أدب الحوار والمناظرة
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية)
الحلقة (27)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
يفتقر الكثير ممن يحاور ويناظر في عصرنا الحاضر إلى أدب الحوار والمناظرة، حيث يتحول حوار بعض المحاورين من حوار إلى جدال عقيم يرفض من خلاله المناقش الحق رغم وضوحه بل ويعاند فيه، اتباعاً لهواه، والأدهى من ذلك أن يسند لك قولاً لم تقله، أو يفهم كلامك على غير مقصدك، فإذا وضحت وبينت له مقصدك، أصر على فهمه لكلامك رغم أن المتكلم أدرى بما قال، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه، وقد يكون المحاور مصيباً فيما أخذ على الآخر، فإذا اعترف الآخر بخطئه واستغفر، قيل له : لم يكن صادقاً، إنما اعترف مراوغاً أو لحاجة في نفسه، وهذه عيوب انتشرت في صفوف المسلمين الذين احتكروا فكرهم بفكر الحزب أو الجماعة أو الطائفة أو قول الشيخ أو المنظر، ولم يتحرروا من التقليد الأعمى، ولم يتجردوا لاتباع أدلة الكتاب والسنة كما كان أجدادهم في الرعيل الأول.
ثم الهدف من المناظرة أو الحوار أيها الإخوة : هو الوصول إلى الحق، لا الوصول إلى هزيمة فلان واسقاطه وتعريته وفضحه، ولا للأجل نصرة الحزب أو الجماعة أو الطريقة أو نصرة المذهب أو قول الشيخ، وإنما الوصول للحق الذي قام عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ” ما كلَّمت أحداً قطُّ إلا أحببت أن يُوفَّق ويُسدد ويُعان , ويكون عليه رعاية من الله وحفظ , وما كلمت أحداً قطُّ إلا ولم أبال بيَّن الله الحقَّ على لساني أو لسانِه “([1])اهـ
وقال رحمه الله: ” ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت مودته، ولا كابرني أحد على الحق ودفع الحجة الصحيحة إلا سقط من عيني ورفضته”([2])اهـ.
وقال رحمه الله: ” ما ناظرت أحداً أحببت أن يُخطئ “، وفي رواية : ” إلا صاحب بدعة، فإني أحب أن ينكشف أمره للناس”([3])اهـ
وقد رأيت في هذه الدراسة أن أضع بعض الآداب التي لا غنى للمحاور والمناظر عنها، وتتلخص في الآتي :
أولاً :
يلزم المناظر أو المحاور أن يكون ذا كفاءة علمية وأهلية راسخة، فلا يصلح أن يناظر صغار القوم ممن لا أهلية لهم كبارهم بقصد إسقاطهم أو ازدرائهم؛ لأن مثل ذلك خروج عن أصول الحوار وشروطه بل وخروج عن الآداب العامة
ثانياً :
أن الحوار سنة كونية شرعية، وهو حق لكل البشر المختلفين، وفي طليعتهم المسلمون من أهل السنة وغيرهم، ما لم يتحول المحاور أو المناظر إلى مجادل معاند للحق؛ فإن الحوار مرغوب، والجدال غير المجدي ضلال مرفوض.
ثالثاً :
لزوم التواضع بالقول والفعل؛ مع الإصغاء وحسن الاستماع، وهدوء المنطق، وحسن الطرح.
رابعاً :
لزوم الاتفاق على مرجعية الكتاب والسنة وفهم من سبقنا من أهل القرون الثلاثة المفضلة عند الاختلاف مع مناقشة أصول المسائل قبل فروعها.
خامساً :
يلزم المخالف قبول الحق متى كانت حجة مخالفه صحيحة.
قال ابن عقيل البغدادي: «وليقبل كلُّ واحد منهما من صاحبه الحجة؛ فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق»([4]).
سادساً :
أن يكون المناظر أو المحاور رحيماً بالمخالف مشفقاً عليه متفائلاً في عودته للحق، كما كان الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كذلك؛ قال الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: (إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ، فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة: 118].
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: «وعلينا أن نترفق في دعوتنا المخالفين إليها وأن نكون مع قوله تبارك وتعالى دائما وأبدا (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ)[النحل:125] وأحق من يكون باستعمالنا له أو معه هذه الحكمة هو من كان أشد خصومة لنا في مبدئنا، وفي عقيدتنا حتى لا نجمع بين ثقل دعوة الحق التي امتن الله عز وجل بها علينا، وبين ثقل سوء أسلوب الدعوة إلى الله عز وجل، فأرجو من إخواننا جميعاً في كل بلاد الإسلام أن يتأدبوا بهذه الآداب الإسلامية، ثم أن يبتغوا من وراء ذلك وجه الله عز وجل لا يريدون جزاءً ولا شكوراً»([5]).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: «هذا العصر عصر الرفق والصبر والحكمة، وليس عصر الشدة، الناس أكثرهم في جهل، في غفلة إيثار للدنيا، فلا بد من الصبر، ولا بد من الرفق حتى تصل الدعوة، وحتى يبلغ الناس وحتى يتعلموا، ونسأل الله الهداية للجميع»([6]).
سابعاً:
النزول على رأي العلماء المجتهدين دون غيرهم في خلافاتنا العارضة، مع إرساء مبدأ التعامل مع المخالف في حدود الشرع.
ثامناً:
إعطاء المخالف فرصة زمنية كافية لمراجعة ما يقول ويعتقد، مع تمكينه من البحث في الحجج والسماع له حال حواره ومناظرته.
تاسعاً:
لزوم إيصال الحق للمخالف من غير تعصب أو تشنيع، وبالمقابل: من غير تحذير من الناقد البصير الذي نقد: الشخص الفلاني أو الجماعة الفلانية أو الحزب الفلاني أو الشيخ الفلاني الذي أخطئ وتعصب لخطئه أو تعصب له تلامذته.
وعلى سبيل المثال:
1.مما يؤسف له: أنك إذا نقدت الأستاذ : حسن البنا رحمه الله، وقلت : لقد وقع في محظور يَمسُّ عقيدة ومنهج المسلم، ويتعارض مع أصول الشريعة، وذلك عندما قال: ” فأقرر أن خصومتنا لليهود ليست دينية، لأن القرآن حضَّ على مصافاتهم ومصادقتهم” [ نقله عنه تلميذه القيادي في حزب الإخوان عبد الحليم محمود في كتابه أحداث صنعت التاريخ (1/409-410)].
وكذلك إذا قلت : لقد اخترقت الماسونية والعلمانية واللبرالية صفوف الإخوان المسلمين بسبب تحالفاتهم وتساهلهم في انضمام بعض الشخصيات في الجماعة حتى صار الماسوني أو غيره مرشداً أو قائداً كبيراً للإخوان المسلمين باعتراف قادة الاخوان أنفسهم وذكرت لهم قول القيادي الإخواني الشيخ محمد الغزالي الذي قال في كتابه معالم الحق (ص224): “ولقد سمعنا كلاماً كثيراً عن انتساب عدد من الماسونية بينهم الاستاذ حسن الهضيبي – يعني مرشد عام الجماعة بمصر – ولكتي لا أعرف بالضبط كيف استطاعت هذه الهيئات الكافرة بالإسلام أن تخترق جماعة كبيرة على النحو الذي فعلته”اهـ
وكذا لو قلت للإخوان المسلمين: لا يحل لكم أخذ البيعة على الناس لأنها لا تحل إلا لأمير البلدة، وجدت الإخواني سخوطاً عليك، متحسساً منك، بل ومتضايقاً، ومعادياً لك، إلا من سلمه الله رغم أنك لم تتكلم بخطأ عنهم بل بشئ ملموس من واقعهم ومنهجهم ومن كلام وأفعال قادتهم مما يتصادم مع أصول الشريعة الإسلامية، فالقرآن لم يحث على مصافات اليهود، ثم خصومتنا مع اليهود دينية بإجماع المسلمين وهؤلاء اليهود الذين في عصره وعصرنا صهاينة حاقدون، وقد لعن الله اليهود وبيَّن عداوتهم وحقدهم للإسلام والمسلمين، وهذا معلوم لدى العوام فضلا عن المتعلمين بالأدلة التي لا يحصى عددها من الكتاب والسنة.
2.بعض صغار الطلاب يعظمون شيخهم الفلاني ويقولون عنه بأنه سلفي وإن السلفية الحقة تتمثل فيه، فإذا قلت لهم الشيخ فالح الحربي غلط ووقع في غلط عندما قال: ” نعامل ابن حجر معاملة أهل الكتاب، والذهبي لا يُعتمد عليه، والشيخ عبد المحسن العباد جاهل” ضللوك وقالوا فيك نظر، ومتعالم، وربما بدعوك.
وإذا قلت لبعض من ينتسب لحزب النور السلفي أو حزب الرشاد السلفي: لا يوجد في منهج السلف – وهم الصحابة والتابعون – حزب ديمقراطي لأنه لا حزبية في الإسلام، ثم أصوله تتعارض مع أصول الشريعة سخطوا عليك وعادوك وابتعدوا عنك.
3. وإذا قلت لشخص متأثر بسيد قطب لقد أخطأ سيد قطب وضل بسبب تكفيره للمجتمعات في كثير من كتبه، اتهمك ولمزك بأنك جامي وعاداك وحذر منك، علما أن سيد قطب هو الذي أدخل على جماعة الاخوان المسلمين بدعة ” التكفير” فتأثروا به ولا يزال قادة الاخوان ينصحون أتباعهم حتى هذه اللحظة بقراءة كتب سيد قطب.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه أولويات الحركة الإسلامية (ص110): ” في هذه المرحلة ظهرت كتب سيد قطب التي تمثل المرحلة الأخيرة من تفكيره الذي تنضح بتكفير المجتمع… وإعلان الجهاد الهجومي على الناس كافة”اهـ
ويقول فريد عبد الخالق أحد قادة الإخوان في كتابه الإخوان المسلمون في ميزان الحق (ص115) : ” إن نشأة فكرة التكفير بدأت بين بعض شباب الإخوان في سجن القناطر في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات وإنهم تأثروا بفكر سيد قطب وكتاباته وأخذوا منها أن المجتمع في جاهلية وإنه قد كفر حكامه “اهـ
4- إذا قلت لحوثي: إن سفك دماء اليمنيين أخذاً بالثأر للحسين بن علي منهج رافضي مجوسي دخيل يتعارض مع الاسلام، اتهمك وقال عنك: بأنك داعشي، وإن قتلك حلال، وهكذا كل من عارضهم الرأي استباحوا دمه واتهموه بالمنهج الداعشي التكفيري الذي إذا قوَّمناة علمياً وتاريخياً لوجدناه أضر منهج في تاريخ ” غلاة الخوارج”.
والأمثلة في هذا الباب كثيرة، ولذا لزم المسلمون أجمعون قبول الحق القائم على الدليل الشرعي من الكتاب والسنة من غير تعصب أو تشنيع.
عاشراً:
الصبر على أذى المخالف وسوء خلقه ورداءة أسلوبه.
وأكرر جملةً سابقةً قلتها في مقال سابق، وهي أنه: لا يعني ما تقدم، ألا يصدر العالم البصير الورع حكم التبديع على الداعية المبتدع المعاند للحق الرافض له بعد قيام الحجة عليه وزوال الشبهة عنه، وإنما المقصود : ألاَّ يتعجل العالم أو الداعية المحاور بإنزال الأحكام على المخالف قبل تبصيره بالحق مع السعي لإصلاحه واستقامته ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ عملاً بكتاب الله، وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومما يُضاف إلى ما تقدم : أن المبتدع الذي عظمت بدعته وعرف بعناده للحق وعدم قبوله للحجج، فإن العالم البصير يتحرى المصلحة الشرعية في عصره وبلدته، فإذا رأى أنه لا مصلحة في مناظرته كما فعل بعض السلف فإنه لا يناظر درءاً للمفاسد وجلباً للمصالح حتى لا يغتر بضلاله وشبهه العوام وصغار الطلاب.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وإلى حلقة جديدة بإذن الله.
—– الحواشي ——
(1) الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه (2/49) .
(2) أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء (4/99).
(3) ابن عساكر، تبيين كذب المفتري (ص34).
(4) ابن عقيل البغدادي، علم الجدل ص (14).
(5) الألباني، سلسلة الهدى والنور، شريط رقم (900).
(6) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات (8/376)