زيارة ومجالسة ومناصحة بعض الشخصيات المتهمة
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية )
الحلقة (13)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
يرى البعض ممن ينتسب للسلفية أن من جالس سلفياً متهما بالحزبية، أو ساعده في شراء الدواء، أو إيجار منزل، أو سداد دين ،أو زاره ولو كان جاراً له، أو صديقاً كانت تربطه به علاقة زمالة أو صداقة قديمة، أو زاره ناصحاً له، أو قَبِلَ دعوته في وليمة، أو ضيافة، أو مشى في جنازته حال موته، أو كان في عزاء وهو متهم بالحزبية أو عضو في جمعية متهمة فهو يلحق به، وقد يصل الأمر إلى تبديعه.
هكذا يدندن بعضهم باسم السلفية لكن لو نظرنا إلى منهج السلف الصالح وهم أصحاب القرون المفضلة لوجدنا أن نسبة هذه الأفعال إلى منهجهم نسبة غير صحيحة، فكيف لو رجعنا إلى نصوص القرآن والسنة التي تتنافى مع هذه التصرفات الطائشة التي مزقت المجتمع الواحد وأوغرت الصدور.
إن هؤلاء الذين يدعون إلى الكتاب والسنة وهم يعتزلون كل من اختلفوا معه ولو في مسألة فرعية أو مسألة مستساغ فيها الخلاف، إنما يمنعون أنفسهم وإخوانهم الخير والنصح، فالمعوج يحتاج من ينصحه، فإذا اعتزلناه عظم اعوجاجاً، وربما دعا الناس إلى ما هو عليه من الشر فعظم الشر، وأنتم ساعدتموه على بقاء هذا المنكر لأنه عندكم ضال و مبتدع، وفي حقيقته أنه جاهل شيئاً أو أخطأ في شئ ويحتاج من يبصره برفق وعلم وحلم.
فهناك فرق بين عالم أو داعية مبتدع على علم، وبين جاهل أو متحزب على جهل أو أخ ملتزم بالمنهج الشرعي الصحيح حدث منه خطأ.
لا يصلح أن نجعل الجميع في مربع واحد، ثم نحشر أقوال العلماء المتقدمين في المبتدعة ونحملها فوق ظهره ونقول عنه : مبتدع، ضال، حزبي، منحرف، فإنه فرَّ من البدعة وأهلها ومن التحزب وأهله، وحذر من مسالك المبتدعة والحزبيين، ومع ذلك رفضتم إلا أن تلبسوه ثوب البدعة والضلال ظلماً وعدوانا، فأين عقولكم يا إخواني في الله؟؟؟؟!!!!!!!!
هذا من الظلم الذي يعاقب الله عليه كل من استمر على هذا المنهج المنافي للشرع وإن زعم أنه عالم، وأعظم منه ظلماً أن يُنسب هذا المنهج لخيرة أصحاب القرون المفضلة الثلاثة الذين قال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام : “خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم”([1]).
فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يعتزل من هم أشد جرماً من هؤلاء الذين اعتزلتموهم، بل ذهب إلى مواطن الكفر وأنديتهم وأسواقهم ومجالسهم وبيوتهم وناصحهم وصبر على أذاهم وهم كفار ومنافقون ويهود، ويكنون له كل أنواع العداوات والأذى، لعل الله أن يهديهم، وكفى به قدوة وأسوة.
فقد زار ابن اليهودي ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وقد أخرج حديثه الإمام البخاري في صحيحه عن أنس: “أن غلاماً من اليهود كان مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: “أسلم” فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار» ([2]).
ونزل عليه قوله تعالى: “وإِنْ أحَدٌ مِنَ المُشْركِينَ اسْتَجارَكَ فَأجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأمَنَه” [التوبة:٦].
فيا إخواني : أعطوا الأمان لإخوانكم بدلاً من تخويفهم منكم بسبب قسوتكم ودعوهم ليسمعوا كلامكم وارشادكم برفق ولين، لعلهم أن يهتدوا بنصحكم وتوجيهكم فهم أو أولى ممن ذكرتهم الآية بدلاً من البعد عنهم واعتزالهم وتضليلهم، فهو إخوانكم ويئنون كما تئنون.
كما نزل عليه قوله تعالى: (وَمِمَّنْ حَولَكُمْ مِّنْ الأعْرَابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أهْلِ المَدينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُم سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذابٍ عَظِيم) [ التوبة: ١٠١]، فلم يخاطبه الله عز وجل أن يبتعد عن دعوتهم ونصحهم وهم كفار فضلاً عن إخواننا المسلمين الذين لهم حق الولاء والنصح.
ولم يعتزل عليه الصلاة والسلام دعوة هؤلاء المنافقين والمشركين مكتفياً بالتحذير منهم عن بُعد إلا عندما استباحوا دمه ودم صحابته رضي الله عنهم أشد الاستباحة، فكيف بمن هم مسلمون ينصرون مذهب الحق في الظاهر، وإن تخللتهم أخطاء لا يسلم منها أحد.
فهل سلمتم أنتم من الأخطاء والزلات؟! وصرتم ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أم أن الأخطاء والزلات عندكم وعند غيركم من بني آدم.
يا إخواني كونوا خير خلف لخير سلف، فقد أدى الخلاف في أوساط خيرة الناس إلى النفرة والفرقة وانقسام أصحاب المنهج الشرعي الواحد إلى جماعات وأحزاب وعلى رأس كل حزب أو جماعة شيخ أو طالب علم، فأنتم تحذرون من الحزبية لكنكم بصنيعكم هذا تحزبتم وصار كل حزب من أحزابكم يجرح الآخر بسبب كلمة صدرت منه غير مقصودة أو رأي مستساغ أو لم يوافقكم في مسألة فيها سعة، أو لم يوافقكم في تبديع شخص من العلماء بدعه شيخ مختلف معه أو مشايخ اختلفوا معه، بل للأسف تردني اتصالات ورسائل من العوام يقولون نحن لا نحب السلفيين لأنه لا شغل لهم سوى غيبة الناس وتبديعهم وتضليلهم والتحذير من المشايخ والنيل من كل إنسان بحق أو بغير حق، ولا شك أن بعض كلام العوام فيه مبالغة لكن فيه أيضا من الصدق ما رأيناه وسمعناه وقرأناه لبعض المتعجلين، ولا شك أنكم بهذه التصرفات تشوهون سمعة طلبة العلم والصالحين والدعاة ممن ينكرون عليكم وهم على الجادة، بل وتحملون بهذه التصرفات غير السوية أخلاقا غير أخلاق نبيكم الكريم وصحابته الأطهار، فلا تكونوا عونا للشيطان من حيث لا تشعرون، فإن شركم يعم وخيركم يخص.
يا إخواني : لقد استغلَّ بعض المغرضين وأصحاب النفوس الضعيفة، وصغار القوم هذه الخلافات لتوسيعها في المجتمع الواحد بنشر الإشاعات والأكاذيب للنيل من الدعاة والعلماء بحجة أن العالم الفلاني أخطأ في المسألة الفلانية، ووقع في بدعة مضلَّة، وفارق الحق، ثم ألحقوه بأهل الضلال قبل استيفاء الحكم وشروطه وانتفاء موانعه.
ويا ليت شعري :
من ذا الذي ما ساء قطُّ **** ومن له الحسنى فقطْ
كل ابن آدم خطَّاء، ولا يُصْلِح الخطأ الخطأ، والعنف والقسوة والتحذير والهجر ونحوها من مسببات الفرقة، وإنما يصلحه النصح وإقامة الحجج مع لين العبارة.
قال الشيخ عبد المحسن العباد : “ولا شك أن الواجب على أهل السنة في كل زمان ومكان التآلف والتراحم فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، وإن مما يؤسف له في هذا الزمان ما حصل من بعض أهل السنة من وحشة واختلاف، مما ترتب عليه انشغال بعضهم ببعض تجريحاً وتحذيراً وهجراً، وكان الواجب أن تكون جهودهم جميعاً موجهة إلى غيرهم من الكفار وأهل البدع المناوئين لأهل السنة، وأن يكونوا فيما بينهم متآلفين متراحمين، يذكر بعضهم بعضاً برفق ولين “([3]).
وقال الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – ناصحاً أحد الشباب: “انظر – يا أخي – أنا أنصحك – أنت والشباب الآخرين – الذين يقفون في خط منحرف – فيما يبدو لنا – والله أعلم -:
أن لا تضيِّعوا أوقاتكم في نقد بعضكم بعضاً، وتقولوا: فلان قال كذا، وفلان قال كذا، لأنه:
أولاً: هذا ليس من العلم في شيء.
وثانياً: هذا الأسلوب يوغر الصدور، ويحقق الأحقاد والبغضاء في القلوب.
إنما عليكم بالعلم، فالعلم هو الذي سيكشف: هل هذا الكلام في مدح (زيد) من الناس – الذي له أخطاء كثيرة – ؟!
وهل – مثلاً- يحق لنا أن نسميه: (صاحب بدعة) ؟!
وبالتالي: هل هو مبتدع ؟!
ما لنا ولهذه التعمُّقات ! !
أنا أنصحُ بأن لا تتعمّقوا هذا التعمُّق – لأننا – في الحقيقة – نشكو – الآن – هذه الفُرقة التي طرأت على المنتسبين لدعوة الكتاب والسنة”([4]).
وقال الشيخ – رحمه الله – : “لذلك فالمقاطعة وسيلة شرعية وهو تأديب المهاجر والمقاطع، فإذا كانت المقاطعة لا تؤدبه بل تزيده ضلالاً على ضلال، حينئذ لا ترد المقاطعة، لذلك نحن اليوم لا ينبغي أن نتشبث بالوسائل التي كان يتعاطاها السلف لأنهم ينطلقون من موقف القوة والمنعة” – ثم قال – رحمه الله – : “لو فتحنا باب المقاطعة والهجر والتبديع، للزم أن نعيش في الجبال، الهجر لا يحسن أن يطبق، لأن المبتدعة والفساق هم الغالبون.
إذا انحرف منحرف : ترفقوا به، انصحوه، صاحبوه، فإذا يُئس منه أولا، ثم خشي أن تسري عداوته، إلى غيره ثانيا، يقاطع إذا غلب على رأيه أن المقاطعة هي العلاج، وإنما واجبنا: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (النحل: 125)” ([5]) هـ.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة الغد.
([1]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في “صحيحه” [كتاب الشهادات ، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2/938 رقم 2508)] ، ومسلم في “صحيحه” [كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/1964 رقم 2535)] .
([2] ) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه… (٢/٩٤ حديث رقم ١٣٥٦)].
([3]) عبد المحسن العباد، رفقا أهل السنة بأهل السنة (ص3).
([4]) الألباني، سلسلة الهدى والنور، شريط رقم (784).
([5]) الألباني، سلسلة الهدى والنور، شريط رقم (666)