نظام التعددية الحزبية ديمقراطي لا صلة له بالإسلام ، وقد رأى بعض المنتسبين للسلفية المتأثرين بسياسة العصر: أنه لا ممانعة من إنشاء حزب سياسي تحت مظلة سلفية لمجابهة الباطل، وقد ردَّ علماء كثر هذا الأمر الخطير؛ لكونه لا يتوافق مع منهج الكتاب والسنة، ولم يُبنّ على أصل صحيح، فهو منكر عظيم ما أنزل الله به من سلطان، وهو مسلك من مسالك اليهود والنصارى الذين فرق مجتمعاتهم إلى شيع وأحزاب، ولا يليق بسلفي يدعي السلفية ثم يخوض فيه تحت مظلة السلفية، أو ينسبه لمنهج السلف ” منهج أصحاب القرون الثلاثة المفضلة”؛ لأن منهج السلف « منهج كتاب وسنة»، والتعددية الحزبية من النظام الديمقراطي المضاد للإسلام بل ولكل الأديان السماوية، مع أن إخواننا الذين خاضوا في التعددية الحزبية لا يقبلون الديمقراطية ويرفضونها جملة وتفصيلا؛ بل ويكفرون بمبادئها وأسسها، لولا ما يتشبثون به من دعوى أن « مشاركتهم في التعددية الحزبية من باب تخفيف الضرر» ورغم أنهم أيضاً كانوا بالأمس القريب من أشد الناس عداءً للتعددية الحزبية، وكانوا يرونه باباً من أبواب الفتنة المضلة.
وقد ثبت عن حذيفة رضي الله عنه قال: إذا أحب أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؟ فلينظر؛ فإن كان رأى حلالاً كان يراه حراماً، فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حراماً كان يراه حلالاً فقد أصابته»([1]).
وقد سُئل سماحة الشيخ صالح الفوزان، فقال له السائل : هذا شخص من مصر يقول : لا يخفى عليكم الأحداث القائمة في مصر من مسارعة بعض الشيوخ المعروفين لدى الكثير من الناس من إنشاء حزب سموّه حزب النور السلفي من أجل مقاومة التيارات الليبرالية والعلمانية ، فهل يجوز للمسلم أن ينضم إلى هذه الأحزاب أو يعطيها صوته في الانتخابات ، أتمنى أن تبسطوا الجواب لحاجتنا لذلك بارك الله في أعمالك ؟
فأجاب بقوله : ” الواجب: على المسلم في وقت الفتن أن يتجنبها وأن يبتعد عنها إلى أن تهدأ، ولا يدخل فيها ، هذا الواجب على المسلم.
والأحزاب هذه والتكتلات قد تجر إلى شر وإلى فتنة وإلى اقتتال فيما بينها، فالمسلم يتجنب الفتن مهما استطاع، ويسأل الله العافية ويدعو للمسلمين بأن يفرج الله عنهم ويزيل عنهم هذه الفتنة وهذه الشدة”([2]) انتهى كلام الشيخ.
ثم لو أن هؤلاء الفضلاء أقاموا الشرع في نفوسهم ومجتمعاتهم وأحسنوا التعامل مع إخوانهم المخالفين لهم وفق الشريعة السمحة لهابهم الملوك والأمراء ورؤساء الدول وأرباب السياسات والمقامات والرتب الرفيعة، ولزرع الله الهيبة لهم في قلوب المرجفين والمفسدين، ولنزلوا على رأيهم الشرعي بتدبير الله وفضله ورحمته طوعاً وكرهاً في مواطن أكثر مما يسعون لها من خلال التعددية الحزبية المنافية لأصول الشريعة، فإن عادة رجال الدولة والساسة ألا يعرفوا لفضلاء الدين قدراً أو إجلالاً أو احتراماً إذا نافسوهم في حقلهم السياسي الفاني، وبالتالي يؤلبون عليهم العامة والسفهاء، ويتهمونهم بأنهم دعاة دنيا وأصحاب مصالح وملذات وشهوات؛ بقصد نزع ثقة العلماء من قلوب الشعوب، لأنه يغلب على سياسة العصر النجس والبعد عن ضوابط الشرع المطهر، وحينها يحصد الدعاة من سوء أفعالهم التي جاروا عليها سفهاء الساسة غضب العامة وعدم النزول على فتاواهم واستشاراتهم، وفي الوقت نفسه يستغل سفهاء الإعلام المسير والمزيف هذه الخروق لتشويه سمعة العلماء والدعاة وأن ما يحملونه من علم الكتاب والسنة مجرد آراء كغيرها من آراء الآخرين، وأن على الساسة ورجال الدين – حسب تعبيرهم – احترام الرأي والرأي الآخر، ولو كان رأياً يتصادم مع أصول الدين، وهذا ما نعانيه اليوم بسبب انخراط هؤلاء الفضلاء في مستنقع التعددية الحزبية.
قال الفضيل: « لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم، وأعزوا هذا العلم، وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله، إذاً لخضعت لهم رقاب الجبابرة، وانقاد لهم الناس، وكانوا لهم تبعاً، ولكنهم أذلوا أنفسهم وبذلوا علمهم لبناء الدنيا، فهانوا وذلوا » ([3]).
وقال ابن الجوزي رحمه الله:« إخواني، اسمعوا نصيحة من قد جرب وخبر، إنه بقدر أجلالكم لله عز وجل يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم، ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق»([4]) .
وقال رحمه الله: «والله، لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك، ورأيت من يلبس فاخر الثياب ، وليس له كبير نفل، ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة, كما روي عن أنس بن مالك: أنه لم يكن كبير عمل من صلاة وصوم، وإنما كانت له سريرة.
فمن أصلح سريرته، فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فاسدها صلاح ظاهر »([5]).
ورحم الله القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني القائل :
ولِـمَ أقـض حـق الـعلم إن كان كلما **** بـــــــدا طـمـع صـيـرته لــي سـلمـــا
ولم أبتذل في خدمة العلم مهـــجتي **** لأخـــــدم مــن لاقـيـت لـكـن لأخـدما
أأشـقـى بــه غـرسـاً وأجـنـيه ذلــةً **** إذاً فــاتـبـاع الــجـهـل قـــد أحــزمـا
ولــو أن أهـل الـعلم صـانوه صـانهم **** ولــو عـظموه فـي الـنفوس لـعُظِّما
ولــكــنْ أذلــــوهُ فــهــان ودنــسـوا **** مـحـيـاه بـالأطـمـاع حــتـى تـجـهما
قال الشيخ اين عثيمين رحمه الله في كتابه الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات: ” ليس في الكتاب ولا في السنة ما يبيح تعدد الأحزاب والجماعات، بل إنَّ في الكتاب والسنة ما يذم ذلك، قال الله تعالى: “إنَّ الذينَ فَرَّقُوا دينهم وَكانُوا شِيَعَاً لستَ مِنْهُم في شَئ إنَما أمْرُهُم إلى الله ثُمَّ ينبئهم بِمَا كانوا يَفعَلُون”، وقال تعالى: ” كلُ حِزبٍ بمَا لَدَيْهم فَرِحُون”، ولا شك أن هذه الأحزاب تتنافى ما أمر الله به بل ما حث الله عليه في قوله: “وأنَّ هَذه أمَّتُكم أمَّةً وَاحدَة وَأنا رَبُكم فَاتَّقون”.
وقول بعضهم: إنه لا يمكن للدعوة أن تقوى إلا إذا كانت تحت حزب؟!
نقول: هذا ليس بصحيح، بل إنَّ الدعوة تقوى كل ما كان الإنسان منطوياً تحت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متبعاً لآثار النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين” انتهى كلامه.
ولا يعني ذلك ألا يعمل الصالحون والفضلاء في الوظائف الحكومية؛ بل مثل ذلك مطلوب لمن كان ورعاً وأهلاً لذلك، إذ هو أولى من غيره، عسى الله أن يصلح وينفع بمثله العباد والبلاد إذا أخلص في وظيفته الحكومية وأقام من خلالها الشرع المطهر، فقد تولى نبي الله يوسف منصب عزيز مصر، وقال لمليكها – وهو كافر على الراجح -:(اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْض إنِّي حِفِيظٌ عَلِيم)[يوسف:٥٥].
بل لو خالط الوظيفة الحكومية أثناء عمله شيء من المخالفات الشرعية فله أن يبقى في عمله متى ترجحت المصلحة على المفسدة، وقد نصت القاعدة الفقهية على أنه لو اجتمعت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما، وأيضا أن الأخذ بأعظم المصلحتين جائز عند دفع أعظم المفسدتين، وكذلك قاعدة ” ارتكاب أخف الضررين للتخلص من أشدهما”.
قال ابن تيمية: «الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو، وقسم الفيء، وإقامة الحدود، وأمن السبيل : كان فعلها واجباً؛ فإذا كان ذلك مستلزماً لتولية بعض من لا يستحق وأخذ بعض ما لا يحل، وإعطاء بعض من لا ينبغي، ولا يمكنه ترك ذلك؛ صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجباً أو مستحباً، إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب؛ بل لو كانت الولاية غير واجبة، وهي مشتملة على ظلم؛ ومن تولاها أقام الظلم، حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها، ودفع أكثر باحتمال أيسره : كان ذلك حسناً مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيداً([6]) » .
لكنه يستثنى مما تقدم : من عاش في بلاد تحارب الدين علناً ولا تحكم بما أنزل الله ، وتمنع العلماء والدعاة من نشر العلم والدعوة إلى الله ، أو في البلاد الكافرة أو كان المسلمون فيها أقلية، ولا تتحقق حقوقهم الشرعية ودعوتهم الدينية إلا بإنشاء حزب لهم، فلا بأس بشرط إنكاره وكراهيته لولا الضرورة مع أمنهم من الفتنة، دفعا للأضرار المترتبة حال عدم خوضهم في ذلك وعملاً بقاعدة « درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» .
قالت اللجنة الدائمة وعلى رأسها الشيخ عبد العزيز بن باز: «من كان لديه بصيرة في الإسلام وقوة إيمان وحصانة إسلامية وبعد نظر في العواقب وفصاحة لسان، ويقوى مع ذلك على أن يؤثر في مجرى الحزب فيوجهه توجيهاً إسلامياً – فله أن يخالط هذه الأحزاب، أو يخالط أرجاهم لقبول الحق، عسى أن ينفع الله به، ويهدي على يديه من يشاء، فيترك تيار السياسات المنحرفة إلى سياسة شرعية عادلة ينتظم بها شمل الأمة، فتسلك قصد السبيل ، والصراط المستقيم ، ولكن لا يلتزم بمبادئهم المنحرفة، ومن ليس عنده ذلك الإيمان ولا تلك الحصانة ويخشى عليه أن يتأثر ولا يؤثر، فليعتزل تلك الأحزاب؛ اتقاء للفتنة ومحافظةً على دينه أن يصيبه منه ما أصابهم، ويبتلى لما ابتلوا به من الانحراف والفساد([7])» اهـ.
وقالت أيضاً وعلى رأسها الشيخ عبد العزيز بن باز: «يشرع للمسلمين المبتلين بالإقامة في دولة كافرة أن يجتمعوا ويترابطوا ويتعاونوا فيما بينهم سواء كان ذلك باسم أحزاب إسلامية أو جمعيات إسلامية؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى» ([8]) اهـ.
ولا مزيد على ما تقدم، وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة الغد.
([1]) أخرجه الحاكم (4/514)، وصححه.
([2]) مفرغ من شريط لقاء مفتوح مع الشيخ الفوزان برقم (21) في ذي القعدة 1432هـ
([3]) الأبشيهي، كتاب المستطرف في كل فن مستطرف(1/49).
([4]) أبو الفرج ابن الجوزي، صيد الخاطر (ص64).
([5]) أبو الفرج ابن الجوزي، المصدر السابق (ص220).
([6]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (20/55).
([7]) فتاوى اللجنة الدائمة (12/385 فتوى رقم 6290).
([8]) المصدر السابق ( 23/408 فتوى رقم 5651)