الثلاثاء 21 رجب 1446 هـ || الموافق 21 يناير 2025 م


قائمة الأقسام   ||    دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية    ||    عدد المشاهدات: 5573

وحدة الصف المزعومة
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية )
الحلقة 1
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني


لا يختلف أحد أنه ما من عالم أو داعية أو طالب علم إلا ويدعو الناس إلى جمع الكلمة ووحدة الصف ونبذ الخلاف، ويحشد أثناء دعوته للاجتماع والاتحاد الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال وأفعال السلف، إلا أن بعضهم عند التطبيق العملي يناقض فعلُه قولُه.

فهذا يدعو الناس إلى الائتلاف والاعتصام بالدين ثم يقنن لأتباعه ومحبيه مفهوم الائتلاف والوحدة في حيز ضيق وفق المنهج الذي تتبعه جماعته التي اتخذت لها أميراً، - لا وفق الكتاب والسنة -؛ فيعادي كل من خالف منهج الجماعة التي هو عضو فيها، وكأن دين الله جماعته التي هي جزء صغير من المسلمين، وعلى سبيل المثال جماعة التبليغ والإخوان المسلمين وجبهة التحرير ونحوهم، ولا تعني تسميتي لهم كجماعات لأجل النيل منهم، وإنما لبيان موضع الداء حتى يتم علاجه بالطرق الشرعية الحكيمة كما سيأتي إن شاء الله، حيث يلزم جماعات المسلمين كلها ما يلزم كل مسلم من الاعتصام بالكتاب والسنة، مع فهمهما الفهم الصحيح الذي فهمه السلف الصالح من أهل القرون الثلاثة المفضلة.

ومما يؤسف له: أن هناك بعض العلماء الذين يدعون الأمة إلى الوحدة والائتلاف إلا أن بعض الجلساء يسعون جادين لصدع الصف والوحدة التي طالما حلم بها ونادى إليها أولئك الفضلاء فيؤثرون عليهم لطيِّ بعض فتاواهم وحصرها في الطرف المخالف، فيشيرون على الفاضل العالم بما تميل إليه نفوسهم من التحذير من فلان أو إصدار الفتاوى والمقالات لإدانته بحجة أن بعض المشايخ ردوا عليه أو حذروا من أخطائه، فيستجيب لهم بين الحين والآخر قبل أن يتثبت، وهذا التعجل – الذي يغلب عليه حسن النية – يعيق وحدة الصف ويفرق الكلمة في ظل غياب التثبت والإنصاف من عالم جليل القدر.

وآخر ”له أتباع يوالون ويعادون وفق منهجه ورأيه ، فلا وحدة ولا اتحاد للمسلمين في العالم كله عربه وعجمه إلا برأي شيخهم ومشورته، فالحق ما قاله وتفوَّه به، والباطل ما خالفه، فمن وافقه فقد أصاب، ومن خالفه فقد أخطأ، فقلده محبوه، فمن رأوه موافقاً لشيخهم في آرائه، أقاموا له الولاء والحب والإخاء، ومن رأوه مخالفاً له قعدوا له بالمرصاد وتصيَّدوا أخطاءه، ونصبوا في وجهه العداء، وكشروا عن أنيابهم، فحذروا وشطحوا خلاف الحق المبين، ونقلوا لشيخهم ومحبهم كل زلة وهفوة وقعت من ذلك المخالف له في إطار السنة، وألبسوها لباس الكبائر والجرائم حتى يُقْنعوا شيخهم أن فلاناً من الناس وقع في البدعة، والساكت عن المبتدع راضٍ ببدعته فهو مبتدع، فزين لهم الشيطان أعمالهم وقال إني جار لكم، فظلموا وجاروا وعادوا بغير حق، حتى أغلقوا باب الموالاة الشرعية؛ ليحل محلها العداء لأهل العلم والإيمان”(١).

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ : “لذلك نجد بعض طلاب العلم يكون عند شيخ من المشايخ، ينتصر لهذا الشيخ بالحق والباطل، ويعادي من سواه، ويضلله ويبدعه، ويرى أن شيخه هو العالم المصلح، ومن سواه إما جاهل أو مفسد، وهذا غلط كبير؛ بل يجب أخذ قول من وافق قوله الكتاب والسنة وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”(٢).

ومن المعلوم أن من وقع في البدعة أو الكفر فلا يحكم عليه بالابتداع أو الكفر حتى تقوم عليه الحجة، وتزال عنه الشبهة، وتنتفي في حقه الموانع والأسباب التي يخلص بها العالم الورع إلى أن فلاناً من الناس مبتدع أو كافر.

فهؤلاء المختلفون ونحوهم ـ ممن سيأتي ذكره ـ يحلمون بالوحدة التي تعني الائتلاف والاعتصام، إلا أن كثيراً منهم ضدها بأفعالهم المتطرفة المخالفة لكثير من أصول العلماء الربانيين؛ إذ لا وحدة حتى يتنازل الجميع للشرع المطهر ويحكمه ظاهراً وباطناً بعيداً عن حب الذات والسلطة والتعالي وحصر الحق في فلان أو الجماعة الفلانية المخالفة لهدي السلف رضوان الله عليهم، فلن يصلح الأمة إلا ما صلح به أولها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : “وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله كما قال تعالى: [وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] (٣٣ ). فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب”(٤٤).

وقال ـ رحمه الله ـ : “قد صار لهم في ذلك هوىً أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلاً سيء القصد ليس له علم ولا حُسن قصد، فيُفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا، وهذا عدونا وبلغة المغل هذا (بال)، وهذا (باغ)، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله، ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس”(٥).

وقد صدق ـ رحمه الله ـ، حيث كثرت الفتن، وعمت بها البلوى بسبب هذه الاختلافات غير المبنية على الولاء الشرعي إلا في مواطن، حتى انبرت في صفوف هؤلاء المختلفين مجموعة من الأمور السلبية التي شتّتت شملهم وفرقت كلمتهم أمام الأعداء، وهي بذاتها أسباب رئيسة في ظهور الخلاف ومظاهره، وشرها ما يأتي:

الأول: الغلو.
الثاني: الحسد.
الثالث: الكبر.
الرابع: عدم اعتراف البعض بخطئه.
الخامس: امتداح النفس بما ليس فيها.
السادس: اتباع الهوى.
السابع: التركيز على سلبيات المخالف.
الثامن: عدم نسيان الخطأ الذي رجع عنه المخالف.
التاسع: فساد تصور الأمور على حقائقها.
العاشر: استعمال النقد اللاذع المباشر.
الحادي عشر: التعالي المقيت.
الثاني عشر: البغي.
الثالث عشر: التعصب والتقليد الأعمى.
الرابع عشر: عدم احترام آراء الآخرين في حدود الشرع.
الخامس عشر: عدم معاملة الإنسان كإنسان له شعور وإحساس وعواطف حسب بيئته وطينته.
السادس عشر: إلزام ما لا يلزم شرعاً.
السابع عشر: عدم تجنب الجدال.
الثامن عشر: عدم التثبت من نقل الأخبار.
التاسع عشر: عدم الالتفات للمخالف.
العشرون: عدم بذل الحقوق الأخوية العامة بين المختلفين في الرأي المستساغ.
الواحد والعشرون: عدم تقدير الآخرين والاعتراف بقدراتهم العلمية.
الثاني والعشرون: غياب حسن الطرح والنقد.
الثالث والعشرون: عدم شكر المخالف في الجوانب الإيجابية لإيجاد حلقة الوصل “شعرة معاوية” كما يقال.
الرابع والعشرون: عدم طلاقة الوجه عند اللقاء والمناقشة.
الخامس والعشرون: عدم الحوار الهادئ أثناء الاختلاف.
السادس والعشرون: عدم السماع لدليل المخالف وحجته.
السابع والعشرون: بُعد بعض الأطراف المختلفة عن الاحتجاج بالكتاب والسنة.
الثامن والعشرون: عدم الاستفادة من كبار العلماء والرجوع إليهم لحل التنازع والاختلاف أو التوصل لطريقة صحيحة في التعامل مع المخالف.
التاسع والعشرون: عدم تحديد محل الخلاف قبل الخوض فيه.
الثلاثون: وشاية بعضهم على بعض عند السلطان وبعض الجهات الأخرى.
الواحد والثلاثون: ابتعاد المسلمين حكاماً ومحكومين عن مبدأ الحب في الله، والبغض في الله، حيث يُعد هذا المبدأ أوثق عرى الإيمان، لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ” أوثق عرى الإيمان المولاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله”(٦).

وعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه – أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : “من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان”(٧).

والله من وراء القصد

(المصدر كتابي الوثيقة المهمة الطبعة الاولى ص ٣٠-٣٦ بتصرف).


الحواشي
(١) كتاب رسائل العقيدة للدكتور صادق البيضاني (ص٧).
(٢) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (٢٦/٣٤٠).
(٣) سورة المائدة آية ١٤.
(٤) مجموع فتاوى ابن تيمية (٣/٢١).
(٥) منهاج السنة لابن تيمية (٥/١٧٥).
(٦) أخرجه الطبراني في الكبير والبغوي في شرح السنة وله شاهد عن ابن مسعود، والحديث حسن لغيره.
(٧) أخرجه ابو داود في سننه د، والحديث صحيح لغيره




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام