قاعدة الموازنة بين الحسنات والسيئات عند الرد على المبتدعة
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية)
الحلقة (21)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
جرت فتنةٌ عظيمة بين الدعاة في التسعينيات الميلادية وما بعدها في قضية هل يلزم ذكر حسنات وسيئات المبتدعة عند الرد عليهم، ولا زال أثر هذه الفتنة حتى الآن، حيث ألزم بعض الدعاة إخوانهم المشايخ بقاعدة الموازنة بين الحسنات والسيئات عند الرد على المبتدع، ظانِّين أن هذا باب من أبواب العدل والإنصاف، ولا شك أن هذا غلط محض، فالعلماء الربانيون منذ القدم حتى اليوم لا يذكرون محاسن المبتدعة إلا حال التراجم والتعريف بهم وبعلومهم، أما عند التحذير من بدعهم وضلالهم فيكتفون بذكر خطر هذه الضلالات والبدع والتحذير منها ومن صاحبها لئلا يغتر به الآخرون، وهذه هي طريقة المنهج السوي.
فإنك إذا حذرت من مبتدع، ثم ذكرت محاسنه، ظنَّ من قرأ لك أو سمع منك وخاصة العوام أنه يجوز أخذ الخطأ أو البدعة من المبتدع ومتابعته، وهذا مسلك من مسالك الانحراف الدعوي، الذي يجب الحذر منه.
كما غلط آخرون فقالوا : عند التعريف بحال صاحب المنهج السوي الذي وقع في البدعة أو ما ظاهره البدعة، إنه يلزم التحذير منه، ومن خطئه دون بيان ما له من الحسنات، وهذا خطأ آخر.
فإن من وقع في الخطأ أو البدعة وأصوله سليمة المشرب، فإنه يُنصح في خطئه وبدعته بإقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة عنه، ولا مانع من ذكر محاسنة حال التوجيه والمناظرة، فإن أقيمت عليه الحجة وزالت عنه الشبهة، ثم عاند وأصرَّ على البدعة، وليس له مخرج منها ولا مسوغ، فحينها يُلحق بالمبتدعة ولا كرامة، مع إعراضنا عن ذكر محاسنه، لأن المقام تحوَّل من مقام تقويم ونصح إلى مقام تحذير وبيان، وقد سبق بيان ذلك في مقال لنا بعنوان ” خطر الحكم على المشايخ بالابتداع والتحذير منهم بمجرد وقوعهم في بدعة أو شبهة أو زلة ونحوها” ولا حاجة لنا بتكرار الكلام.
أما هل يلزم ذكر حسنات وسيئات المبتدعة عند الرد عليهم؟ فالجواب : لا كما تقدم في أول المقال.
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله:« النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقد ترجمة تاريخية فهنا لا بد من ذكر ما يحسن ويقبح بما يتعلق بالمترجم من خيره وشره، أما إذا كان المقصود بترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة عامتهم الذين لا علم عندهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال ومثالب الرجال؛ بل قد يكون له سمعة حسنة وجيدة ومقبولة عند العامة، ولكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو على خلق سيئ، هؤلاء العامة لا يعرفون شيئاً من ذلك عن هذا الرجل، حين ذاك لا تأتي هذه البدعة التي سميت اليوم بـ”الموازنة”، ذلك لأن المقصود حين ذاك النصيحة وليس الترجمة الوافية الكاملة، ومن درس السنة والسيرة النبوية لا يشك ببطلان إطلاق هذا المبدأ المحدث اليوم وهو ” الموازنة ” لأننا نجد في عشرات النصوص من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر السيئة المتعلقة بالشخص للمناسبة التي تستلزم النصيحة ولا تستلزم تقديم ترجمة كاملة للشخص الذي يراد نصح الناس منه، والأحاديث في ذلك أكثر من أن تستحضر في هذه العجالة»([1]).
وسُئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: هل من الواجب ذكر محاسنهم ومساوئهم، أو فقط مساوئهم؟
فأجاب بقوله: « كلام أهل العلم نقد المساوئ للتحذير، وبيان الأخطاء الذين اخطأوا فيها للتحذير منها، أما الطيب معروف، مقبول الطيب، لكن المقصود الأعظم والمهم بيان ما عندهم من الباطل؛ ليحذره السائل ولئلا يميل إليهم.
فسأله آخر: أناس يوجبون الموازنة، إذا انتقدت مبتدعاً ببدعته لتحذر الناس منه، يجب أن تذكر حسناته حتى لا تظلمه؟
فأجاب الشيخ رحمه الله: لا، ما هو بلازم، ولهذا إذا قرأتَ كتب أهل السنة؛ وجدت المراد التحذير، اقرأ في كتب البخاري ” خلق أفعال العباد”، في كتاب الأدب ” الصحيح”، كتاب ” السنة ” لعبد الله بن أحمد، كتاب ” التوحيد” لابن خزيمة، ” رد عثمان بن سعيد الدارمي على أهل البدع ” إلى غير ذلك.
يوردونه للتحذير من باطلهم، ما هو المقصود تعديد محاسنهم، المقصود التحذير من باطلهم.
ومحاسنهم لا قيمة لها بالنسبة لمن كفر، إذا كانت بدعته تكفِّره؛ بطلت حسناته، وإذا كانت لا تكفِّره؛ فهو على خطر؛ فالمقصود هو بيان الأخطاء والأغلاط التي يجب الحذر منها »([2])اهـ.
وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: «عندما نريد أن نقوِّم الشخص، فيجب أن نذكر المحاسن والمساوئ، لأن هذا هو الميزان العدل، وعندما نحذر من خطأ شخص فنذكر الخطأ فقط، لأن المقام مقام تحذير، ومقام التحذير ليس من الحكمة فيه أن نذكر المحاسن، لأنك إذا ذكرت المحاسن فإن السامع سيبقى متذبذباً، فلكل مقام مقال »([3])اهـ .
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية، استأنفه بمشيئة الله في حلقة الغد.
———- الحواشي ———
([1]) الألباني، فتوى مسجلة لفضيلته ضمن شريط «من حامل راية الجرح والتعديل في العصر الحاضر» .
([2]) درس صوتي مسجل لسماحته ضمن سلسلة دروس صيف ١٤١٣ هـ في الطائف.
([3]) محمد بن صالح العثيمين، «لقاء الباب المفتوح » ( ٦١ ـ ٧٠)، (ص١٥٣)، طبعة الطيار