مراحل الحكم في حياة المسلمين، والخلافة الراشدة
( ضمن موضوع دراسات شرعية واقعية في الديمقراطية وأصول الأحزاب السياسية)
الحلقة (20) قبل الأخيرة
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
بما أن هذه “الدراسة” تتعلق بالديمقراطية التي فرضها الغرب في البلاد الإسلامية، وهي نوع من التحاكم الوضعي، فإنه يجدر بنا قبل أن نختمها أن نبين مراحل الحكم في حياة المسلمين، فأقول وبالله التوفيق:
ثبت في مسند الإمام أحمد وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله عنه الله، قال : كنا جلوساً في المسجد، فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة.
فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت”.
هكذا قسَّم النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم مراحل الحكم في حياة المسلمين إلى خمسة مراحل:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة النبوة، وقد انقضت بموت رسول الله عليه الصلاة والسلام.
المرحلة الثانية: وهي مرحلة الخلافة على منهاج النبوة، وهي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وقد انقضت هذه الفترة بمقتل علي رضي الله عنه، وبتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه بالخلافة لمعاوية رضي الله عنه، والذي حولها في عهده إلى ملك وراثي حيث أوصى بالخلافة بعده لابنه يزيد.
المرحلة الثالثة: مرحلة الملك العضوض، بمعنى: حكم فيه تعسف وظلم يصيب الرعية، وقد انقضت هذه الفترة وهي فترة الدولة الأموية ودولة بني العباس ومن مضى بسيرهم ويستثنى من ذلك فترة حكم الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، وعمر بن عبد العزيز على المشهور.
فأما معاوية رضي الله عنه فهو أول ملوك المسلمين وهو خيرهم وأعدلهم، ولم يكن ملكه ملكاً عضوضاً، بل كان ملكه ملك رحمة وعدل بالأمة، ويصدق عليه ما ثبت عند الطبراني وغيره أن النبي عليه الصلاة السلام قال: “أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا ورحمة، ثم يتكادمون عليها تكادم الحمير، فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان”.
قال ابن كثير ـ رحمه الله في معاوية كما في “البداية والنهاية (8/ 118)”: وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين … فلم يزل مستقلاً بالأمر، والجهاد في بلاد العدو قائم, وكلمة الله عالية, والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض, والمسلمون معه في راحة وعدل, وصفح وعفو، وقال: كان حليماً وقوراً, رئيساً, سيداً في الناس, كريماً, عادلا, شهماً” اه.
وقد اختلف معاوية رضي الله عنه مع علي رضي الله عنه في زمن خلافته بسبب مطالبة معاوية علياً أن يقيم حكم الله في قتلة عثمان، وقد تعذر قيام الحكم في القتلة لكونهم خوارج جاءوا من مصر والعراق وغيرها، فمنهم من قتله من كان بالقرب من منزل عثمان، والآخرون فروا وتفرقوا، وقد قتلوا في الحروب، ومنهم من قتلهم الحجاج لاحقاً كعمير بن ضابىء البرجمي، وكميل بن زياد النخعي، وكان معاوية أميراً على اقليم الشام منذ عينه عمر بن الخطاب واستمر في زمن عثمان، وكذلك في زمن علي رضي الله عنه، ثم حصل الخلاف الشديد بين معاوية وعلي وانتهى بقتال لا نصر فيه لأحدى الطائفتين في موقعة صفين، ثم عقب القتال انتهى إلى تحكيم لم تثمر نتائجه، فبقي علي رضي الله عنه خليفة للمسلمين ومعاوية رضي الله عنه أميراً على أهل الشام، فقام الخوارج باتفاق بينهم أن يقوم عبد الرحمن بن ملجم بقتل علي ومعاوية معاً فبدأ بعلي فقتله، فقبض عليه المسلمون فأمر الحسن بقتل عبد الرحمن بن ملجم، وبايع الناس الحسن بن علي رضي الله عنه خليفة خلفاً لأبيه، فبقي أميراً ستة أشهر، ثم رأى أن من مصلحة الأمة أن يتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، فدعا معاوية إليه فوافق، وسمي ذلك العام بعام الجماعة، فلم يأخذ معاوية رضي الله عنه الحكم بالسيف كما يكتب فسقة المنافقين والمستشرقين والرافضة.
لكننا نقول كانت فئة معاوية رضي الله عنه، هي الفئة الباغية في مقاتلة جيش علي رضي الله عنه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام لعمار بن ياسر كما في الصحيحين: “يا عمار تقتلك الفئة الباغية”.
فالفئة فئة الحرب، وأما الحكم فقد بايعه عليه المسلمون في عصره، وأجمع على بيعته الصحابة، حتى سمي عام الجماعة كما تقدم، وكان رضي الله عنه عدلاً حليماً حكيماً لم يعرف بظلم لرعيته فترة حكمه، ثم أهل السنة لا يصوبونه في مقاتلة علي بن أبي طالب ولا يصوبونه في توليته ابنه يزيداً، ويعتبرونه أخطأ في هذين الموضعين، ويترضون عنه فخطؤه مغفور له في بحر حسناته رضي الله عنه، فقد كان كاتب الوحي ودعا له النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما عمر بن عبد العزيز: فقد نال الملك بالوراثة وبايعه عليه المسلمون وكان عدلاً حليماً حكيماً وكان ملكه ملك رحمة بالأمة ولم يكن ملكاً عضوضاً، وليس بأفضل من معاوية، لكون معاوية ظفر بالصحبة، وهو كاتب الوحي الذي دعا له النبي عليه الصلاة والسلام.
وكلاهما ملكان وهما خيرة ملوك المسلمين.
المرحلة الرابعة: مرحلة الملك الجبري.
ونحن نعيش اليوم هذه المرحلة في بلاد المسلمين سواء كان الحكم ديمقراطياً أو سلطانياً أو ملكياً أو أميرياً، فهو جبري قسري في أحكامه وأنظمته كنظام الاستخبارات وجهاز الأمن “السياسي أو الأمن القومي”، ونحوها من الجهات الرسمية التي يتعامل أغلبها مع المتهم والمظلوم غير المتهم بالضرب الشتم وربما سب الدين والرب والأبوين والتعسف والجور والاستهتار والتعذيب الذي قد يصل أحياناً إلى الموت بأبشع أنواع التعذيب، ناهيك عن ضياع بعض الحقوق والممتلكات لدى بعض المحاكم والجهات الرسمية الأخرى ومن ذلك جبري في بعض قوانينه التي لا ترعى حقوق ومكانة العلماء وحقوق الضعفاء والفقراء وأصحاب الظروف الصعبة، وأيضاً أنه لم يكن بمشورة أهل الحل والعقد من العلماء والأعيان الذين ينصبون الحاكم ويختارونه وفق شروط شرعية تؤهله للحكم، ويعزلونه نظراً لإخلاله بشرط من شروط الولاية.
وتتلخص شروط ولاية الحاكم في الشروط الشرعية التي صح بها الدليل، وهي: الإسلام، والعقل، والذكورة، والعدالة، والعلم، والكفاءة، والبلوغ، والحرية، وأن يكون قرشياً للحديث الصحيح “الأئمة من قريش” أخرجه أحمد وغيره عن جمع من الصحابة.
ولا يعني ذلك أن لا يتولاها من عرضت عليه وهو أهلٌ لها، إذا تعذرت الشروط في القرشي، وهذا في باب الخلافة لا في باب أمراء الأقاليم التي تخضع للدولة ولا في باب أمراء الجند.
وعلى جميع الأحوال فمن تولى ولايةً على المسلمين قرشياً كان أو غيره سواء من خلال مجلس شورى “أهل الحل والعقد” أو بالوراثة أو كان متغلباً فإنه يلزم طاعته في المعروف لا في المعصية عملاً بما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: دَعَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ”.
المرحلة الخامسة: مرحلة الخلافة على منهاج النبوة.
وهذه هي مرحلة ” الخلافة الراشدة” يوم أن يجتمع المسلمون على حاكم واحد، يحكم فيهم بالنظام الإسلامي وفقاً لأدلة الكتاب والسنة وسيراً على المنهج النبوي الذي سار عليه الخلفاء الراشدون الأربعة.
وهي مرحلة مستقبلية، ويظهر من الأدلة المتكاثرة وقد سردتها في محاضرات” أشراط الساعة وآخر الزمان” أنها مرحلة تبدأ بظهور الإمام المهدي محمد بن عبد الله الحسني الهاشمي القرشي وتمتد حتى نزول عيسى عليه السلام الذي ينزل ويقتل المسيح الدجال، ثم يعيش ما شاء الله ثم يموت ويصلى عليه المهدي، وتكون خلافة المهدي سبع سنين، وما تقدم من المراحل الخمس بالتفصيل السابق هو الراجح للأدلة وإن كان بعض السلف قد ادعى ان المراحل كلها قد انقضت بخلافة عمر بن عبد العزيز ، وهذا بعيد.
ولا مهداوية في عصرنا الحاضر، فقد ظهر أدعياء كثيرون، وكلٌ يدعي أنه المهدي منذ مئات السنين إلى يومنا هذا، وكلهم دجالون لا تنطبق فيهم صفات المهدي التي جاء ذكرها في السنة الصحيحة، وقد تبعهم وصدقهم عوام لا يدركون حقيقتهم، وأول شيء يبدأ به هؤلاء الأدعياء الطعن في العلماء الربانيين لكون العلماء أعلم الناس بصفات المهدي وهم أول من ينكر دعوة هؤلاء الأدعياء، وما أكثر من ادعى انه المهدي في عصرنا الحاضر في اليمن والسعودية والكويت والعراق ومصر والجزائر وتركيا وباكستان والهند وبلدان العجم في المشرق وبلدان أخرى، وقد تابعت أخبارهم هذا العام 1438م، فوجدتهم كثيرين يغلب على بعضهم الهوس والمرض النفسي أو الإصابة بالمس أو السحر أو الاختلال العقلي، أو الدجل المحض.
والحاصل أن عصر المهدي غير هذا العصر، بل عصره عصر مستقبلي بعد سلام مع عدونا وملاحم متعددة نقوم بها نحن وأعداؤنا ضد عدو آخر لنا، وسيأتي تفصيل ذلك في موضع آخر من غير هذه الدراسة بإذن الله.
وستكون خلافته هي المرحلة الخامسة وهي مرحلة الخلافة على منهاج النبوة كما تقدم.
ومما ورد في الإمام المهدي محمد بن عبد الله، ما جاء في صحيح السنة، ومن ذلك :
ما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تذهب – أو لا تنقضي- الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي”.
وأخرج أبو داود والحاكم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” المهدي مني..أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين”.
وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة”.
وقد صح في ظهوره وصفاته وخلافته أكثر من عشرين حديثاً، ودلت بالتواتر على أنه سيظهر آخر الزمان.
ولا يمنع أن تظهر دولة عادلة فأكثر تطبق الشريعة الإسلامية قبل ظهوره، ولذا وجب على المسلمين ألا يتكلوا وألا ينتظروا ظهوره، بل يلزمهم السعي بالطرق الشرعية السليمة الحكيمة في إقامة دولة فأكثر أو عدة دول متحدة تحكم بما أنزل الله، وألا يدب في قلوبهم اليأس بسبب ظهور الأعداء وأدواتهم في البلدان الإسلامية سواء من العلمانيين أو اللبراليين أو غيرهم من العملاء، فإن الله ناصر دينه وحزبه المخلصين حتى وإن كانوا قلة.
قال الله تعالى: “وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، فاستبشروا بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم”.
ولن يتم هذا النصر إلا بشروطه الشرعية التي سبق بيانها في كتابي أحكام الجهاد نقلا عن علماء الإسلام قديما وحديثا وفقا لأدلة الشرع المطهر لا الهوى والشعارات والحماسات الزائفة، فلا نصر بفوضى ودعاوى خارجية، وذلك أنه لن يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم