الإنكار على السلطان في العلن وتأليب العامة للخروج عليه
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية)
الحلقة (18)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني.
هذه مسألة شائكة انتشرت اليوم في أوساط الشعوب الإسلامية، موافقة للديمقراطيين والخوارج، وهي مسألة إظهار عوار الحاكم للأمة.
ومما لا شك فيه شرعاً أنه يجب إنكار المنكرات سواء كانت من السلطان أو من عامة الناس، إلا أن إنكار مثل ذلك على السلطان لا بد فيه من الحكمة ونصيحة السر؛ لأمرين اثنين:
الأول: أن هذه طريقة الصحابة وأصحاب القرون المفضلة وهي الموافقة للنصوص الشرعية.
الثاني: حرصاً على جمع الكلمة، وخوفا من فتك السلطان.
فأما الأول: فقد ورد في ذلك بعض الأحاديث والآثار العديدة، ومن ذلك:
ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عياض بن غنم رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يبده علانية، وليأخذه بيده، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدَّى الذي عليه» ([1]).
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:« قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه» ([2]).
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر فقال: «إن كنت فاعلاً ولابد ففيما بينك وبينه»([3]).
ولذا فحديث أبي سعيد الخدري الذي يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» ([4])، يؤكد نصيحة السر بقوله: «عند سلطان جائر»، ولم يقل: «عند العامة».
ويستثنى من ذلك ما كانت المصلحة فيه جهرا أولى من السر، وذلك إذا كان تأثيره أعظم في الإزالة وأصلح، كما سيأتي بيانه.
وأما الثاني:
فالحرص على جمع الكلمة خير من تفريق الصف؛ فإن نصيحة الجهر أمام العامة علناً يفضي إلى الخروج على الحاكم؛ لأن عامتهم يجهل حقوق الولاة على ضوء الشرع المطهر كما يجهل قواعد المصالح والمفاسد، فيثق هؤلاء العامة بديانة الخطيب أو الواعظ فيخرجون على ولي الأمر بالمظاهرات أو الانقلابات أو ما يسمى بالعصيان المدني ونحو ذلك مما جلبه الكفار إلى بلاد المسلمين، وقد تقدم معنا أن «القاعدة الشرعية المجمع عليها: أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه؛ بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه، أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين» ([5]).
ومما لا شك فيه عند الأصوليين والفقهاء: أن كل وسيلة أدت إلى حرام فهي حرام».
قال الخطابي رحمه الله: «ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يُدعى لهم بالصلاح»([6])اهـ.
قال ابن القيم رحمه الله : «ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيس القبط بالخطاب اللين، فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعاً وعقلاً وعُرفا، ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب رؤساء العشائر والقبائل، وتأمل امتثال موسى لما أُمِر به كيف قال لفرعون: (فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تَزَكَّىٰ، وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ) [النازعات: ١٨،١٩] فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مخرج الأمر»([7]) اهـ.
قال الشوكاني رحمه الله: «ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل: أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد» ([8])اهـ.
وجاء في الدرر السنية: «إنكار المنكر على الولاة ظاهراً مما يوجب الفرقة والاختلاف بين الإمام ورعيته، فإن لم يقبل المناصحة خفية، فليرد الأمر إلى العلماء، وقد برئت ذمته»([9]) اهـ.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: «على من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سراً لا علناً بلطف وعبارة تليق بالمقام »([10]) اهـ.
وقال الألباني رحمه الله: «يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ؛ لأن في الإنكار جهاراً ما يُخشى عاقبته؛ كما اتفق في الإنكار على عثمان جهاراً؛ إذ نشأ عنه قتله» ([11]).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «لما فتحوا الشر في زمن عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان رضي الله عنه جهرةً تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية وقتل عثمان وعلي بأسباب ذلك، وقتل جم كثير من الصحابة وغيرهم بسبب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً حتى أبغض الناس وليَّ أمرهم، وحتى قتلوه، نسأل الله العافية» ([12])اهـ.
وقال رحمه الله: «ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به؛ حتى يُوجه إلى الخير، أما إنكار المنكر بدون ذكر الفاعل: فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، فذلك واجب؛ لعموم الأدلة، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر من فعلها» ([13])اهـ.
وقال ابن عثيمين: «فإن مخالفة السلطان فيما ليس من ضروريات الدين علنًا، وإنكار ذلك عليه في المحافل والمساجد والصحف ومواضع الوعظ وغير ذلك ليس من باب النصيحة في شيء، فلا تغتر بمن يفعل ذلك، وإن كان عن حسن نية، فإنه خلاف ما عليه السلف الصالح المقتدى بهم، والله يتولى الهدى» ([14])اهـ.
وقال رحمه الله: «بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمور، والوقوع في أعراضهم، ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك عما لهم من محاسن أو صواب، ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد في الأمر إلا شدة؛ فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة، إنما يزيد البلاء بلاءاً ويوجب بغض الولاة وكراهيتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها [بالمعروف]»([15]) اهـ.
وقال أيضا – رحمه الله – : «فالله الله في منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وأن لا يتخذ م أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس، كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها، فإذا حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن، لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم، وإن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم وحصل الشر والفساد، فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان وأن يضبط الإنسان نفسه وأن يعرف العواقب، وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام، فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال بل العبرة بالحكمة، ولست أريد بالحكمة السكوت عن الخطأ، بل معالجة الخطأ لنصلح الأوضاع لا لنغير الأوضاع، فالناصح هو الذي يتكلم ليصلح الأوضاع لا ليغيرها»([16]) اهـ.
وقال الشيخ صالح الفوزان في خطبة جمعة: «نحن لا نقول أن الولاة معصومون، ولا يحصل منهم أخطاء، ولا يحصل منهم ظلم، لا نقول إن الشعوب ليس لها حقوق، لا نقول هذا؛ بل نقول: الشعوب لها حقوق والولاة ليسوا معصومين، ويحصل منهم ما يحصل، ولكن ليس العلاج بالفوضى والمظاهرات والتخريب وإحراق المرافق العامة، ليس حل المشكلة في هذا، المشكلة تحل بما ذكر الله جلَّ وعلا في قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾[النساء:83].
فإذا جاءهم أمر من الخوف مثل ما يحصل الآن أو من الأمن فلا يستعجل العوام والغوغاء والدهماء وأصحاب الفكر المحدود، لا يستعجلون بالحث فيه ونشره وإبداء الآراء فيه، هذا ليس من شأنهم، هذا يرد إلى الرسول إليه صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى سنته بعد وفاته، (وإلى أولي الأمر) وهم أهل العلم وأهل السياسة والعقل، ولاة الأمور، فيحلون هذه المشاكل ويضعون لها الحلول الناجحة بإذن الله عز وجل ، هذا هو طريق الحل في هذه المسألة ، ويتولى ذلك أهل العلم وأهل الرأي من الرعية – أهل الرأي والبصيرة والعقول – ما هو بالفوضى والدهماء والمظاهرات، هذه ما تزيد الأمر إلا شدة والعياذ بالله، وما العواقب بعدها؟
انفلات يحصل، انفلات في الأمر، وإذا انفلت الأمر ضاعت الحقوق، هم يطالبون بحقوق قد تكون يسيرة… لكن تضيع الحقوق عامة، ولا يبقى حق نسأل الله العافية ، فالواجب أن نتبصر في هذا الأمر، وأن نردَّه في هذا الشأن ليقوموا بحله وإبداء الآراء الناجحة فيه ، لا نتعجل في هذا الأمر، كلٌّ يبدي رأيه حديث المجالس، لا، هذا لا يجوز، هذه فوضى، فوضى فكرية تؤول إلى فوضى بدنية، نسأل الله العافية ([17])»اهـ.
وقال حفظه الله: «العصمة ليست لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحكام المسلمون بشر يخطئون، ولا شك أن عندهم أخطاء ليسوا معصومين، ولكن لا نتخذ من أخطائهم مجالاً للتشهير بهم ونزع اليد من طاعتهم، حتى وإن جاروا وإن ظلموا، حتى وإن عصوا، مالم يأتوا كفراً بواحاً، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان عندهم معاص وعندهم جور وظلم؛ فإن الصبر على طاعتهم جمع للكلمة، ووحدة للمسلمين، وحماية لبلاد المسلمين، وفي مخالفتهم ومنابذتهم مفاسد عظيمة، أعظم من المنكر الذي يصدر منهم، ما دام هذا المنكر دون الكفر ودون الشرك، ولا نقول: إنه يسكت على ما يصدر من الحكام من أخطاء، لا، بل تعالج، ولكن تعالج بالطريقة السليمة، بالمناصحة لهم سراً، والكتابة لهم سراً، وليس بالكتابة التي تُكتب، ويُوقع عليها جمع كثير، تسلم لوي الأمر، أو يكلم شفوياً، أما الكتابة التي تكتب وتوزع على الناس، فهذا عمل لا يجوز ؛ لأنه تشهير، وما هو مثل الكلام على المنابر، بل هو أشد ، بل الكلام يمكن أن ينسى، ولكن الكتاب تبقى وتتداولها الأيدي، فليس هذا من الحق ([18])»اهـ.
وقال حنبل رحمه الله: «اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله [ يعني أحمد بن حنبل] وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك- ، ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يُستراح من فاجر، وقال: ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار ([19])»اهـ.
ويستثني من ذلك ما إذا كانت المصلحة في العلن لا تؤدي إلى منكر أعظم، وهذه المصلحة يقدرها كبار العلماء، فلا يخوض الداعية في مسلك كهذا حتى يستشير كبار علماء عصره ولو بعضهم دفعاً للفتنة.
وقد قال الشيخ صالح بن محمد اللحيدان: «طالب العلم ينبغي أن يعتني بالمشاورة والمراجعة، وعرض ما يمر عليه من أفكار ، وآراء مشوشة، على ميزان الشرع – على دلالة الكتاب والسنة – فإذا التبس عليه الأمر رجع إلى من يراهم أرسخ منه في العلم »([20]) اهـ.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: «ولكن يجب أن نعلم أن الأوامر الشرعية في مثل هذه الأمور لها مجال، ولا بد من استعمال الحكمة، فإذا رأينا الإنكار علناً لا يزول به الشر، ولا يحصل به الخير بل يزداد ضغط الولاة على المنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سراً، وبهذا تجتمع الأدلة ، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علناً فيما إذا كنا نتوقع فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والنصوص الدالة على الإنكار يكون سراً فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل به الخير.
وأقول لكم: إنه لم يضل من ضل من هذه الأمة إلا بسبب أنهم يأخذون بجانب من النصوص ويدعون جانباً، سواء كان في العقيدة أو في معاملة الحكام أو في معاملة الناس، أو غير ذلك»، وقال أيضاً: «من الناس من يريد أن يأخذ بجانب من النصوص وهو إعلان النكير على ولاة الأمور، مهما تمخض عنه من المفاسد، ومنهم من يقول: لا يمكن أن نعلن مطلقاً، والواجب أن نناصح ولاة الأمور سراً كما جاء في النص الذي ذكره السائل، ونحن نقول:
النصوص لا يكذب بعضها بعضاً، ولا يصادم بعضها بعضاً ، فيكون الإنكار عند المصلحة معلناً عند المصلحة، والمصلحة هي أن يزول الشر ويحل الخير، ويكون سراً إذا كان إعلان الإنكار لا يخدم المصلحة، ولا يزول به الشر ولا يحل به الخير»([21]) اهـ.
وقال الشيخ عبد المحسن العباد: «وإذا ظهرت أمور منكرة من المسؤولين في الدولة أو غير المسؤولين سواء في الصحف أو في غيرها فإن الواجب إنكار المنكر علانية كما كان ظهوره علانية؛ ففي صحيح مسلم (177) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»([22]) اهـ.
والمتتبع لما سبق من النقولات المختلفة يقطع أن الشريعة الإسلامية قائمة على قاعدة المصالح والمفاسد، وما هذه النقولات المتقدمة إلا شواهد لقاعدة ” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” التي تعتبر من صلب الكتاب والسنة ، ولذا فإن الفتوى في هذا الباب ونحوه تتغير حسب المصلحة والمفسدة المبني عليها الحكم حسب الزمان والمكان من عالم مجتهد كبير القدر، وقد عقد ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين » فصلاً تحت عنوان : فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد مبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد، ثم قال رحمه الله:« سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه ونور ضريحه – يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبئ الذرية وأخذ الأموال فدعهم» ([23]) اهـ.
وقد وردت أمثلة كثيرة للإنكار العلني على السلطان، لكنها اختلفت من حيث المآل والحال وواقع السلطان ، فكانت على جهتين:
الجهة الأولى: الإنكار العلني المرغوب ، وذلك إذا كان السلطان ممن عرف بتقواه وصلاحه وتقبله للنصيحة ولم يكن في تأديتها جهراً منابذته بالسيف أو الخروج عن طاعته، أو كان لعالم ما مكانة عنده، فلا يرد له طلباً، ولا يرفض له نصحاُ سراُ كان أو جهراً، وغلب الظن أن المصلحة فيها ستكون أعظم من المفسدة حسب الزمان والمكان، فلا بأس به، ومما يدل على ذلك حديث طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال: أخرَجَ مروان المنبر في يوم عيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يا مروان خالفت السنَّةَ؛ أخرجت المنبر في يوم عيد؛ ولم يُخرَجْ فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، فقال أبو سعيد: من هذا؟ قالوا: فلان بن فلان. فقال: أمَّا هذا؛ فقد قضى ما عليه؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكراً فليغره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [أخرجه مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، واللفظ له، بإسناد صحيح على شرط مسلم]([24]).
الجهة الثانية: الإنكار العلني المرفوض؛ وذلك إذا كان السلطان ممن لا يُعرف بتقوى أو صلاح، أو يغلب عليه عدم الديانة وكراهية من ينصحه جهراً، أو لكونه قد يفهم م من نصيحة الجهر الخروج عن طاعته، وغلب الظن أن المفسدة ستكون أعظم من المصلحة، فهذه النصيحة لا تحل جهراً لأنها ستؤدي إلى مفسدة أعظم، وهذا الباب هو الذي لأجله شدد علماء الأمة حتى كادوا أن يطبقوا على حرمة نصيحة السلطان في الجهر، وذلك خشية فتك السلطان وسفك الدماء، خصوصاً أنها سفكت دماء بعض الصحابة والتابعين بسبب الإنكار العلني الذي صاحبه الخروج عن طاعة الأمير؛ فإن طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة رضي الله عنهم جميعا أنكروا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه جهراً تأخير القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، وتبعهم على هذا الإنكار جملة من خيرة الصحابة والتابعين، فسفكت الدماء بسبب هذه الفتنة في موقعة الجمل بالبصرة عام 36 هـ، وقبل هذه الفتنة حصلت فتنة قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان بسبب الإنكار عليه جهراً والخروج عن طاعته، فاجتمعوا عليه وقتلوه، ومثل ذلك أيضاً إنكار التابعي الكبير سعيد بن جبير علناً على الحجاج فقتله الحجاج صبراً، ثم ظهرت فتنه عبد الرحمن بن الأشعث الذي كان يجهر بالإنكار على السلطان حتى خرج عن طاعته، وقد فتن في هذ المحنة بعض العلماء وأفاضل التابعين وقتل بسببها أكثر من مائة ألف رجل، لذلك شدد علماء أهل السنة ومنعوا الإنكار العلني على السلطان في الجملة – كما سلف من أقوالهم-إلا إذا غلبت عليه المصلحة التي يراها كبار علماء ومجتهدو العصر، وقلَّ من يرجع إليهم في عصرنا الحاضر؛ لكون كثير من الناس تأثر بالإعلام المزيف وببعض الشخصيات التي تتأثر بما يدور حولها في الساحة من أحداث دون أن يربطوها بأدلة الشرع المطهر وفقه المصالح والمفاسد.
وفي عصرنا الحاضر ظهرت الفتنة العظمى المسماة بثورات الربيع والتي تم فيها إعلان النكير العلني على ولاة الأمر والخروج عليهم، وقد قتل بسببها حتى الآن أكثر من مليون في سوريا وليبيا واليمن وغيرها من الدول الإسلامية التي فُتِنَتْ بهذه الثورات، وتشرد بسببها ملايين البشر من أوطانهم، وتدمرت بلدان الثورات، وكثر فيها الفقر والفساد وتسلط عليها الأعداء من كل حدب وصوب وتفلت الأمن، وتزعزع الاستقرار، ورغم أنها كانت عام 2011م إلا أن سفك الدماء والحروب ما زالت مستمرة حتى كتابة هذه الأحرف في الخامس من رمضان عام 1438م، الموافق لتاريخ 31 مايو عام 2017م، فليت شعري متى يستيقظ المسلمون، ويعقلوا، ويراجعوا دينهم، وينتبهوا للأخطار التي هي بسبب بعدهم عن دين الله.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة الغد.
———– الحواشي ————
([1]) أخرجه أحمد في مسنده (24/49 حديث رقم 15333)، كما أخرجه ابن أبي عاصم في السنة، والحديث ثابت بحمد الله.
([2]) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله ( 4/22990 أثر رقم 2989)].
([3]) ابن رجب ، جامع العلوم والحكم (ص83). والأثر أخرجه بمعناه البيهقي في ” شعب الإيمان” (10/73 رقم 7186).
([4]) أخرجه ابن ماجة في سننه [ كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(2/1329 حديث رقم 4011)].
([5]) ابن باز، مجموع المقالات والفتاوى (8/204).
([6]) النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم (2/227).
([7]) ابن القيم، بدائع الفوائد (3/132 وما بعدها ).
([8]) الشوكاني، السيل الجرار (4/556).
([9]) عبد الرحمن بن قاسم، الدرر السنية (9/153).
([10]) عبد الرحمن بن ناصر السعدي، الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة (ض 50).
([11]) الألباني، مختصر صحيح مسلم، عند الحديث رقم (335).
([12]) ابن بازـ المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم ( ص23).
([13]) ابن باز، نصيحة الأمة في جواب عشرة أسئلة مهمة، سؤال وجواب رقم (10).
([14]) ابن عثيمين ، كتاب مقاصد الإسلام (ص393).
([15]) محمد بن ناصر العريني، وجوب طاعة السلطان (ص23-24).
([16]) عبد السلام البرجس، معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة (ص32).
([17]) الفوزان، خطبة جمعة مسجلة صوتيا بعنوان: ” وجوب التمسك بمنهج أهل السنة والجماعة ” ، منشورة على موقعه الإلكتروني.
([18]) جمال بن فُريحان الحارثي، الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة (ص24).
([19]) ابن مفلح، الآداب الشرعية (1/196) نقلا عن الخلال.
([20]) صالح اللحيدان، محاضرة صوتية بعنوان: « منهج أهل السنة والجماعة في الحكم على الآخرين».
([21]) الطيار، اللقاء المفتوح لابن عثيمين (ص814-816).
([22]) العباد، مقال بعنوان « حقول ولاة الأمر المسلمين، النصح والدعاء لهم والسمع والطاعة في المعروف»، جريدة الوطن الكويتية، بتاريخ 26/11/1433 هـ – 2012/10/14.
([23]) ابن القيم، إعلام الموقعين (3/6).
([24]) أخرجه مسلم في صحيحه [ كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان..(1/69 رقم 49)]، وأبو داود في سننه [ تفريع أبواب الجمعة، باب الخطبة يوم العيد (1/296 رقم 1140)]