إنشاء الجمعيات الخيرية
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية )
الحلقة (6)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
بعد أن تكلمت في اللقاء السابق عن مقدمة ممهدة ومدخل لمنشأ الخلافات التي عصفت بالدعوة السلفية، رأيت لزاماً أن أبدأ في هذا اللقاء بذكر هذه المسائل التي سببت الفرقة والاختلاف الكبير في صفوف الدعاة مع بيان العلاج الأمثل لحلها وفقاً للكتاب والسنة، فأقول وبالله التوفيق :
يمكن حصر أصل هذه الخلافات التي نشأت بسبب الغلو والجهل وتقديس المشايخ وتقليدهم في عدة مسائل :
المسألة الأولى: إنشاء الجمعيات الخيرية.
يقول البعض: إن إنشاء هذه الجمعيات في أوساط بعض السلفيين لم يكن من منطلق حزبي يُعقد له الولاء والبراء المنافي للشريعة، وإنما هي جمعيات لمساعدة الفقراء والمساكين ونحوها من الأعمال الخيرية.
ويؤكد آخرون: أنه لا حرمة ولا حزبية في إنشاء الجمعيات إلا إذا قامت على أسس حزبية.
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: « أيُّ جمعية تقام على أساسٍ من الإسلام الصحيح، المستنبطةِ أحكامُها من كتاب الله، ومن سنة رسول الله، ومما كان عليه سلفنا الصالح، فأيُّ جمعيةٍ تقوم على هذا الأساس؛ فلا مجال لإنكارها واتهامها بالحزبية؛ لأن ذلك كلَّه يدخل في عموم قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) [المائدة:22]، والتعاونُ أمرٌ مقصود شرعاً، وقد تختلف وسائله من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان، ومن بلدة إلى أخرى، ولذلك فاتهامُ جمعيةٍ تقوم على هذا الأساسِ بالحزبيةِ أو بالبدعيةِ، فهذا لا مجال إلى القول به، لأنه يخالف ما هو مقرر عند العلماء من التفريق بين البدعة الموصوفة – بعامة – بالضلالة، وبين السُّنةِ الحسنة.
السنةُ الحسنة: هي الطريقة تُحْدَثُ وتوجد لتوصِل المسلمين إلى أمر مقصودٍ ومشروعٍ نصًّا، فهذه الجمعيات في هذا الزمن لا تختلف من حيث وسائلها عن الوسائل التي وجدت في هذا العصر لتسهِّل للمسلمين الوصول إلى غايات مشروعة، فما نحن الآن في هذه الجلسة من استعمال المسجلات – على أشكالها وألوانها – إلا من هذا القبيل، إنها وسائل أُحدثت، فإذا استُعملت فيما يحقق هدفاً وغرضاً شرعيًّا، فهي وسيلة مشروعة، وإلا فلا، كذلك وسائل الركوب الكثيرة والمختلفة اليوم، من السيارات والطيارات ونحو ذلك، هي أيضّا وسائل، فإذا استُعملت في تحقيق مقاصد شرعية، فهي شرعية، وإلا فلا»(1) انتهى كلامه.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «والجمعياتُ إذا كثُرت في أيِّ بلدٍ إسلامي من أجل الخير والمساعداتِ والتعاونِ على البرِّ والتقوى بين المسلمينَ دونَ أن تختلف أهواء أصحابها، فهي خير وبركة، وفوائدها عظيمة، أما إن كانت كل واحدة تضلل الأخرى وتنقد أعمالها، فإن الضرر بها حينئذ عظيم، والعواقب وخيمة»(2).انتهى كلامه.
والسؤال المطروح ههنا: ما هي الحزبية؟ ومتى يكون الشخص متحزبا؟
والجواب: الحزبية تعني التكتل الجماعي تحت قيادة تأمر وتنهى أتباعها حسب ما يراه رئيس الحزب أو نوابه، حيث يُعقد الولاء لمن كان معهم، والبغض والعداء لمن خالفهم أو ناصحهم.
فمن كان في إطار هذا التكتل فهذا حزبي.
ومما يؤسف له: أن هناك أقواماً يرمون تهمة الحزبية على كل من خالفهم أو اختلف معهم في وسيلة أو مسألة يسوغ فيها الخلاف، حتى صارت مثل هذه التهم تصدر من صغار الطلاب وبعض العوام في العلماء والدعاة ممن جعلهم الله حفظةً لدينه في ظل سكوت بعض المشايخ الذين لهم سلطة النصح على هؤلاء.
وما أكثر الذين ظُلموا اليوم بتهمة الحزبية، رغم بغضهم لها وتحذيرهم منها، حتى ألبسوا الفاضل البريء لباس زور، لم يعتد لبسه لكونه لا يطيقه، وبذا حمَّلوا المقتول ظلما وعدوانا تهمة القاتل المنتحر، فليت شعري أين هؤلاء القوم من قوله تعالى : (وقِفُوهُم إِنِّهُم مَسْؤولُون) [الصافات: ٢٤].
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بيّنات أصحابها أدعياء
والدافع لهم عادة على ظلم إخوانهم واتهامهم لهم بما لا يحل شرعا يعود لتعصبهم وغلوهم في مشايخهم الذين يتعجلون أحيانا في إصدار الأحكام في مخالفيهم، وقد شابه هؤلاء الأتباع في هذه الصفة ـ على حسن نية غالبا ـ بعض المبتدعة الذين من عادتهم رمي مخالفيهم بأصناف التهم الجائرة.
قال ابن تيمية رحمه الله: «وكثير من الناس فيهم من الغلو في شيوخهم من جنس ما في الشيعة من الغلو في الأئمة ».(3).
والحاصل في أمر الجمعيات الخيرية أنها وسيلة مباحة، إذا خلت من الولاء والبراء المنافي للشريعة وبالتالي فلا حرمة ولا حزبية فيها، وإذا قامت على أسس التحزب والولاءات الضيقة والبراءة ممن لم يشاركهم ولاءاتهم المتطرفة أو المتحزبة فهذا هو التحزب المنهي عنه، وحق في من تحزب لمثل ذلك ان يوصف بالحزبي.
والله من وراء القصد.
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة الغد.
(1) الألباني، سلسلة الهدى والنور، شريط رقم (590).
(2) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/204).
(3) ابن تيمية، منهاج السنة (٦/٣٠٤)