خلاصة ما قيل من الخطأ والشذوذ في مسألة الخروج على الحاكم عند أهل السنة، وبيان بعض الأدلة والاستدلالات غير الصحيحة في هذا الباب، وحكم من يستدل بأدلة الظلم وانكار المنكر في جواز الخروج
حوار هادئ مع الدكتور صادق بن محمد البيضاني
أجرى الحوار: عارف عقلان المدحجي
الحلقة رقم (8)
س 8: ما تعليق فضيلتكم على من يستدل على جواز الخروج على الحاكم الظالم بخروج الصحابة كطلحة والزبير وعائشة ومن معهم في موقعة الجمل، وبخروج معاوية وعمرو بن العاص ومن معهما في موقعة صفين، وهل خرج عبد الله بن عمرو ومواليه بالسلاح وعبادة بن الصامت عن طاعة معاوية أو عامله عنبسة بن أبي سفيان؟، وما هو قولكم في الخروج المأثور على الحجاج من الصحابي عبد الله بن الزبير والحسين بن علي والتابعين كسعيد بن جبير والحسن البصري وعاصم بن أبي النجود وغيرهم، وماذا عن فتوى ابن حزم والقاضي عياض والقرطبي وأبي حنيفة ومالك في الخروج على أبي جعفر المنصور؟ وهل صحيح أن الشافعي وأحمد في رواية قالوا بالخروج على الحكام الظلمة؟ وهل صح خروج أحمد بن نصر الخزاعي بالسلاح على الواثق؟ وما هو الحكم في من يستدل بآيات وأحاديث وآثار لزوم انكار المنكر ويقول هي تدل على الخروج على الحاكم، ومثل ذلك يحشر آيات وأحاديث وآثار رد الظلم والبغي، ويقول هي تدل على الخروج على الحاكم؟ وفي من يسوق أقوال العلماء الذين اجمعوا وكذا الذين قالوا بعدم جواز الخروج على الحاكم فيستنبط من أقوالهم في شروح بعض النصوص في باب انكار المنكر بأن كلامهم يفيد الخروج على الحاكم بهذا الانكار، وقد فعل ذلك بعبارات لابن حجر وابن تيمية والنووي وابن القيم والذهبي والبغوي وابن قدامة ومحمد صديق خان والشوكاني وغيرهم من المتقدمين، ومن العلماء المعاصرين كعلماء اللجنة الدائمة وابن عثيمين وغيرهم من علماء نجد وكلهم يقولون وينقلون الاجماع على عدم الخروج، ومع ذلك يحاول على الفيسبوك أن يضحك على من حوله بمثل هذه الطرق الملتوية ليوهمهم أنهم يقولون بجواز الخروج على الحكام الظلمة؟
ج 8: هذا سؤال طويل جداً، ومتشعب، وما عهدته من سابق بهذا الطول، وعامة ما فيه من الفقرات تم الاجابة عليها في هذه السلسلة وفي غيرها من الفتاوى والدروس، ولا بأس من جواب مختصر على هذا السؤال أو هذه الأسئلة، فأقول، وبالله التوفيق:
أولاً: لا يجوز أن يقول أحد من الناس أو يستدل بأن الصحابة كطلحة والزبير وعائشة ومن معهم في موقعة الجمل، وكذلك معاوية وعمرو بن العاص ومن معهما في موقعة صفين بأنهم خرجوا على الحاكم الجائر لأن حاكمهم يومئذ هو الإمام العادل، رابع الخلفاء الراشدين، والمبشر بالجنة أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويلزم القائل الاستغفار من ذلك.
وأيضاً هذا الذي فعلوه خطأ ويسمى في الشرع بغياً، هكذا سماه ربنا ونبينا عليه الصلاة والسلام، ثم كل هؤلاء لم يخرجوا عن طاعة علي، وإنما طالبوا بتقديم قتلة عثمان للعدالة ولم يتمكن علي بن أبي طالب من العثور على القتلة لكون بعضهم تفرق في الأمصار، فكانت فتنة عظيمة، وقد أنكر عامة الصحابة على من قام بها لكونهم بهذه المطالبة في وقت عسر عدوه خروجاً على أمير المؤمنين، ولا شك أن هؤلاء أخطأوا في حق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من غير قصد الفتنة والقتال رضي الله عنهم جميعاً، ولزم المسلمون الامساك عما صار بين الصحابة من فتنة، وقد سمى الله ورسوله صنيعهم بغياً فجعلا من خرج على أمير المؤمنين علي يومها بغياً قبل حدوث هذه الفتنة.
قال الله تعالى: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ".
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لعمار بن ياسر كما في الصحيحين: "يا عمار تقتلك الفئة الباغية".
وقد قتلته فئة معاوية.
وفي النفس شئ من صحة وقوف عمرو بن العاص مع معاوية يوم الفتنة.
والباغي هو الخارج على الإمام العادل، وقد اتفق العلماء على حرمة الخروج على الامام العادل عملاً بجملة من الأدلة منها الآية السابقة ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه" أخرجه مسلم.
ولذا قاتل كثير من الصحابة مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الفئة الباغية في موقعة الجمل وصفين واعتبروا ما حصل من معاوية ومن معه خطأ، فالاستدلال السابق لم يكن خروجاً على حاكم جائر، وإنما كانت فتنة وبغي في ظل حاكم عادل كما تقدم.
ثانياً: لم يخرج عبد الله بن عمرو ومواليه بالسلاح ولا عبادة بن الصامت عن طاعة معاوية.
فأما ما جاء عن عبدالله بن عمرو أنه حمل سلاحه فإنما كان مدافعاً عن حقه والدفاع عن الحق لا يكون خروجاً على السلطان إذا دافع عن مال له مخصوص ضمه عامل الوالي للدولة أو نحو ذلك، فهذا شيء شخصي، وهذا ما حصل من عبد الله بن عمرو، ولذا فالقصة في صحيح مسلم، وفيها ذكر عبد الله بن عمرو أنه لم يحمل سلاحه إلا للدفاع عن ماله وإليكم نص القصة لتفهموها جيداً: عن ثابت البناني أنه "لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان تيسروا للقتال فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه خالد فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتل دون ماله فهو شهيد".
فالأثر واضح وكلام ابن عمرو واضح والمقصود بقوله: "تسيروا للقتال" أن ابن عمرو ومواليه جاءوا مدافعين عن حق لابن عمرو وقد استدل ابن عمرو بأن هذا مجرد دفاع عن ماله وليس خروجاً عن طاعة، وكلنا يحمل سلاحه ويفعل مثل ذلك دفاعاً عن أرضه وماله ضد من تعدى على أرضه، وتاريخ العرب في هذا مشهور، وذو شجون، فلا يسمى ذلك خروجاً كما أفاده عبد الله بن عمرو وأوجزه بقوله: "أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل دون ماله فهو شهيد"، وإن كان الأولى هو الاحتكام للوالي أو القاضي.
وسبب هذه القصة ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/123) حيث قال: "إن عاملا لمعاوية أجرى عيناً من ماء ليسقي بها أرضا فدنا من حائط لآل عمرو بن العاص فأراد أن يخرجه ليجري العين منه إلى الأرض فأقبل عبد الله بن عمرو ومواليه بالسلاح وقالوا والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد".
وأما قصة عبادة بن الصامت فلا يصح سندها ولم يذكرها الذهبي على أنها صحيحة لأنه ذكرها معلقة كما سيأتي بيان ضعفها، فقد ذكر الذهبي رحمه الله في كتابه سير أعلام النبلاء (3/ 344) نقلاً من تاريخ ابن عساكر (26/198) مختصراً سندها: "أن عبادة بن الصامت مرت عليه قطارة وهو بالشام، تحمل الخمر، فقال: ما هذه؟ أزيت؟ قيل: لا، بل خمر يباع لفلان فأخذ شفرة من السوق، فقال إليها، فلم يذر فيها راوية إلا بقرها - وأبو هريرة إذ ذاك بالشام - فأرسل فلان إلى أبي هريرة، فقال: ألا تمسك عنا أخاك عبادة، أما بالغدوات، فيغدو إلى السوق يفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأما بالعشي، فيقعد في المسجد ليس له عمل إلا شتم أعراضنا وعيبنا، قال: فأتاه أبو هريرة، فقال: يا عبادة، مالك ولمعاوية؟ ذره وما حمل، فقال: لم تكن معنا إذ بايعنا على السمع والطاعة، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا يأخذنا في الله لومة لاثم، فسكت أبو هريرة، وكتب فلان إلى عثمان: إن عبادة قد أفسد علي الشام" اهـ.
قلت: ساق الذهبي هذه القصة عن يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه: أن عبادة بن الصامت، وذكرها.
وهذه رواية منقطعة فالذهبي لم يدرك يحيى، وقد مات يحيى قبل ميلاد الذهبي بأكثر من أربعمائة سنة، وفي إسنادها عند ابن عساكر: محمد بن عباد بن موسى الملقب سندولا وحديثه صالح في الاعتبارات ولم يحمد ابن معين أمره، وقال ابن عقده: في أمره نظر.
وأيضاً: يحيى بن سليم الطائفي حسن الحديث من رجال البخاري ومسلم لكنه سيء الحفظ ولم يتابع عليه، وبهذا تبين أن الرواية لا تصح بحال.
ثالثاً: بخصوص الخروج المأثور على الحجاج من الصحابي عبد الله بن الزبير والحسين بن علي والتابعين كسعيد بن جبير والحسن البصري وعاصم بن أبي النجود وغيرهم، فالجواب: أن الحسين ومن رافقه في سفره، انتقل للكوفة لا يريد قتالاً، ولم يخرج على يزيد بالسيف وأيضاً ليس في ذمته بيعة ليزيد لأنه امتنع عن بيعته فكيف نقول إنه خرج؟!، بل لما انتقل انكر الصحابة ذهابه للكوفة وعلى رأسهم بنو هاشم كعبدالله بن عباس الذي وعظه ألا ينتقل، وعد بعضهم خروجه للكوفة خروجاً على يزيد، ومع ذلك لما قاتله المنافق عبيد الله بن زياد ومن معه وقتلوه غضب عليه يزيد واستاء منهم، وقد عد علماء السنة سلفاً وخلفاً ما فعله الحسين خطأ، وكذا القول في احتجاج بعضهم بالخطأ الذي حصل من ابن الزبير زمن عبد الملك بن مروان، وفي زمنه حصلت حادثة الخارجي عبد الرحمن بن الأشعث والذي خرج معه بعض الفقهاء الذين منهم من كان سبب خروجه تكفير الحجاج فقد "كفره جماعة منهم سعيد بن جبير والنخعي ومجاهد وعاصم بن أبي النجود والشعبي وغيرهم كما في تهذيب التهذيب لابن حجر (2/211)"، ولذا لم يكن خروج هؤلاء المذكورين بسبب ظلم الحجاج وإنما لأنه كفر حسب ما اعتقدوه، ثم قد اقر عامتهم ممن نجا من الموت بخطئه واستغفر كالشعبي وغيره وقد ناصحهم علماء السنة في زمانهم ألا يخرجوا.
قال أيوب السَّخْتِيَانِي: عن القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث: "لا أعلم أحداً منهم قتل إلا رغب له عن مصرعه، ولا نجا فلم يقتل إلا ندم على ما كان منه" كما في الطبقات لابن سعد (7/188).
وأما الحسن البصري فالصحيح أنه لم يخرج معهم فقد ثبت عند الإمام أحمد في «الزهد» (1/474 رقم: 1631) عن مالك بن دينار، قال: لَقِيَنِي معبدٌ الجهنيُّ، وأنا على ظهرٍ وهو على ظهرٍ، قال: فقال: يا مالك إني طفت الأمصار، ورأيت الناس، فلم أرَ مثل الحسن بن أبي الحسن، يا ليتنا كنا أطعناه، يا ليتنا كنا أطعناه"، وثبت عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/ 177- 178) عن سليمان بن علي الربعي قال: لما كانت الفتنة فتنة ابن الأشعث إذ قاتل الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الحوراء وعبد الله بن غالب في نفر من نضرائهم فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل؟، قال: وذكروا من أفعال الحجاج فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسياف كم وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج قال: وهم قوم عرب وخرجوا مع ابن الأشعث فقتلوا جميعا".
رابعاً: بخصوص فتوى ابن حزم وانكاره للإجماع وقول القاضي عياض والقرطبي في جواز الخروج على الظلمة وأيضاً فتوى أبي حنيفة ومالك في الخروج على أبي جعفر المنصور، فجواب ذلك كله تقدم في حلقات سابقة، والخلاصة: أننا نناقش في هذه السلسلة أصول أهل السنة والجماعة التي منها إجماعهم على عدم الخروج على الحكام الظلمة كما نقلته سابقاً عن أكثر من عشرين عالماً من كبار العلماء المتقدمين، كلهم ينقلون اجماع أهل السنة على عدم الخروج على الحكام الظلمة كما تقدم في الحلقة رقم (6) من هذه السلسلة، وجعلوا ذلك من أصول معتقد أهل السنة والجماعة في كتبهم حتى أثر ذلك عن ألوف من أهل السنة وكلهم يذكر في عقيدته عدم جواز الخروج على الحكام الظلمة لبيان أن هذه المسألة مسألة عقدية وإن ذكرها الفقهاء من أهل السنة والبدعة في كتب الفقه، فإذا علمتم ذلك فاعلموا أن ابن حزم قد أخطا وإن كان إماماً ورأساً في الفقه، والخروج مذهب الجهمية والمعتزلة وكثير من المبتدعة، وقد انتصر لمذهبه، والعجيب من ابن حزم ومن نحا نحوه من أهل الملل أنه سرد أسماء من خرجوا في الفتن على الولاة فجعل صنيعهم مذهباً للخروج معرضاً عن كثير ممن تراجع منهم، وقد رد بعض الائمة الذين نقلوا الاجماع وغيرهم على ابن حزم، وأما القاضي عياض والقرطبي فقد سبق البيان في أنهما من الأشاعرة المؤولة وهذا مذهب عندهم.
وأما فتوى أبي حنيفة في الخروج على أبي جعفر المنصور، ومذهب مالك في خلعه فقد قلت في لقاء سابق: "أنكر أهل السنة على أبي حنيفة خطأه وتأييده لبعض المعتزلة كالمعتزلي زيد بن علي في خروجه على الخليفة أبي جعفر المنصور وتأييده لمحمد وإِبراهيمَ ابني عبد اللَّه بن حسن الهاشمي، وكل هؤلاء الثلاثة، وهم (زيد بن علي ومحمد بن عبد الله المهدي الملقب بالنفس الزكية وأخوه إبراهيم) من الشيعة المعتزلة، وكذلك أنكروا على مالك ومن معه من أهل المدينة عندما خلعوا المنصور، بل إن عامة المالكية السنة والأحناف على خلاف ما أفتى به أبو حيفة ومالك حتى قال علامة الأحناف في زمانه أبو جعفر الطحاوي الحنفي: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم"([1]).
خامساً: هل صحيح أن الشافعي وأحمد في رواية قالوا بالخروج على الحكام الظلمة وهل صح خروج أحمد بن نصر الخزاعي بالسلاح على الواثق؟ فالجواب: أن هذا لم يصح ولا ينبغي لمتعلم أن يدعي شيئاً لا وجود له.
ثم لو فرضنا فرضاً أنه كان مذهباً للشافعي قديماً ثم تاب وتراجع عنه لكونه أخطأ فهل نتابعه على الخطأ أو نتابعه على الحق الذي رجع له؟!، ومن المعلوم أن علماء الشافعية كما تقدم كالنووي وابن حجر والرملي وغيرهم ينقلون الاجماع على عدم الخروج على الحاكم الظالم، حتى قال ناظم الشافعية ابن رسلان في متن الزبد:
ولم يَجُزْ في غيرِ مَحْضِ الكُفْرِ خُرُوجُنا على وَلِىِّ الأمرِ
ومثل ذلك الامام أحمد مفترى عليه أنه قال بجواز الخروج بل ذكر رحمه الله من أصول أهل السنة عدم الخروج على الحكام الظلمة حقناً للدماء وتسكيناً للدهماء، وظل في سجن الخليفة العباسي الجائر مقيداً، ومع ذلك ما قام بثورة ولا دعا لها.
قال ابنه حنبل رحمه الله: «اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله [يعني أحمد بن حنبل] وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا -يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك-، ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يُستراح من فاجر، وقال: ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار ([2])» اهـ.
وأما خروج أحمد بن نصر الخزاعي بالسلاح على الواثق فهذا كذب لا يصح، وقد قلت في لقاء سابق: أخرج القصة الخطيب في تاريخ بغداد، وساقها بسندها وهي قصة مكذوبة من طريق محمد بن يحيى الصولي وهو لم يدرك زمن الحادثة، ولا يُعرف بالرواية عن أحمد بن نصر الخزاعي، وبين مقتل الخزاعي والصولي أكثر من مائة سنة، فهذا انقطاع ظاهر.
وبخصوص مقتل الخليفة العباسي الواثق للخزاعي فقد كان بسبب وشاية الجهمية وكثرة افتراءاتهم عليه لكونه لم يقل بخلق القرآن، فلفقوا له التهم تلو التهم عند الخليفة، فثبت رحمه وقال: "القرآن كلام الله منزل غير مخلوق"، فأمر الخليفة بقتله وقتل جماعة من العلماء ثبتوا يوم المحنة، فمدحه الإمام أحمد بن حنبل وابن معين وغيرهما لثباته ونيله الشهادة فلا نستدل بالأكاذيب وما لم يصح لنجوز للناس ما يكون سبباً في سفك الدماء وضياع الامن وتثبيت الدهماء وإنما النصيحة للحاكم والصبر مع الدعاء له بالهداية لعله يهتدي أو يُستراح من شره.
سادساً: من يستدل بآيات وأحاديث وآثار تدل على وجوب انكار المنكر وآيات الظلم وانكاره، ثم يقول هي تدل على جواز الخروج على الحاكم، نقول له: هذا عين ما يفعله المبتدعة، فإنهم يتركون الدليل الخاص في المسألة ويهربون للدليل العام أو ما فيه طرف ليلبسوا على المسلمين أمر دينهم، وهذا مذهب الخوارج والروافض والجهمية والمتصوفة وغيرهم، حيث يستدلون بالعموم معرضين عن الخصوص، ثم يستنبطون من العام وغيره من الأدلة الخاصة الأخرى أحكاماً أخرى لمسألة غير مقصودة، ويحملون النصوص ما لا تحتمل لأجل الاحتجاج لبدعتهم.
فمثلاً تقول لهم: التحزب لغير الكتاب والسنة حرام فيرد عليك بقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، وتقول: "الاحتفال بليلة الاسراء والمعراج بدعة، فيرد عليك بقوله تعالى: "وافعلوا الخير"، وتقول له الخروج على الحاكم يؤدي إلى فتنة ومنكر أعظم فيرد عليك بحديث: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان"، أو يرد عليك بعمومات الانتصار لدفع البغي بمثل قوله تعالى: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون"، وقوله تعالى: "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل"، وقوله تعالى: "فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله"، وهذه الأدلة هي عين ما استدل به الروافض والخوارج والجهمية والأباضية ونحوهم من المبتدعة للخروج على الحاكم دون النظر في العواقب والنتائج الحاصلة من هذا الخروج، ودون الاستفادة من ثورات وتجارب من سبقهم بالخروج.
ثم من يتعلل بوجوب انكار المنكر على الحاكم نقول له من الذي منعك من أهل العلم أن تنكر عليه؟ الجواب: لا أحد.
أنكر على الحاكم بالطريقة الشرعية التي سبق وذكرنا أدلتها، والتي بينها ووضحها كبار العلماء من الصحابة إلى يومنا هذا، فإنكار الظلم والمنكرات على الحاكم بالطريقة السوية واجب شرعاً، ومن أفضل القربات إلى الله وفق أدلة الكتاب والسنة وهو شيء مستقل له أحكامه، والخروج على الحاكم بالثورات التي يسمونها سلمية أو بالسلاح منكر وشيء آخر يتصادم مع الشرع المطهر كما اسلفت مرارا لأنه يؤدي إلى مفسدة أعظم ومنكر أعظم وخصوصاً أن الحاكم الغشوم لا يرحم شعبه عند الفتنة.
سابعاً وأخيراً: من يسوق أقوال العلماء الذين نقلوا الاجماع بعدم جواز الخروج على الحاكم الظالم، وأقوال غيرهم ممن لم ينقلوا الاجماع وقالوا أيضاً بعدم جواز الخروج على الحاكم، ويستنبط من أقوالهم بعض الكلمات في انكار المنكر بأن كلامهم يفيد الخروج على الحاكم، فإننا نقول: هذا من التلبيس والتدليس على الأمة، ومن فعل ذلك، فيجب عليه أن يتوب ويستغفر، لأنه لا يجوز فعل مثل هذا الصنيع، بل الواجب أن تبين للناس أن هؤلاء لا يجوزون الخروج على الحاكم الظالم، وإنما جوزوا انكار المنكر بشرط ألا يؤدي إلى الخروج أو منكر أعظم، هكذا يكون تعبير أهل الورع حتى يثق الناس به وبما يكتب ويقول، وإلا فمن يلبس على الناس بمثل هذه التلبيسات فإنه متهم بتهمة التدليس والتلبيس على العوام لا تزول عنه إلا بتوبة صادقة، فلو كان هؤلاء العلماء أحياء لاشتد نكيرهم عليه على أقل الأحوال.
والحاصل: أن اجماع العلماء على حرمة الخروج على الحاكم الظالم قام على أدلة الكتاب والسنة حقناً للدماء وتسكيناً للدهماء كما تقدم في الحلقة رقم (4، 6) من هذه السلسلة، وقد بدَّع علماء السنة الأكابر في زمانهم الإمام المحدث الزاهد الثقة الثبت المتقن: الحسن بن صالح بن حي الهمداني، المتوفى عام 169هـ ـ رحمه الله ـ بسبب فتواه بجواز الخروج على الولاة الظلمة رغم أنه ما قاتل أبداً، حتى ترك بعضهم التحديث عنه، وفيه قال أحمد بن يونس اليربوعي: لو لم يولد الحسن بن صالح؛ لكان خيراً له، وقد ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/361 وما بعدهما).
أعود بكم إلى الثمانينات الميلادية إلى عهد "حافظ أسد" وأحداث مدينة حماة.
يقول القيادي في جماعة الاخوان محمد قطب أخو سيد قطب - رحمهما الله - في كتابه واقعنا المعاصر (صفحة 438 طبعة :1997م، طبعه الشروق): "تسبب الإخوان في سوريا في مقتل ما يقارب من ثمانين إلى مائة وعشرين ألف مسلم في حماه، وسيحاسبهم الله تعالى على هذا العبث " انتهى كلامه.
ماذا يقصد محمد قطب؟ الجواب يقصد أن الإخوان المسلمين بحماة خرجوا على حافظ أسد كما نقله محمد قطب وغيره من قادة اخوان سوريا، فسبب هذا الخروج: أن الطاغية حافظ أسد قتل من أهل سوريا بحماة بالطيران ما يعادل مائة ألف، فما بالكم بما سببه خروج الثوار اليوم بالوطن العربي عام 2011م؟
الجواب: ما تراه أعينكم حيث: "تسبب الخروج بالثورات في الوطن العربي في قتل أكثر من مليون وجرح وإعاقة أكثر من مليون، وتشريد أكثر من ثلاثة عشر مليوناً من أوطانهم، واعتقال عشرت الآلاف وتحطيم المساكن ودور العلم، والبنية التحتية للأوطان، وتعطيل الحياة بكافة مرافقها، وقتل العلماء وتشريدهم والتضييق على المتدينين، وغيرها من النتائج المخيفة، ولا زالت النتائج السلبية مستمرة حتى هذه اللحظة في اليمن ومصر وليبيا وسوريا وغيرها من البلدان.
نعم أكثر من خرج في هذه الثورات من عموم الشعب ما خرجوا إلا بسبب الظلم والقهر والجوع والبطالة والفساد الاداري والمالي لكن الطريقة غير سليمة فكانت نتيجة هذه المعادلة: "سلبية للغاية أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة".
للحوار بقية، يتبع في حلقات قادمة بإذن الله.
_______
([1]) اعتقاد أهل السنة للإسماعيلي (ص 189-197).
([2]) الآداب الشرعية لابن مفلح (1/196) نقلا عن الخلال.