الخميس 6 ربيع الأول 1445 هـ || الموافق 21 شتنبر 2023 م


قائمة الأقسام   ||    دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية    ||    عدد المشاهدات: 4950

ما قيل من التنازع المحدث في حكم إقامة المحاضرات والندوات ونحوها في المساجد والمراكز والجمعيات
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية )
الحلقة (15)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني

يرى بعض المشايخ أن إقامة الدرس أو المحاضرة أو الندوة ونحوها في أي مسجد أو مركز أو جمعية تحت أيدي من يتهمونهم بالحزبية أمر لا يجوز؛ بحجة أن حضور الفاضل إلى مثل هؤلاء يكثّر سوادهم ويعينهم على ما هم عليه، وبالتالي يظن العامي والمغرر به أنهم على المنهج القويم بمجرد حضور هذا الفاضل.
والقول الفصل : أن المساجد بيوت الله، وليست ملكاً لأحد، فإذا وعظ فيها الفاضل أو خطب أو درّس بعيداً عن البدعة والحزبية، فلا يحل لأحد أن يمنعه.
قال الله تعالى: (وأَنَّ المَساجِدَ لله فَلا تَدْعُو مَعَ الله أَحَدًا)[ الجن:١٨ ].
وقال سبحانه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدًوّ والأصَال) [النور : ٣٦].
وقال الله تعالى: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ الله أَنْ يُذكَرَ فيها اسْمُهُ وسَعَى فِي خَرابِها) [البقرة ١١٤].
أما من جاءها يدعو الناس إلى البدعة والضلالة والحزبية والشرك ونحوها من المخالفات الشرعية، فيلزم القائم عليها منعه من ذلك إن كانت لديه قدرة من غير مفسدة مترجحة حفظاً لعقيدة الأمة ومنهجها من الضلال والانحراف، ولا يُقدّر مثل هذه المسائل والمفاسد سوى العلماء، ولذا لزم استشارتهم حسب الزمان والمكان.
وأما إقامة المحاضرات والندوات والدروس ونحوها في مثل هذه الجمعيات والمراكز والمعاهد فإن هذا متاح شرعاً لكل من نشر العقيدة الصحيحة والمنهج السليم فيها وتعزى بمنهج أهل الحق من خلال دعوته وتدريسه، فإن الجامعات الإسلامية اليوم، ومثلها المعاهد والمراكز والمدارس النظامية لا تسلم من الدخن، فتجد فيها صاحب البدعة وصاحب السنة، ومع ذلك لا نجد صاحب السنة يعتزلها ويتركها لصاحب البدعة طالما استطاع نشر السنة من خلالها، فلماذا نفرق بين الأمرين، أم أن الجامعة ونحوها تُعطي راتبا ماديا مغريا، وأصحاب تلكم المراكز والجمعيات غير النظامية دون ذلك في العطاء (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمون(٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسون) [القلم : ٣٦، ٣٧].
ثم هذه الجمعيات والمراكز غير النظامية طالما أتاحت لكم الفرصة للدعوة من خلالها وأنتم تدَّعون وجود بعض المخالفات الشرعية فيها وفي القائمين عليها ، فأتوهم وناصحوهم وأظهروا لهم منهج الحق ولا تعتزلوهم وتعينوا الشيطان عليهم بالابتعاد عن إتيانهم للنصيحة، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يأتي نوادي أهل الكفر والشرك والفجور.
وقد سيق أن قلت إن النبي عليه الصلاة والسلام: “زار ابن اليهودي ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وقد أخرج حديثه الإمام البخاري في صحيحه عن أنس: “أن غلاما من اليهود كان مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: “أسلم” فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: »الحمد لله الذي أنقذه بي من النار” ([1]).
ونزل عليه قوله تعالى: (وإِنْ أحَدٌ مِنَ المُشْركِينَ اسْتَجارَكَ فَأجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأمَنَه) [التوبة:٦٦]. فأعطوا الأمان لإخوانكم بدلا من تخويفهم منكم بسبب قسوتكم ودعوهم ليسمعوا كلامكم وإرشادكم لعلهم أن يهتدوا بنصحكم وتوجيهكم لو معكم حق عليهم، فهم أولى ممن ذكرتهم الآية بدلا من البعد عنهم.
كما نزل عليه قوله تعالى: (وَمِمَّنْ حَولَكُمْ مِّنْ الأعْرَابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أهْلِ المَدينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُم سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذابٍ عَظِيم) [ التوبة: ١٠١١]، فلم يخاطبه الله عز وجل أن يبتعد عن دعوتهم ونصحهم وهم كفار فضلا عن إخواننا المسلمين الذين لهم حق الولاء والنصح.
ولم يعتزل عليه الصلاة والسلام دعوة هؤلاء المنافقين والمشركين مكتفيا بالتحذير منهم عن بُعد إلا عندما استباحوا دمه ودم صحابته رضي الله عنهم أشد الاستحلال، فكيف بمن هم مسلمون ينصرون مذهب الحق في الظاهر، وإن تخللتهم أخطاء لا يسلم منها أحد.
أما أنه يُخشى على من أتاهم أن يصير حزبياً أو منحرفاً أو ماديّا ونحوها من الادعاءات، فالجواب: أن مثل هذا يجب عليه أن يقعد في بيته ولا يأتيهم أو ينتقدهم لأنه جاهل أو طالب علم هزيل لا يقوى على رد الشبه وبيان الحق، وقد يغرونه بالمال فيصير حزبيًّا لدى من صحَّت في حقهم الحزبية، ومثله لا يتكلم ولا ينقد عن بُعد لأن الخطاب موجه للدعاة الفضلاء المنصفين المتعلمين ممن يستطيع إقامة الحجج وإزالة الشُّبه عن المنحرفين والحزبيين وأصحاب البدع، ولديه أهلية لنشر مذهب الحق الذي هو دين الله في أرضه.
ولا يعني ذلك إلزام إتيان هذه الجمعيات والمراكز والمعاهد غير النظامية، وإنما بيان الشرع في ذلك كما تقدم، وأنه لا إنكار على من أتاها بنية الدعوة إلى الله مظهراً المنهج السليم.
كما لا يعني ذلك أن كل جمعيات العالم الإسلامي سلمت من الحزبية؛ بل هناك من حوَّل بعض الجمعيات إلى وكر للحزبية مضيقاً ما وسعه الله على هذه الأمة، إلا أنه ليس عدلاً وصف كل الجمعيات بهذا الداء المقيت إلا بدليل مشاهد.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة الغد.


(1) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه… (٢/٩٤ حديث رقم ١٣٥٦)]




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام