هل الجهاد في هذا العصر فرض عين على كل مسلم؟
(ضمن دراسات شرعية موجزة حول شبهات الدواعش وتنظيم القاعدة وغيرهم من أهل التكفير)
الحلقة (5)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
يقول أصحاب هذا الفكر أن الجهاد في هذا العصر فرض عين، وأن الدول الإسلامية عطلته وحاربت من يقوم به”
وللجواب على هذه المسألة لا بد من مناقشتها من جهتين : فأقول، وبالله التوفيق :
الجهة الأولى: حكم الجهاد في سبيل الله ومذاهب العلماء في هذه المسألة.
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الجهاد فرض كفاية لقوله تعالى: ”لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً”([1]).
ولقوله تعالى: ”وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً “([2]).
فقالوا قوله تعالى: ” لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ” يدل على أن القاعد عن الجهاد لا يأثم لوجود من يجاهد بدليل أن الآية جاءت في سياق المفاضلة.
وقوله تعالى: ”وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ” يدل على: أنه إذا قام به البعض سقط إثمه عن البعض الآخر وإن لم يقم به من يكفي أثم الكل كفرض الأعيان.
قال ابن كثير بعد أن ساق قوله تعالى : ”لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ” [ وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية ، قال تعالى: ” وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ” ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات في غرف الجنان العاليات ومغفرة الذنوب والزلات وحلول الرحمة والبركات إحساناً منه وتكريماً ولهذا قال : ” دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً “]([3])اهـ
وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبه عملاً بقوله تعالى: ”كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ“([4]).
وبقوله: ” قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ “([5]).
وبقوله تعالى: ”انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ “([6]).
واستدلوا أيضاً بما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق“([7]).
والجمع بين هذه الأدلة ونحوها على التفصيل التالي: فهو فرض كفاية إن كان أهل البلاد الإسلامية التي قاتلها الكفار مستطيعين في الدفاع عن بلادهم وأعراضهم وأموالهم، أو ذهبت طائفة من المقاتلة بإذن ولي أمرها لغزو أهل الكفر فلا إثم على من قعد ولم يُؤمر، طالما قد كفت هذه الفئة غيرهم.
وعلى هذا يتنزل قوله تعالى: ” لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً”([8])، وقوله تعالى: ” وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً “([9]).
وإن كان أهل البلاد الإسلامية التي قاتلها الكفار غير مستطيعين في الدفاع عن بلادهم وأعراضهم وأموالهم وقد انتهكها الكفار فهنا يلزم وجوباً القتال في سبيل الله على الجميع تحت راية أمير البلاد، وعليه يتنزل قوله تعالى: ” قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ“.
وقوله تعالى: ”انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ” على أنه يستثنى أصحاب الأعذار للآية السابقة.
قال ابن تيمية: “فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فانه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم وعلى غير المقصودين لإعانتهم كما قال الله تعالى: ” وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ“ ([10]) وكما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بنصرة المسلم ، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن ، وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله مع القلة والكثرة والمشي والركوب كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج ، بل ذم الذين يستأذنون النبي عليه الصلاة والسلام: ”يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَاراً “([11]) ، فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس وهو قتال اضطرار ، وذلك قتال اختيار للزيادة في الدين وإعلائه ولإرهاب العدو كغزاة تبوك ونحوها”([12])اهـ
وكذا يكون واجباً وجوباً عينياً في حق من أمرهم ولي أمر المسلمين من باب لزوم طاعته عملا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: ”اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة “([13]).
وعملاً بقوله تعالى: ”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ “([14]).
على أنه يلزم في فرض الكفاية أن يستأذن الخارج للقتال من والديه كما سيأتي أدلة ذلك، وكذا الاستئذان من ولي أمره، لأن الصحابة كانوا لا يقطعون في أمر الجهاد إلا بأميرهم وهو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، ولما مات عليه الصلاة والسلام مضى الناس على هذا الأمر في استئذان أمرائهم.
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز هذا السؤال ” إنني أحب الجهاد، وقد امتزج حبه في قلبي، ولا أستطيع أن أصبر عنه ، وقد استأذنت والدتي فلم توافق ، ولذا تأثرت كثيراً ولا أستطيع أن أبتعد عن الجهاد ، سماحة الشيخ : إن أمنيتي في الحياة هي الجهاد في سبيل الله، وأن أقتل في سبيله وأمي لا توافق، دلني جزاك الله خيرا على الطريق المناسب ؟
فأجاب سماحته بقوله: “جهادك في أمك جهاد عظيم ، الزم أمك وأحسن إليها، إلا إذا أمرك ولي الأمر بالجهاد فبادر ، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: ”وإذا استنفرتم فانفروا “([15]) وما دام ولي الأمر لم يأمرك فأحسن إلى أمك، وارحمها ، وأعلم أن برها من الجهاد العظيم ، قدمه النبي – صلى الله عليه وسلم – على الجهاد في سبيل الله ، كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإنه قيل له: “يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال إيمان بالله ورسوله، قيل ثم أي ؟ قال بر الوالدين، قيل ثم أي ؟ قال الجهاد في سبيل الله” متفق على صحته فقدم برهما على الجهاد ، “وجاء رجل يستأذنه، قال: يا رسول الله، أحب أن أجاهد معك. فقال له – صلى الله عليه وسلم -: أحي والداك ؟ قال: نعم ، قال ” ففيهما فجاهد ” متفق على صحته”([16])اهـ مختصراً.
وأما استدل به بعضهم على أنه فرض عين بقوله تعالى: ” كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ” ([17]) فبعيد لأن معناه فُرض والفرض منه العيني ومنه الكفائي على ما سبق تفصيله أو من العموم الذي تخصصه الأدلة بنحو ما تقدم فلا يستفاد من الآية أنه خاص بالعيني.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم : ”من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق“.
فهذا في حق من لم يحدث نفسه بالشهادة والدفاع عن دينه وعرضه ورضي الذل والهوان وأسقط في نفسه أحكام الجهاد على ما شرع الله جل وعلا، فمن كان كذلك ففيه خصلة من النفاق إن مات على ذلك.
وعليه فأحكام الجهاد في الكتاب والسنة صالحة لكل زمان ومكان، ولكن قلَّ من يفقهها ويعرف أصولها وفروعها على مراد الشرع الحكيم إلا مَنْ وفقه الله .
الجهة الثانية : حكم الجهاد في عصرنا الحاضر :
هناك شروط عدة لصحة قيام الجهاد في أي عصر من العصور، وتتلخص في الآتي :
الأول: وجود الإمام الذي ينقاد له الجند في جهاد الطلب سواء كان براً أو فاجراً.
وهذا هو الذي عليه العهد النبوي وما بعده من العهود الإسلامية التي خاضت المعارك ضد أعداء الله.
قال الإمام ابن قدامة ” وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك”([18]).
وقد يلزم شرط الأمير الذي ينقاد له الجند في جهاد الدفع أيضاً وخصوصاً عند الفتن فإن المقاتلة قد يختلفون ويتفرقون شيعاً وأحزاباً؛ كما هو الحال اليوم في جهاد الدفع في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها من البلدان.
والأصل في جهاد الدفع هو صد العدو بقدر الاستطاعة من غير شرط، فإذا عجز عن صد العدو، وكانت هناك فتنة وضعف في المقاتلين وضعف في العدة، فيلزم لهم من أمير وقدرة وراية واضحة، ولا يشترط فيه الإمام إذا غاب وخاصة في البلدان التي لا تحكم بشرع الله، فيكتفى بأمير يقود الجند وإلا كان حرب عصابات.
وقال فضيلة الشيخ عبد العزيز الراجحي – حفظه الله- عن جهاد الدفع بالعراق: ” العراق لا يوجد فيه جهاد ، يحتاج إلى راية وإلى إمام ، ولا يوجد راية ولا إمام ، ولا نرى الآن وجود جهاد، ولا ينبغي للشباب أن يتجمعوا، ويقولوا حرب عصابات ،… فلينتظروا إلى أن يجعل الله لهم فرجاً ومخرجاً ([19]) .أهـ
فيتعين جهاد الدفع إلا إذا كانت ظاهر المفاسد أكثر من المصالح، وهنا يجب العمل بالقاعدة الشرعية المجمع عليها: “أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه ، بل يجب درء الشر بما يزيله، أو يخففه، أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين “.
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقود الجند بنفسه حال الحرب في الدفع كما في غزوة الخندق، وفي الطلب عندما يقصد غزو العدو، وربما بعث السرايا أو المقاتلة في جهاد الطلب وأمَّر عليهم أميراً حفاظاً على وحدة الصف، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ” كان إذا بعث جيشاً أمَّر عليهم أميراً “([20]).
قال ابن خلدون: ”اعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة”([21]).
قال ابن عثيمين رحمه الله ” لابد من إمام يقود الأمة الإسلامية, ولذلك تجد الذين قاموا بالجهاد من غير راية إمام لا يستقيم لهم حال, بل ربما يبادون عن آخرهم، وإذا قُدِّر لهم انتصار صار النـزاع بينهم “([22]).
الشرط الثاني: أن جهاد الطلب مشروط بإذن ولي الأمر.
قال القرطبي رحمه الله ” ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإمام “([23])أهـ.
فإن ولي الأمر ربما يأمر سرية من الناس لمقاتلة العدو فمن خرج من غيرهم معهم بغير إذن وليه فهو عاصٍ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي عليه الصلاة والسلام ” على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يُؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة”([24]).
” ولا يفهم من ذلك أنه إذا أمر بمعصية فلا يسمع له مطلقاً في كل أوامره ، بل يسمع له ويطاع مطلقاً إلا في المعصية فلا سمع ولا طاعة”([25]).
ولا يخفى أن أهل الكفر اليوم ظاهرون على أهل الإسلام لضعف المسلمين، وقد يترتب على ذهاب الواحد من المسلمين لنصرة إخوانه المستضعفين من غير أذن ولي الأمر كثير من المفاسد التي تضره وتضر غيره من قِبَلِ الأعداء، ولذا قيد أهل العلم الخروج بإذن ولي الأمر دفعاً لكثير من المفاسد التي تعم بها البلوى.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله رداً على من سأله عن الجهاد ومعه والدته ” إذا أمرك ولي الأمر بالجهاد فبادر، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – : ”وإذا استنفرتم فانفروا“ ([26]) وما دام ولي الأمر لم يأمرك فأحسن إلى أمك ، وارحمها “([27])اهـ مختصراً.
الثالث: وضوح الراية المسلمة.
لما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ”من قُتل تحت رايةٍ عُمِّية، يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة، فليس من أمتي ” ([28]).
قال نور الدين السندي ” قوله تحت: راية عمية كناية عن جماعة مجتمعين على أمر مجهول لا يعرف أنه حق أو باطل ، وفيه أن من قاتل تعصباً لا لإظهار دين ولا لإعلاء كلمة الله وإن كان المعصوب له حقا كان على الباطل“([29])اهـ
ولو تأملنا الرايات المرفوعة اليوم في كثير من البلاد الإسلامية التي تدعو إلى الجهاد لوجدناها ملوثة ولا يدري أكثر المسلمين مَن صاحب الراية الزكية في ظل اختلاط الأوضاع وكثرة الجماعات والاحزاب وغياب القيادة الموحدة، فربما يتقاتلون فيما بينهم والعدو بين ظهرانيهم،، فالدواعش لهم راية، وتنظيم القاعدة لهم راية، والجبهة الفلانية لها راية، وهكذا رايات وجماعات متناحرة، وكل جماعة تقاتل الأخرى، وربما كفرتها، ولا يعني ان نساويهم في الفكر والاستقامة.
الرابع: القوة التي تؤهلهم لدحر العدو في جهاد الطلب والدفع، سواء كانت قوة معنوية وهي الإيمان أو مادية وهي السلاح والعتاد، وكلا القوتين مفقودتان اليوم عند هؤلاء المقاتلة.
فمما يؤسف له أن كثيراً من المسلمين اليوم يطالبون بنصر الله وهم على هذه الحال المزرية مع أن الله اشترط للنصر الإيمان الصادق فقال جل شأنه: ” وكان حقاً علينا نصر المؤمنين“ ([30]).
فهل تحقق الإيمان في قلوب المسلمين ؟ الجواب: لا .
إذن: لا نصر.
المسلمون اليوم لا يملكون قوة معنوية وهي الإيمان الصادق ولا قوة مادية وهي : السلاح المادي لحرب العدو.
والعدو لا يملك القوة المعنوية لكنه بحق يملك القوة المادية فلا غرابة أن الغلبة اليوم من نصيبه لأن المسلمين فقدوا القوتين وفاقد الشيء لا يعطيه .
ولذا فنبينا عليه الصلاة والسلام وأصحابه كانوا ضعفاء من ناحية مادية فلا يملكون العتاد والعدة والقوة التي لدى الفرس والروم وإنما يحملون إيماناً صادقاً يزلزل الكفر وأعوانه فنصرهم الله وأيدهم بجنده وأظفرهم على أعدائه، فلما اعتز المسلمون بدينهم أعزهم الله ونصرهم على الأعداء .
قال محدث العصر محمد ناصر الدين الألباني ” إذا رجعنا إلى العهد الأول الأنور؛ وهو عهد الرسول عليه السلام الأول، هل كان عنده سلاح مادي ؟ الجواب: لا ، بماذا إذاً كان مفتاح النصر ؟ السلاح المادي أم السلاح المعنوي ؟ لاشك أنه السلاح المعنوي، وبه بدأت الدعوة في مثل تلك الآية { فاعلم أنه لا إله إلا الله}([31]) إذاً العلم- قبل كل شيء – إذاً بالإسلام قبل كل شيء، ثم تطبيق هذا الإسلام في حدود ما نستطيع، نستطيع أن نعرف العقيدة الإسلامية – الصحيحة طبعاً – نستطيع أن نعرف العبادات الإسلامية، نستطيع أن نعرف الأحكام الإسلامية، نستطيع أن نعرف السلوك الإسلامي، هذه الأشياء كلها مع أنها مستطاعة فجماهير المسلمين بأحزابهم وتكتلاتهم معرضون عنها؛ ثم نرفع أصواتنا عاليةً نريد الجهاد ! أين الجهاد ؟! “([32])اهـ.
فالقضية ليست تعطيل الجهاد، بل القضية منوطة بغياب توفر شروط الجهاد في عصرنا الحاضر.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ” ومن شروطه: وجود الراية المسلمة المرفوعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ”ومن قُتل تحت رايةٍ عُمِّية، يغضب للعصبة ويقاتل للعصبة، فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها فليس مني([33])، وفي رواية: ” ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة أو يدعو لعصبة أو ينصر عصبته، فقتل فقتلةٌ جاهلية” فقوله: ”راية عمية ” من العلماء من قال هي الضلالة، كالقتال لأجل الهوى والعصبة، وقال أحمد بن حنبل والجمهور: هي الأمر الأعمى، لا يستبين وجهه، قال ابن راهويه: كتقاتل القوم للعصبة”([34])اهـ.
وسئل سماحة الشيخ صالح الفوزان، فقال السائل ”هل المقصود بالقوّة هنا القوّة اليقينيّة أم الظّنّيّةُ؟
فأجاب: القوّة معروفة؛ فإذا تحقّقت فعلاً، وصار المسلمون يستطيعون القيام بالجهاد في سبيل الله، عند ذلك يُشرعُ جهاد الكفّار، أما إذا كانت القوّة مظنونةً أو غير متيقّنةٍ؛ فإنه لا تجوز المخاطرة بالمسلمين والزَّجُّ بهم في مخاطرات قد تؤدّي بهم إلى النّهاية، وسيرةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في مكّة والمدينة خير شاهد على هذا”([35])اهـ
ثم هؤلاء الطائشون إنما اتخذوا شبهة ” تعطيل الجهاد ” بزعمهم ذريعة للخروج على ولاة الأمر، وهذا بيت القصيد عندهم، وهذه طريقتهم عبر العصور ليغرروا بذلك على غيرهم من الشباب العاطفي وخصوصاً من لم يعرف شبههم مع ما يدَّعون في مذهبهم التكفيري.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “كان أول من فارق جمـاعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون”([36]).
وقال: “وهم أول من كفّر أهل القبلة بالذنوب ، بل بما يرونه هم من الذنوب ، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك”([37]).
بخلاف علمائنا ” أهل السنة والجماعة ” فإنهم يقولون ” ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا ، وإن جاروا”([38]) “.
قال النووي رحمه الله: “وأما الخروج عليهم – يعني الأئمة – وقتالهم، فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه: ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه”([39]).
ولا يخفى على عاقلٍ ما جرَّ هؤلاء على المسلمين من الويلات والدمار والضعف، بسبب عدم انضباطهم بقواعد المسائل وأدلتها وكلمات العلماء في هذا الباب، ثم إن دولهم في العصر الحديث غير مهيئة لمقاتلة الأعداء لضعفها وتفرق أبنائها وعدم قدرتهم على المواجهة، فقتال الأعداء اليوم سيؤدي لأشر منه وقد رأينا ذلك بأم أعيننا لكون أموره لم تتهيء، فلزم اعداد العدة حتى يأذن الله.
وللكلام بقية أستأنفه في لقاء الغد بإذن الله.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة النساء ، الآية رقم (95).
[2] سورة التوبة ، الآية رقم (122).
[3] تفسير ابن كثير (1/718).
[4] سورة البقرة ، الآية رقم (216).
[5] سورة التوبة ، الآية رقم (26).
[6] سورة التوبة ، الآية رقم (41).
[7] أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1910).
[8] سورة النساء ، الآية رقم (95).
[9] سورة التوبة ، الآية رقم (122).
[10] سورة الأنفال ، الآية رقم (72).
[11] سورة الأحزاب ، الآية رقم (13).
[12] مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/358
[13] متفق عليه من حديث أنس.
[14] سورة النساء ، الآية رقم (59).
[15] متفق عليه من حديث ابن عباس.
[16] فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (6/15).
[17] سورة البقرة، آية (216).
[18] المغني لابن قدامة (13/16).
[19[ شرح عمدة الفقه، شرقم رقم(٣٨) الوجه الاول.
[20] أخرجه الشافعي في مسنده (ص208) من حديث بريدة، وأصله في الصحيحين.
[21] المقدمة لابن خلدون (1/219).
[22] الشريط رقم (212) لابن عثيمين بعنوان ” لقاء الباب المفتوح “.
[23] تهذيب الرياسة وترتيب السياسة للقلعي (ص113).
[24] متفق عليه من حديث ابن عمر.
[25] تهذيب الرياسة وترتيب السياسة للقلعي (ص121).
[26] متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[27] فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (6/15).
[28] أخرجه مسلم في صحيحه (3/ 1477).
[29] حاشية السندي على سنن النسائي (7/123).
[30] سورة الروم ، الآية رقم (47).
[31] سورة محمد ، الآية رقم (19).
[32] شريط ” واقعنا الأليم ” ضمن سلسلة الهدى والنور للألباني.
[33] أخرجه مسلم في صحيحه (3/ 1477).
[34] فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (7 387).
[35] المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان (1/228).
[36] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/349).
[37] المصدر السابق (7/481).
[38] شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/540).
[39] شرح صحيح مسلم للنووي (12/ 229).