الثلاثاء 2 جمادى الآخرة 1446 هـ || الموافق 3 دجنبر 2024 م


قائمة الأقسام   ||    دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية    ||    عدد المشاهدات: 5351

أقسام المختلفين في العصر الحديث

(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية )
الحلقة 2
 بقلم د. صادق بن محمد البيضاني

قسَّمَ العلامة اليماني علي بن قاسم حنش المتوفى سنة 1219 هـ الناس المختلفين في عصره إلى ثلاث طبقات، ولكل طبقة من هذه الطبقات وجود في عصرنا الحاضر(١)، حيث قال ـ رحمه الله ـ "فالطبقة العالية: العلماء الأكابر وهم يعرفون الحق والباطل، وإن اختلفوا لم ينشأ عن اختلافهم الفتن؛ لعلمهم بما عند بعضهم بعضاً.

والطبقة السافلة: عامة على الفطرة لا ينفرون عن الحق وهم أتباع من يقتدون به، إن كان محقًّا كانوا مثله، وإن كان مبطلاً كانوا كذلك.

والطبقة المتوسطة: هي منشأ الشر وأصل الفتن الناشئة في الدين: وهم الذين لم يمعنوا في العلم حتى يرتقوا إلى رتبة الطبقة الأولى، ولا تركوا حتى يكونوا من أهل الطبقة السافلة؛ فإنهم إذا رأوا أحداً من أهل الطبقة العليا يقول ما لا يعرفونه مما يخالف عقائدهم التي أوقعهم فيها القصور، فوقوا إليه سهام التقريع، ونسبوه إلى كل قول شنيع، وغيروا فطر أهل الطبقة السفلى عن قبول الحق بتمويهات باطلة، فعند ذلك تقوم الفتن الدينية على ساق"(2).

ويمكننا تقسيم المختلفين في العصر الحديث من حيث الفكر والمنهج في ظل الحقل الدعوي والحزبي إلى عشرة أصناف:

الصنف الأول: دعاة فضلاء يدعون الأمة إلى التمسك بالدين وجمع الكلمة والتواضع والأخلاق الفاضلة والورع ونبذ العنصرية ونحوها من محاسن الأمور، ثم إذا جالسته وعاشرته أو سمعت منه وجدته بعيداً عن بعض أقواله وأفعاله، فلا يحسن استقبال الناس ولا أدب النصح، قد فارق التواضع والورع، ونبذ الخلق الحسن، وبشاشة الوجه إلا لأشخاص، ويرى أنه من نسب عالٍ يستحق به الافتخار على غيره، أو أنه من دولة غنية وأنت من دولة فقيرة.

قال ابن تيمية: "فلا يفرق بين المؤمنين لأجل ما يتميز به بعضهم عن بعض؛ مثل الأنساب والبلدان والتحالف على المذاهب والطرائق والمسالك والصداقات وغير ذلك؛ بل يُعطي كلٌّ من ذلك حقه، كما أمر الله ورسوله، ولا يجمع بينهم وبين الكفار الذين قطع الله الموالاة بينهم وبينه؛ فإن دين الله هو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً"(3).

ولا شك أن هذا الصنف مشارك في تمزيق الصف وزرع الضغينة في نفوس من حوله، ومن ثم لا يكون مؤثراً تأثيراً بالغاً لأنه كمن يزرع البذور في الأرض ثم يتركها بلا سقيا، فهل يستقيم زرعه ؟!

الصنف الثاني: علماء أجلاء، فيهم صفات العلم والرحمة بالأمة، إلا أن بعضهم قد يتأثر بمن حوله من دعاة الاختلاف والفرقة؛ فيؤثر عليه ليسخِّر بعض مقالاته وفتاويه وردوده فيما يثير  الفتنة وينشر الفرقة مما يتعارض في الأصل مع أصول وقواعد ذلك العالم الفاضل، الذي لسبب أو لآخر تزل قدمه لاعتماده على من حوله دون أن يتثبت، فيوقعه في عدم إنصاف المخالف، وهو في الأصل طرف محايد وأب للجميع كغيره من العلماء الأجلاء.

الصنف الثالث: علماء متبحرون في بعض فنون العلم إلا أنهم يفتقدون الحكمة، فمن خالف سنة أو وقع في بدعة، أغلظوا في نصحه، وهجروه، وربما بدَّعوه، ثم طالبوه بالتراجع والتوبة  إلى الله بعد الحكم عليه، ألا يستقيم عند هؤلاء أن ينصحوه بالحكمة والموعظة الحسنة، فيقيموا عليه الحجة ويزيلوا عنه الشبهة، ثم يطالبوه بالتوبة والرجوع إلى الحق قبل تضليله وتبديعه ؟ !؛ إذ النفوس كالزجاجة إذا كسرتها صعب عليك ترميمها.
وقد أحسن من قال:
إنَّ القُلوب إذا تنافر ودُّها    شِبْهُ الزُّجَاجَةِ كسْرُها لا يُشْعَبُ

ويندرج تحت هذا الصنف “فئة الأتباع” الذين يغلب على بعضهم النية الحسنة ودعوى التقرب إلى الله بمتابعة مشايخهم الذين افتقدوا الحكمة في نقد المخالف تحت ستار “علم الجرح والتعديل”، هذا العلم الذي لم يقم إلا على ضوابطَ متينة وِفْقَ شروط رصينة، يتصدره بعض أكابر علماء كل عصر ممن شُهِد له بسعة العلم والورع والزهد، وكان إماماً لأهل بلدته أو قبلةً لعلماء عصره، ممن يشتغل بعيبه أكثر من شغله بعيب غيره إلا ما اضطر إليه عندما يجد أن المصلحة تدفعه لنقد المخالف الذي إن سكت عنه أفضى سكوته إلى مفسدة أعظم بعد أن يتحرى الصواب ويقدم نصيحة السر، وأن ما أنكره على المخالف من المسائل المستساغ فيها الخلاف ونحوها من الضوابط التي اعتمدها أهل هذا الشأن.

وللأسف أن أغلب الأتباع في هذا الصنف لم يطلبوا العلم أو طلب بعضهم العلم ولم يتمكن من تحصيله على الوجه المطلوب؛ فيجرح وينقد المخالف قبل أن يملك آلة الاجتهاد أو الأهلية، وقبل أن تنطبق في حقه شروط المُجَرِّح، وهذا لا يُعدُّ تجريحه حجة؛ لأنه لا يخرج تجريحه عن سبعة أمور: مبالغ في الجرح، أو ناقد لمن لا يستحق النقد، أو أراد التشفي، أو الانتقام، أو الظهور، أو التزلف من العالم الفلاني الذي اتخذه قبلةً وديناً يسير عليه، أو صاحب هوى، وسبب ذلك الجهل، وقلة العلم والتصدر قبل الأهلية، وما أكثرهم اليوم !!

وقد نتج عن حشر الصغار والعوام في قضايا الكبار أمور لا تحمد عقباها، أخصُّ منها:
1- انتشار الغيبة.
2- إشغال العوام وطلبة العلم الصغار بهذا الباب الذي هو من وظيفة مجتهدي العصر “العلماء الورعين”.
3- صرفهم عن أوجب الأمور.
4- تجرؤ الصغار بتطاولهم على الكبار بجهل لا ورع فيه.
5- التساهل في تبديع الفضلاء المخالفين لبعض مشايخهم.
6- غياب المقصد الشرعي بجوهره من هذا الباب وهو “الدين النصيحة”، وحلول حظوظ النفس مكانه.
7- تضييع مبدأ “المجالس بالأمانة”.

حتى أصبحت الغلظة سمة غالبة على بعض هؤلاء وأتباعهم، وهذا خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ولا غرابة لو قلت: إنه توغل في بعض أفراد هذا الصنف الغيبة والنميمة وتتبع عثرات المخالف والكذب ونحوها من الصفات الذميمة التي صارت علامة لشقاوة هذا الصنف إلا من سلمه الله.

قال الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله - : “وعلامة شقاوة العبد أن تراه يسعى بين الناس بالغيبة والنميمة، ويتتبع عثراتهم، ويتطلع على عوراتهم، فإذا سمع بشيء صدر منهم من المكروه أشاعه وأذاعه، بل ربما نشر معه شرحاً من ابتداعه.

فهذا العبد بشرِّ المنازلِ عند الله، مقيت عنده متعرض لمساخطه، يوشك أن يفضحه في دنياه قبل أخراه”(4).

والذي أنصح به المشايخ الفضلاء أن يقرِّبوا إليهم أمثالهم من أهل العلم وإن اختلفوا معهم في مسائل، فإن الخلاف في إطار منهج السلف لا يفسد للودِّ قضية، فهم خيرة من يُستشار في قضايا الأمة ومسائل الدين وآحاد الرجال، بدلاً من صغار الطلاب الذين لا زالوا تحت عناية المشايخ تربيةً وتعليماً وتوجيهاً، فلا يحملوهم ما ليس من شأنهم مما هو وظائف العلماء فإن حمَّلوهم ما لم تحتمل عقولهم رأوا أنفسهم في طبقة المشايخ والعلماء فلم يقبلوا منهم نصحاً ولا توجيهاً عند الخلاف إلا من سلمه الله، وقد قلت لأحد المشايخ قبل خمسة عشر عاماً: اجعل مستشاريك كبار طلاب العلم ممن أجيزوا في علوم الشريعة، ولا تتكئ على الصغار فيضروك، فحاول أن يصرف نصيحتي بشيء يسليني به هروباً من النصيحة، وما هي إلا سنوات قليلة حتى بدَّعه وجهَّله وحذَّر منه أولئك الرعاع، فسبحان من له في خلقه شؤون.

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : “فإذا ظفرت برجل واحد من أولي العلم طالبٍ للدليل، محكم له، متبع للحق حيث كان، وأين كان، ومع من كان، زالت الوحشة وحصلت الألفة ولو خالفك، فإنه يخالفك ويعذرك، والجاهل الظالم يخالفك بلا حجة ويكفِّرك أو يبدِّعك بلا حجة، وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة وسيرته الذميمة، فلا تغتر بكثرة هذا الضرب، فإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم، والواحد من أهل العلم بملء الأرض منهم”(5).

الصنف الرابع(6): علماء وطلبة علم فضلاء يحسنون الظن بالجميع ظاهراً، لكنهم يسكتون عن تصحيح الخطأ ونصح المخطئ خشية الاصطدام بأي طرف، وهم يعلمون المخطئ  والمحقّ، وهؤلاء دعاة مقصِّرون يدرسون العقيدة والفقه ويستثنون من ذلك “إصلاح ذات البين بين الدعاة إلى الله” وهم بهذا السكوت لم يؤدُّوا حق الله عليهم في توحيد الأمة، حيث استوى عندهم أبو نواس وأبو حنيفة، فليت شعري:

وما انتِفاع أَخي الدُّنيا بِناظِرِهِ    إِذا استَوَتْ عِندَهُ الأَنوارُ والظُّلَمُ

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ : “والواجب علينا أن نصلح بين الناس، والإصلاح ما هو؟، ليس معناه أن نقف موقف المتفرج، لا بد من حركة، حركة عملية للإصلاح”(7).

قال الله تعالى : (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)(8).

الصنف الخامس: دعاةٌ ارتبطوا بواقع الأمة وعاشوا مشاعرها وأحاسيسها وآلامها فواجهوا الباطل بقوة، ولم يسكتوا عن المنكرات والمخالفات إلا أنهم يفتقدون إلى ضبط مشاعرهم في  مواطن عدة بضابط الشرع، حيث يتحمسون لقضايا الأمة بمجرد حدوث العارضة دون أن يربطوها بأدلة الشرع أو يستشيروا في مثلها كبار العلماء قبل الخوض فيها، فيقعوا في أخطاء يعود ضررها عليهم وعلى العباد والبلاد.

الصنف السادس: دعاة ارتبطوا بواقع ومشاعر الدعاة الذين سبق ذكرهم في الصنف الخامس؛ حيث تتبعوا أخطاءهم فنشروها بين العامة، وعاملوهم بقسوة وعنف وجفوة، فبدَّعوهم وضللوهم، وربما أعانوا السلطان عليهم، مما أدى إلى ردة فعل غير محمودة من الطرف النقيض، الصاع بالصاع، والكيل بالكيل، “والجروح قصاص”.

فعظمت الفتنة بين الصنفين حتى صارت حديث الساعة في المجتمع المحافظ.

الصنف السابع: دعاة الإخوان المسلمين، وهم من سموا أنفسهم بهذه التسمية التي لقبهم بها مؤسس الجماعة الأستاذ حسن البنا ـ رحمه الله ـ، وهذا الصنف من الدعاة لا يمنع من التحزب  تحت مظلة الجماعة التي قامت على قاعدة “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”، ولدى الجماعة أمير له عليهم حق البيعة، ولا تمنع الجماعة من أن يكون فيهم السني والشيعي والصوفي والناصري والمادي ونحوهم من الطوائف طالما الجميع يخدم منهج الجماعة، وطالما صوته يؤثر في الانتخابات لأجل يصل قادتهم لمنصب من مناصب الدولة، وهم يغلِّبون جانب السياسة على غيرها من الأحكام الأخرى، ويكرِّسون جهودهم لتكثير الأتباع للوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات البرلمانية والتعددية الحزبية الديمقراطية، ولو بطرق تخالف نصوص الشريعة؛ ظنًّا منهم أن المصالح الشرعية هي من دفعتهم لذلك.

الصنف الثامن: دعاة عقيدتهم سلفية يرون التعددية الحزبية بالغطاء السلفي، وقد قاموا مضاهاةً للإخوان المسلمين، وهم من يعرف اليوم عند بعض السياسيين بالتيار السلفي، ومثالهم:  حزب اتحاد الرشاد اليمني، وحزب النور المصري.

وهذا الصنف يختلف مع الإخوان المسلمين في أمور ويتفق معهم في أمور أخرى، ولكن ليس لهم أمير، ولا بيعة كالإخوان المسلمين حتى كتابة هذه الأحرف، (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)(9) ويرون المظاهرات والاعتصامات والانتخابات والخروج على الحاكم الظالم، ولكن ليس خروجاً على إطلاقه لأنهم لم يصلوا إلى حد الإمارة والبيعة لأمير  مخصوص بهم كحزب أو جماعة، ويرون الإنكار على الحاكم علانية إذا فحش منكره، وهم محسوبون لدى المخالف على السلفيين باعتبار أن عقيدتهم سلفية في الجملة، ولهم آراء تواكب العصر، وقد أطلق عليهم بعض الدعاة لقب: “السلفية الجديدة”، ولهؤلاء تعاون ولقاءات وصلات حميمة مع أصحاب الصنف الخامس، مع أن بعضهم ينقد بعضاً في مسائل دون تجريح أو تبديع أو تضليل.

الصنف التاسع: من عرفوا اليوم بالجهاديين، وقد لُقِّبوا بـ”تنظيم القاعدة” وهو لقب أمريكي صرف، ارتضته الجماعة لنفسها فيما بعد؛ ويسمون في بعض الدول بـ”أنصار الشريعة”، وهم  يدعون الأمة إلى إقامة دين الله وجمع كلمة المسلمين تحت راية الجهاد، حيث يغلِّبون جانب العنف والقوة، فيجعلون السيف الحل الوحيد، ولهم أمير وبيعة.

وقد فحش قتلهم اليوم في المسلمين في العراق واليمن وسوريا وليبيا وأفغانستان وغيرها من البلدان، بحجة أنهم قتلوا أعوان السلطان، حيث يرون تكفير حكام المسلمين وأعوانهم من غير استثناء ويستبيحون دماءهم، وربما فجروا بعض الأسواق والأماكن العامة في بلاد المسلمين فيموت ويجرح من فيها من عامة الناس الذين لا صلة لهم بالحاكم، ويرون أن مثل هذه التفجيرات قربةٌ يتقربون بها إلى الله بحجة أن هذا السوق أو ذاك المبنى الذي تم تفجيره من أملاك الدولة أو كان بداخله بعض أفراد الدولة، وتُعد جماعة داعش التي أسمت نفسها في عصرنا الحاضر بـ”الدولة الإسلامية بالعراق والشام” من غلاة الخوارج؛ حيث يستبيحون دماء النساء والأطفال والشباب والشيوخ ويقتلونهم بأبشع طرق القتل؛ كالذبح بالسكاكين كما تذبح الشاة، ويصورون الذبح ثم ينشرون الصور، ويرون هذا قربةً يتقربون بها إلى الله وليست لهم مرجعية علمية سوى من يؤمن بأفكارهم، فلا يرون كبار العلماء مرجعية لهم؛ بحجة أن بعضهم أعوان للسلطان أو ضد منهجهم الدموي، وليسوا بأقل خطراً من الرافضة، فقد بدأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقتالهم دون شيعة عصره، فلا يغتر بهم عاقل؛ وإن رفعوا لواء الجهاد، فإن عداوة الخوارج لأهل السنة قائمةٌ منذ عهد الصحابة حتى هذه الساعة، ولتتأملوا معي ـ سلمكم الله ـ ما ذكره القاضي عياض بن موسى ـ رحمه الله ـ حيث قال : “كان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد، في حالة شديدة من الاهتضام والتستر، كأنهم ذمة، تجري عليهم في كثرة الأيام محن شديدة …

اشتدَّ الأمر على أهل السنة، فمن تكلم أو تحرك قُتِل ومُثِّل به، وذلك في أيام الثالث من بني عبيد، وهو إسماعيل الملقب بالمنصور ـ لعنه الله تعالى ـ سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وكان في قبائل زناتة، رجل منهم، يكنى بأبي يزيد، ويعرف بالأعرج صاحب الحمار، واسمه مخلد بن كيداد، من بني يفرن، وكان يتحلى بنسك عظيم، ويلبس جبة صوف قصيرة الكمين، ويركب حماراً وقومه له على طاعة عظيمة، وكان يبطن رأي الصفرية(10)، ويتمذهب بمذهب الخوارج، فقام على بني عبيد، والناس يتمنون قائماً عليهم، فتحرك الناس لقيامه، واستجابوا له، وفتح البلاد، ودخل القيروان، وفرَّ إسماعيل إلى مدينة المهدية، فنفر الناس من أبي يزيد، إلى حربه، وخرج بهم فقهاء القيروان، وصلحاؤهم، ورأوا أن الخروج معه متعين؛ لكفرهم، إذ هو من أهل القبلة…

وكذلك كان أبو إسحاق السبائي، يقول ـ ويشير بيده إلى أصحاب أبي يزيد ـ: هؤلاء من أهل القبلة لقتالهم، فإن ظفرنا بهم، لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد، والله يسلط عليه إماماً عادلاً، يخرجه عنا…

ولم يُخَلِّف من فقهاء المدنيين المشهورين، إلا أبو ميسرة لعماه، ولكنه مشى شاهراً للسلاح في القيروان مع الناس، باجتماع المشيخة على الخروج، ووجهوا إلى الممسي ليروا رأيه في ذلك، وكان عباس الممسي في ذلك الحين مريضاً، بمنزله، وأنذر الناس إلى الجامع فحضروا، وتكلموا في الأمر، … فقال العباس الممسي: قد تعلمون أنه يشق عليَّ من الوضوء والوالدة، أكثر مما ذكرتم، وغير ذلك من علتي هذه الظاهرة، ولكن لما بلغني من رد الناس الأمر إلي زالت العذًر، وإن عزمتم عزيمة رجل واحد، فلا أضن عليكم، لما وجب علي من جهادكم. فقال أبو إسحاق السبائي: جزاك الله يا أبا الفضل عن الإسلام وأهله خيراً، إنَّا والله نشمر ونجد في قتال اللعين المبدل للدين، فلعل الله أن يكفّر عنا بجهادنا، تفريطنا وتقصيرنا عن واجب جهادهم. فكلمهم أبو الفضل واحداً واحداً. فقال ربيع القطان: أنا أول من يسارع ويندب الناس. وتسارع جميع الناس إلى ذلك…

عقدوا أمرهم على الخروج إلى المصلى بالسلاح الشاك، فلما كان الغد، خرجوا واجتمعوا بالمصلى بالعدة الظاهرة، فضاق بهم الفضاء من كثرتهم، وتواعدوا للخروج… ثم اجتمعوا يوم الأربعاء في السلاح… وشقوا القيروان، ينادون بالجهاد، وقد شهروا السلاح، وأعلنوا بالتهليل والتكبير، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والترحم على أصحابه، وأزواجه رضي الله تعالى عنهم، فاستنهضوا الناس للجهاد، ورغّبوهم فيه، فلما كان يوم الجمعة، ركبوا بالسلاح التام، والبنود والطبول، وأتوا حتى ركزوا بنودهم قبالة الجامع… وحضرت صلاة الجمعة، فخطب خطيبهم، أحمد بن أبي الوليد، خطبة بليغة، وحرّض الناس على الجهاد، وسب بني عبيد، ولعنهم وأغرى بهم، وتلا: [لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ](11) الآية، وأعلم الناس بالخروج من غدهم، يوم السبت، فخرج الناس مع أبي يزيد لجهادهم، فرزقوا الظفر بهم، وحصروهم في مدينة المهدية، فلما رأى أبو يزيد ذلك، ولم يشك في غلبته، أظهر ما أكنّه من الخارجية، فقال لأصحابه: إذا لقيتم القوم فانكشفوا عن علماء القيروان، حتى يتمكن أعداؤهم منهم، فقتلوا منهم، من أراد الله سعادته، ورزقه الشهادة”(12)، انتهى كلامه مختصرا ـ رحمه الله ـ.

فهذه من مكائد الخوارج فلتحذروا مكائدهم، فعقيدتهم ومنهجهم واحد، لم يتغير سوى الزمن والصور وبعض فروع المسائل الخارجية، ولله في خلقه شؤون.

الصنف العاشر “شخصيات منصفة” وهم: علماء وطلاب علم ودعاة، علاقتهم شرعية مع إخوانهم المسلمين باختلاف أصنافهم، حيث يرون أن الجميع إخوان لهم، وأن النصيحة مبذولة لكل طرف؛ فلا يقبلون خطأ هذا ولا منكر ذاك؛ بل ينكرون الخطأ ويحذرون منه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويقيمون ميزان العدل والإنصاف مع اعترافهم بقدرات الآخرين، كل حسب منزلته، ومع ذلك لم يسلموا من تهم الآخرين المخالفين لهم في المنهج، حيث لقبوهم بألقاب مطاطة لا تتوافق مع قاموس علم الجرح والتعديل وقلَّ أن نجد منصفاً يدرك الفرق بين هذه الشخصيات وأحوالها”(13).

وقد سبق أن قلت منذ سنوات: “لا مذهبية في الإسلام، فالكل مفروض عليه متابعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقبول النصح، والعودة إلى الجادة، فإن النسبة للإسلام على مراد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام بفهم سلف الأمة هي السبيل الأقوم والحل الأمثل للمختلفين مع مراعاة نصائح وتوجيهات كبار علماء العصر وعدم التطفل عليهم، وترك مجال النقد لمن يحسنه من العلماء والباحثين؛ إذ هم المعنيون بهذا الحقل الخطر الذي فيه “الجمر تحت الرماد”(14).

فهؤلاء باختلاف مناهجهم ومشاربهم كلهم مسلمون يريدون رفع راية الدين ويدافعون عنه، كلٌّ بطريقته وما يراه مناسباً، إلا أنهم جميعاً بشر يصيبون ويخطئون، ولا بد من البيان بالعلم والحكمة بوازع الإصلاح وإرشاد المخطئ للحق بألين العبارات، “فإن نُفوس الخلائق كالزجاجة القابلة للكسر؛ فإن أحسنتَ نقدها حببتها إلى نفسك، وإن أسأتَ عرّضتها لانكسار الخاطر وإرساء الضغائن التي لا تخطر ببال.

ولذا فالكلامُ اللينُ يغسل الضغائن الكامنة في القلب، ويحبب النفوس المتنافرة، ويقارب وجهات النظر، ويصلح ذات البين، ويوحد الصف، ويجعل الخلق جميعاً إخوة متحابين غير متدابرين، وبعكسهِ الغلظةُ والشدةُ من الناقد سواء كان المتهم بالخطأ فرداً أو جماعة فإن سوء النقد وغلظته لا يُورِّث إلا البغض والكراهية، ورد الحق، والإصرار على الباطل، واختلاف وجهات النظر، وتفريق الكلمة”(15).

وقد أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه“.

وفي رواية له قال لعائشة: “عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه(16).

أيها الشاكي وما بك داء     كيف تغدو إذا غدوت عليلا

أترى الشوك في الورود وتعمى    أن ترى فوقه الندى إكليلا

والذي نفسه بغير جمال    لا يرى في الوجود شيئاً جميلا

أنت فينا النصوح فارفق جزاك اللَّــهُ   خيراً فالرفق أهدى سبيلا


(1) في الجملة.
(2) الشوكاني، البدر الطالع (1/473).
(3) ابن تيمية، قاعدة في المحبة (ص 133).
(4) ابن سعدي، الحث على الاجتماع، ص (28، وما بعدها).
(5) ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/397).
(6) تم إدخال هذا الصنف تسامحاً، لكونهم قصروا في النصح، فكانت لهم يد في بقاء الفرقة والاختلاف.
(7) ابن عثيمين، فتوى صوتية لفضيلته حول الصلح بين الدعاة وطلبة العلم.
(8) النساء: 114.
(9) يوسف: 81.
(10) طائفة من الخوارج، “وهم أتباع زياد بن الأصفر وقولهم كقول الأزارقة في فساق هذه الأمة، ولكنهم لا يبيحون قتل نساء مخالفيهم، ولا أطفالهم”. انظر معتقدهم في كتاب التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين” (ص 53) للشيخ طاهر بن محمد الإسفراييني.
(11) النساء: 95
(12) عياض بن موسى، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك (2/29-30).
(13) لم أذكر جماعة التبليغ وذلك أن دعوتهم قائمة على الصفات الست كما يزعمون، وقد ذكروا من لوازمها “عدم التدخل في أمراض الأمة” وقصدوا بذلك: الإعراض عن التدخل في علاج مشاكل المجتمع من منكرات وخلافات ونحوها، حتى صار همهم الأكبر: جمع الناس في المساجد من غير اهتمام بتعليمهم التوحيد و العلم الشرعي، ولذا فلا صلة لهم ببحثنا لعدم مشاركتهم أحوال الأمة وأزمانها؛ بل قد قال أحد أمرائهم ممن تربطني به معرفة: “بدعة تجمعنا، ولا سنّة تفرقنا”.
(14) مقتطف من مقال لي نشر على موقعي الإلكتروني قبل سنوات تحت عنوان: “النقد المرفوض”.
(15) مقتطف من مقال لي نشر على موقعي الإلكتروني قبل سنوات تحت عنوان: “النقد المرغوب”.
(16) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب البر والصلة، باب فضل الفرق (4/2004) حديث رقم 2594)]




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام