الحلقة (9)
القاعدة التاسعة
المشركون الأولون يُشْرِكُون في الرخاء، ويُخْلِصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم في الرخاء والشدة
ولا يعارض في ذلك إلا رجلٌ من رجلين:
إما جاهل فَيُعْذر حتى يعلم، وتقام عليه الحجة، وتدفع عنه الشبهة، أو مكابر فشأنه شأن المعرضين عن الحق.
وهذه القاعدة من القواعد والأصول التي احتج بها بعض العلماء على مشركي زمانهم، وحُقَّ لكل موحدٍ أن يحتج بها اليوم على المماثلين في المنهج، وإن اختلفت الأزمنة وتغيرت العادات، طالما والمنهج واحد.
فالشرك في القديم مختلف تماماً عن الشرك في الحديث ، فإن الشرك في القديم إنما كان عند الرخاء، وأما في العصر الحديث فإن الشرك في الرخاء والشدة.
تأتي المناسبات، والأعياد، والأفراح، والصحة، والمواسم وكلها من الرخاء، وإذا بالناس ممن أصابه وحل الشرك يذبح الذبائح، ويقرب القربات، وينذر النذر للموتى من دون الله، فلا ينوي بذلك أنها لله بنية الصدقة على فلان المخلوق الضعيف، وإنما للميت أو القبر أو المقام كما هو اليوم حال عموم المتصوفة والرافضة، وتأتي أوقات الشدة فيصاب الرجل بالبلاء في نفسه، أو أهله، أو ولده، أو ماله فيستغيث بالميت الفلاني قائلاً: يا ابن علوان أغثني، يا سيدة زينب أنا في جوارك فلا ترديني، يا جيلاني رضاك عني ونحوها من ألفاظ الشرك.
وهذا بخلاف المشركين في القرون الغابرة، فإن الله يحدثنا عنهم في غير ما آية، ويبين لنا بياناً شافياً أنهم عند الشدائد لا يدعون سوى الله جل وعلا ، وأن شركهم إنما كان في الرخاء ليس غير ومن ذلك:
قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ([1]) وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ([2])، وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ([3]) وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ، وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ([4]) دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ([5])، لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِين، فَلَمَّا َنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ([6]) فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا([7]) ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم([8]) بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"([9]).
وقوله تعالى: "فإذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ([10]) دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ"([11]).
وقوله تعالى: "وَإِذَا غَشِيَهُم([12]) مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ([13]) بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ([14]) كَفُورٍ"([15]).
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ثم أخبر تعالى أنه: "هو الذي يسيركم في البر والبحر" أي يحفظكم، ويكلؤكم بحراسته "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها" أي بسرعة سيرهم أي رافقين، فبينما هم كذلك إذ "جاءتها" أي تلك السفن "ريح عاصف" أي شديدة،
"وجاءهم الموج من كل مكان" أي اغتلم البحر عليهم "وظنوا أنهم أحيط بهم" أي هلكوا "دعوا الله مخلصين له الدين" أي لا يدعون معه صنماً ولا وثناً بل يفردونه بالدعاء، والابتهال كقوله تعالى: "وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً"([16]).
وقال ههنا: "دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه" أي هذه الحال "لنكونن من الشاكرين" أي لا نشرك بك أحداً، ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء ههنا.
قال الله تعالى: "فلما أنجاهم" أي من تلك الورطة "إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق" أي كأن لم يكن من ذلك شيء كأن لم يدعنا إلى ضر مسه، ثم قال تعالى: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم، ولا تضرون به أحداً غيركم كما جاء في الحديث: "ما من ذنب أجدر([17]) أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي([18]) وقطيعة الرحم"([19])ـ([20]). اهـ
([1]) السفينة.
([2]) لينة.
([3]) شديدة.
([4]) اعتقدوا أنهم يموتون معذبين بالغرق وبهلاك حاجاتهم.
([5]) لا يشركون به.
([6]) يتجاوزون حدودهم فيما يبغون أو أنهم يفسدون في الأرض.
([7]) ظلمكم ستعاقبون به ونفعه دنيوي مذموم.
([8]) نخبركم.
([9]) سورة يونس ، الآية رقم : 22ـ23.
([10]) السفينة.
([11]) سورة العنكبوت ، الآية رقم: 65.
([12]) علاهم وارتفع عليهم كالجبال والسحاب في تظليلهم وتتابعه عليهم.
([13]) ينكر حججنا.
([14]) غدّار.
([15]) سورة لقمان ، الآية رقم: 32.
([16]) سورة الإسراء، الآية رقم: 67 .
([17]) أحق.
([18]) الظلم.
([19]) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب ، باب في النهي عن البغي (4/276 رقم 4902) ، والترمذي في سننه كتاب صفة القيامة والرقاق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، باب 57 (4/664 رقم 2511) ، وابن ماجة في سننه، كتاب الزهد، باب البغي (2/1408 رقم 4211)، والحديث حسن.
([20]) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم(2/47 ، 414 ، 583) و (4/180).