الحلقة (13)
القاعدة الثالثة عشرة والأخيرة
يجب أن يسمى الله ويوصف بما سمى ووصف به نفسه أو سماه ووصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام نفياً وإثباتاً
وهذه من القواعد المجمع عليها، ودليلها قوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير"([1]).
فقوله: "ليس كمثله شيء" نفي المثيل والشبيه.
وقوله: "وهو السميع البصير" إثبات ما وصف الله به نفسه.
فكل من سمى الله أو وصفه بشئ لم يرد فيه دليل فهذا ميلان عن الصراط المستقيم، وانتقاص لما لله على الخلق، وقد ذَمَّ الله كلَّ مَنْ جَانَبَ الطريق السوي في أسماء الله وصفاته فقال جل شأنه: "وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ([2]) الَّذِينَ يُلْحِدُونَ([3]) فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"([4]).
وطريقة سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم في أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة يقوم على ركنين أساسيين:
الأول: إثباتها على ما وردت في الكتاب والسنة فهي توقيفية.
الثاني: إمرارها على حقيقتها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في لاميته:
وجميعُ آياتِ الصِّفاتِ أُمِرُّهـا حَقـاً كما نَقَـلَ الطِّرازُ الأَوَّلُ
وأَرُدُّ عُقْبَتَـهـا إلى نُقَّالِهـا وأصونُها عـن كُلِّ مــــا يُتَخَيَّلُ
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما سمَّى ووصف الله به نفسه في كتابه، وبما سمَّاه ووصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل ، بخلاف المبتدعة فقد غيروا وبدلوا.
فمنهم مَنْ نفى الأسماء والصفات عن الله مطلقاً كما فعلت الجهمية، ومنهم مَنْ أثبت الأسماء، ونفى الصفات كما هو مذهب المعتزلة، ومنهم من أَوَّلَ الصفات كالأشعرية، وبعض المعتزلة.
أما السلف الصالح فمذهبهم إمرار الصفات على ظاهرها حقيقةً أخذاً بظاهر النصوص.
فلا يُشَبِّهُون، ولا يمثلون، ولا يكيفون، ولا يعطلون، ولا يؤولون وعلى مذهب رسول الله عليه الصلاة والسلام يسيرون، فهم القومُ لا يَشْقَى بهم جليسُهم، ولا يَملُّ مِنْ علومِهم أنيسُهُم.
فكلُّ خيرٍ في اتِّباعِ مَنْ سَلَفْ وكُلُّ شَرٍ في ابتداعِ مَنْ خَلَفْ
وكلُّ هديٍ للنبيِّ قد رَجَـحْ فما أُبِيحَ افْعَلْ ودَعْ مَا لم يُبَحْ
فإذا علمت ذلك فاعلم ما يأتي :
أولاً: أن آيات الصفات تقوم على ثلاثة أسس :
الأول: تنزيه صفات الخالق عن مشابهة صفات المخلوق للآية السابقة وهي قوله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير".
الثاني: أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام نفياً وإثباتاً ، فالله أعلم بصفاته من مخلوقاته، ورسوله يعلم بما عَلَّمَهُ الله بواسطة الوحي كما قال تعالى: "َومَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، ِإنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى"([5]).
الثالث: قطع الطمع عن إدراك حقيقة الكيفية لقوله تعالى: "لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ"([6]).
وقوله تعالى: "وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً"([7]).
ثانياً: أن سبب نفي صفات الله هو اعتقاد التشبيه ، حيث عمدت المعطلة من الجهمية والمعتزلة ونحوهما من أهل التعطيل إلى الصفات فقالوا: جاء ذكر صفاتٍ للباري في الكتاب والسنة، ولو قلنا بإثباتها للزم تشبيه الخالق بالمخلوقات فأرادوا دفع هذه الشبهة الشيطانية بشبهة التعطيل، فوقعوا في الضلال المبين، ولم يتفطنوا للأصل المطرد عقلاً وهم أرباب العقول على حد زعمهم وهو: "أن الاتفاق في المسميات والصفات لا يقتضي التساوي"، فالفيل له صفات كثيرة تخالف ما للنملة من الصفات وتوافق في بعضها،
فهل يلزم من وجود بعض صفات النملة الموافقة لبعض صفات الفيل أن الفيل نملة أو يشابهها والعكس؟.
لا شك أن الجواب: لا، ولا يقول به عاقل.
ولكن: "وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ"([8]).
ثالثاً: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر.
فالأشاعرة يثبتون السبع الصفات لله تعالى المجموعة في قول أحدهم:
حيٌ عليمٌ قديرٌ والكلامُ لهُ إرادةٌ وكذاك السمعُ والبصرُ
ويقولون لله صفة الحياة والعلم والقدرة والكلام والإرادة والسمع والبصر ويقولون هي تليق بجلاله لا يحل تعطيلها ولا تأويلها([9]) ثم يؤولون الصفات الأخرى كالمحبة والسخط والغضب والمكر والكيد.
فيقال لهم يلزمكم إثبات بقية الصفات إذ إثبات بعضها وتأويل البعض بحجج واهية يعارض لازم العقل.
فكيف يوجد خالق يملك صفات تثبتون بعضها وتؤولون البعض الآخر، والكل وارد من مشرب واحد وهو الكتاب والسنة بالإثبات!!
فالأصل الإثبات وإلا لزم البقاء على ضلال التأويل لأن هذا مقتضى العقل طالما والأدلة هي الأدلة.
رابعاً: القول في الصفات كالقول في الذات.
فمن أقر بوجود الله أُلْزِمَ بأن يقرَّ أن له صفات تليق به، فإن العقل يقتضي أنه ما من شئ إلا وله صفات يُعرف بها.
وطالما وقد عرفنا ربنا في الكتاب والسنة وكل شئ يدل على وجوده فإنه يلزمنا أن نثبت له صفاتٍ تليق بجلاله مما جاء في الكتاب والسنة.
وقد ذكر لنا القرآن والسنة صفات عديدة يلزم إقرارها وإمرارها على ما وردت في لسان الشرع.
وإلا كيف يمكن أن نثبت وجود ذات من غير صفة.
لا شك أنه يستحيل عقلاً، فما بال العقول مُعَطِلةٌ والأدلة متواترة صريحة؟!
خامساً: أن صفات الله محكمةٌ من جهة ورودها في الكتاب والسنة ، ومن حيث معرفة معناها في لغة العرب ، ومتشابهة من حيث الكيف لأن الكيفَ مجهولٌ لا علم لنا به.
والكيف: أن يتخيل شخص كيفية صفات الله في الذهن، وهذا ممتنع لقوله تعالى: "وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً"([10]).
فالمحكم: ما عُرِف لفظه ومعناه .
والمتشابه: ما عُرِفَ لفظه وجهل معناه، فهو مما استأثر الله بعلمه.
مثال توضيحي: الاستواء عُرِفَ معناه في لغة العرب بمعنى استقر وعلا وصعد، ونحوها من المعاني.
فنحن عرفنا لفظه في كتاب ربنا وسنة نبينا ولغة العرب ، فهذا محكم من هذه الناحية، ولكن جهلنا لكيفيته ، متشابه من هذه الناحية بعينها.
سادساً: أن الله موصوف في الكتاب والسنة بالنفي والإثبات وكل منهما يكون مجملاً ومفصلاً.
فصفة الإثبات المجمل كقوله تعالى: "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
فالآية دلت على صفة الحمد المطلق لجميع المحامد غير المقيد.
وأما صفة الإثبات المفصل ويقال المقيد فذلك كقوله تعالى: "وهو السميع البصير".
فالسمع صفة معينة غير مجملة ، وكذا البصر ونحو ذلك من الصفات المفصلة الواردة في الكتاب والسنة.
والنفي المجمل، ويقال له المطلق كقوله تعالى: "ليس كمثله شئ".
فهذا نفي لكافة الصفات التي لا تليق بجلال ربنا من غير تعيين.
والنفي المفصل ويقال المقيد كقوله تعالى: "لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ"([11]).
فالسِّنة وهي مقدمة النوم معينة، والنوم معين وكلاهما من المفصل وقد نفاهما ربنا عن نفسه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والله أعلى وأعلم وأعز وأكرم.
انتهت القواعد بحمد الله
([1]) سورة الشورى ، الآية رقم (1).
([2]) اتركوا.
([3]) يميلون عما هي عليه.
([4]) سورة الأعراف ، الآية رقم (180).
([5]) سورة النجم ، الآية رقم (3ـ4).
([6]) سورة الأنعام ، الآية رقم (103).
([7]) سورة طه ، الآية رقم (110).
([8]) سورة غافر ، الآية رقم (33).
([9]) غير أنهم يقولون كلام الله نفسي.
([10]) سورة طه ، الآية رقم (110).
([11]) سورة البقرة ، الآية رقم (255).