلزماتها لنشر المعرفة الشرعية والمعرفة المهنية والثقافة العامة من أجل تنمية الناس دينياً ومعرفياً ومهنياً، وبناء المؤسسات الصحية وتضمينها الوسائل التقنية الحديثة لمكافحة مختلف الأمراض والأوبئة، مع توفير سبل الوقاية منها لتأمين الأمن الصحي والنفسي والمعنوي لأفراد المجتمع، كما تبني لهم مؤسسات الحفاظ على البيئة والتشجيع على تأسيس منظمات الدفاع عن البيئة مع توفير الدعم اللازم لها لتمارس دورها في حماية البيئة وإصلاحها، كما تعتمد نظام الضمان الاجتماعي لرعاية كبار السن والمعوقين والمتقاعدين، كما توفر لهم سلطة اقتصادية تتجسد في الإنتاج والاستثمار عبر مؤسسات وشركات قطاعها العام، إضافة إلى ممارستها لوظيفتها الإدارية بالإشراف على تطوير السوق المالية والمصارف الإسلامية المنضبطة وحمايتها من الاحتكار والأزمات والتضخم بكافة أنواعه عبر تنفيذ برامج مالية محددة، مع أحقية أن يمارس رجال الأعمال والقطاع الخاص والمختلط من المستثمرين والمنتجين نشاطاتهم الاقتصادية التجارية بصورة مستقلة بشرط أن لا تتصادم مع النظام الاقتصادي الإسلامي العام، كما تتبنى الدولة مبدأ المساءلة من قبل جهاز تؤسسه لمتابعة سياسات وزاراتها ووزرائها والمدراء العامين والموظفين الكبار والصغار واقتفاء آثار الفساد والمفسدين لتقديمهم إلى القضاء العادل لمحاسبتهم، كما لا تسمح الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي بالتداخل في الوظائف والحقوق بين المؤسسة العسكرية الاستثنائية وسلطة الشرطة والأمن الداخلي باعتبار أن سلطتهما مدنية تعمل على توفير الأمن للدولة داخلياً وتنظيمه ضمن قطاعها العام، وكذلك القطاع الخاص.
كما توفر الدولة مبدأ التعاون بينها وبين الشعب في مجال مكافحة الجريمة والفساد المالي والإداري متى ما ظهر وكشفه فرد من أفراد المجتمع.
مكونات أركان الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي
تختلف صلاحيات أركان الدولة في ظل النظام الإسلامي العادل عن ما هو في النظام الديمقراطي وغيره من النظم البشرية الوضعية، وذلك أن النظام الإسلامي يجعل المسؤولية في اختيار الحاكم منوطة بأعضاء مجلس الشورى المكون من كبار العلماء والأعيان في البلدة، وهم الجهة الوحيدة التي تعين وتعزل الحاكم وفق شروط الولاية الشرعية الموافقة للكتاب والسنة والتي سيأتي ذكرها، فإذا تم تعيينه، فالحاكم رئيس الدولة بكافة أشكالها وهياكلها، وصاحب النفوذ المطلق في القيام بكافة شؤون الدولة، وهو من يعين ويرقي كافة موظفي الدولة بنفسه أو من خلال نوابه بما في ذلك رئيس مجلس الوزراء والوزراء وولاة المحافظات وغيرهم من الموظفين صغيراً كان أو كبيراً، ولا يكون له نائب في الحكم إلا بإذنه، ولا يحاسب الحاكم إلا مجلس الشورى فهو سلطة على الحاكم، في حال ظهر من الحاكم ظلم أو تعسف أو خلال بالأمن أو تقصير بالمهام أو نحو ذلك.
وتتكون الدولة في ظل النظام الإسلامي من عدة أركان رئيسة، وهي:
الأول: الحاكم ( أمير البلاد ).
وهو رئيس الدولة، وصاحب النفوذ المطلق وفقاً لقرار مجلس الشورى، كما يعتبر السلطة الأولى المسؤولة عن العدل والأمن والاستقرار في داخل الدولة بكافة ولاياتها ومناطقها، ويعين ويرقي كافة موظفي الدولة بنفسه أو من خلال نوابه بما في ذلك رئيس مجلس الوزراء والوزراء وولاة المحافظات وغيرهم من الموظفين صغيراً كان أو كبيراً، ولا يكون له نائب في الحكم إلا بإذنه، ولا يحاسبه إلا مجلس الشورى فهو سلطة عليه في موضعين الأول عند تعيينه وتنصيبه رئيساً للدولة، والموضع الثاني عند عزله، فمجلس الشوري هو الجهة الوحيدة التي لها حق اختيار وتنصيب الأمير والياً على الرعية متى كان أهلاً للحكم، وعزله متى سقطت أهليته واختل شرط من شروط ولايته، وليست هناك مدة معينه لبقائه، بل يبقى على رأس الحكم ما بقيت أهليته وعدالته، كما يمثل الوالي الدولة أمام بقية العالم، حيث يشارك بذاته أو من خلال نوابه في الاجتماعات الدولية، ويلتقي الوفود الداخلية والخارجية.
الثاني: رئيس مجلس الوزراء.
يتم تعيينه من قبل ولي الأمر “الحاكم”، وهو المسؤول على كل الوزراء المعينين في الحكومة، ويتم تعيين كافة الوزراء بناء على توجيهات ولي الأمر بالمشاورة مع رئيس مجلس الوزراء.
الثالث: مجلس الشورى.
وهو الجهة المخولة بتعيين والي الدولة والياً على الرعية متى كان أهلاً للحكم عدلاً فيه، وعزله متى سقطت أهليته واختل شرط من شروط ولايته للحكم.
ويتكون المجلس من عشرة أعضاء أو أكثر من كبار علماء البلد، ويختار هؤلاء العلماء معهم أربعة أو أكثر من كبار الدهاة والأعيان والوجهاء في البلد، وكذلك أربعة أو أكثر من كبار التجار الأذكياء، فيكون عدد المجلس على الأقل: 18 رجلاً، ومتى رأوا المصلحة زيادة العدد فعلوا نظراً للمهام وكثرتها ونظراً لمصلحة الدولة ورعيتها، وهم من يعين ويعزل رئيس الدولة وفقاً للمصلحة العامة، ويُعد مجلس الشورى السلطة التشريعية، التي تسن القوانين بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وفي حالة كانت القوانين لا تتعلق بالحدود والقضاء الشرعي، فإن كل وزارة وهيئة ومؤسسة حكومية تسن قوانينها وفقاً للجنة التشريع في الهيئات والوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية الأخرى، ولا يتم اعتماد أي قانون حتى يتم عرضه على مجلس الشورى للمصادقة عليه أو تعديله، ومن ثم رفعه لولي الأمر لاعتماده، ومن ثم يكون نافذاً.
كما يعين مجلس الشورى له مستشارين على عدد الوزارات والهيئات ومؤسسات الدولة بما لا يقل عن مستشار واحد متخصص في مجاله، ويكون هؤلاء المستشارون بمثابة ممثلين عن الأجهزة الإدارية أو الوزارات ذات الطابع المدني أو السياسي أو العسكري في مجلس الشورى، ويكون لهم مجلس يسمى بالمجلس الاستشاري بمجلس الشورى، بحيث يستشيرهم العلماء والأعيان والتجار “أعضاء مجلس الشورى” كلما احتاجوا إلى استشارة حسب مجال كل مستشار.
ويكون رئيس المجلس أحد العلماء الكبار، ولا يكون رئيس المجلس من غير العلماء، لأن الحكم إسلامي وهذا من اختصاص العلماء لكون البلد قائم على الأمراء والعلماء.
قال الله تعالى: “وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[النساء:83].
بمعنى: إذا جاءهم أمر من الخوف أو من الأمن فهذا يرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى سنته بعد وفاته، (وإلى أولي الأمر) وهم أهل العلم وولاة الأمر.
فصلاح الدولة لا يستقيم إلا بالعلماء والأمراء معاً.
الرابع: أمراء الأقاليم أو المحافظات ” الولايات”.
ويتم تعيينهم من ولي الأمر.
الخامس: الشعب، وهم الرعية، فلا دولة إلا بأمير ورعيته.
السادس: قيادة الجيوش والعتاد الحربي.
ويتم تعيين قائده من ولي الأمر، وتخضع إدارته لولي الأمر، ولا ولاية لرئيس مجلس الوزراء في الجيش وقادته في النظام الإسلامي.
كما يعين ولي الأمر رئيساً للعتاد الحربي، وتخضع إدارته لولي الأمر ونائبه في المجال العسكري ( قائد الجيوش).
سلطات الدولة ووظائفها
تنقسم السلطة في الدولة إلى ثلاث سلطات مهمة :
الأولى: السلطة التشريعية، وهي التي تسن القوانين بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهي سلطة مجلس الشورى، وفي حالة كانت القوانين لا تتعلق بالحدود والقضاء الشرعي، فإن كل وزارة وهيئة ومؤسسة حكومية تسن قوانينها وفقاً للجنة التشريع في الهيئات والوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية الأخرى، ولا يتم اعتماد أي قانون حتى يتم عرضه على مجلس الشورى للمصادقة عليه أو تعديله، ومن ثم رفعه لولي الأمر لاعتماده، ومن ثم يكون نافذاً.
الثانية: السلطة التنفيذية، وهي الجهة المنفذة والمشرفة على تنفيذ القوانين التي تم اعتمادها من مجلس الشورى، وتم التوقيع عليها من ولي الأمر، وهذه السلطة موجودة في الأجهزة الإدارية أو الوزارات ذات الطابع المدني أو السياسي أو العسكري، ومنها وزارة الداخلية بكافة فروعها في الولايات والمدن.
الثالثة: السلطة القضائية، وهي التي تحمي تطبيق القوانين وتحافظ عليها من العبث والاعتداء من قبل المتمردين والجهال، فهي بمثابة الدرع الحامي لمنع الخروقات والتجاوزات، وإصدار الأحكام الرادعة، وهذه السلطة موجودة في القضاء ، وفي الوزارات والهيئات ومؤسسات الدولة وفقاً للوائح التي يتم اعتمادها من مجلس الشورى.
وتتطور الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي وتتوسع في كافة مؤسساتها لتواكب العصور والأجيال القادمة حسب تزايد السكان وحاجته، وحسب مقتضيات الحياة، والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي يتطور بتجدد العصور.
وكل ما تقدم في هذا المقال: فهو جزء لواقع الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي، وهو مختصر من كتابي “مشروع الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي” ويقع في أكثر من (200 صفحة)، وفيه كل ما يتعلق بالدولة الحديثة بكل إداراتها وهيئاتها ووزاراتها ومؤسساتها وأنظمتها وهياكلها وشروط ومهام وصلاحيات الوالي ورئيس مجلس الوزراء ومجلس الشورى وقيادة الجند والعتاد الحربي ونحو ذلك وفق النظام الإسلامي.
وهو مشروع حياة لا يستغني عنه ولاة أمورنا في العالم العربي والإسلامي كي يقودوا رعيتهم وفق النظام الإسلامي الرباني السماوي المتمثل بأدلة الكتاب والسنة.
فلا عزة للراعي والرعية إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية بعيداً عن الأنظمة الوضعية الرجعية التي أعادتنا إلى زمن الفوضى والتقهقر وفق ما خططه لنا أعداؤنا.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
———————————————-
أهم المصادر والمراجع:
1-عبدالعزيز بن إبراهيم العمري، كتاب الولاية على البلدان الولاية علي البلدان في عصر الخلفاء الراشدين.
2-أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، كتاب فتوح البلدان.
3-إيريس حبيب المصري، كتاب قصة الكنيسة القبطية.
4-كارين أرمسترونج، كتاب تاريخ الأسطورة.
5-سامي عباس، الدولة المدنية، المفهوم ..المبادئ ..التطبيق.
6- صادق بن محمد البيضاني، كتاب مشروع الدولة الحديثة في ظل النظام الإسلامي.
——— الحواشي——–
([1]) عبدالعزيز بن إبراهيم العمري، كتاب الولاية على البلدان الولاية علي البلدان في عصر الخلفاء الراشدين.
([2]) أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، كتاب فتوح البلدان