الحلقة (2)
المقدمة الثانية
ظهور الفرق والطوائف عَلَمٌ من أعلام النبوة
وردت مجموعة من الأحاديث الصحيحة التي تؤكد ظهور فرق الضلال في أمة الإسلام فكان الأمر كما أخبر عنه عليه الصلاة والسلام ، ومن ذلك:
الأول: ما أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة ([1]) وهو رجل من بني تميم. فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل قد خبتَ وخسرتَ إن لم أكن أعدل. فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه. فقال: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم([2]) يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية([3])، ينظر إلى نصله([4]) فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه([5]) فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه([6]) فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم([7])، آيتهم([8]) رجل أسود إحدى عضديه([9]) مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة([10]) تدردر([11])، ويخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم، وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي عليه الصلاة والسلام.
قلت: فهذا علم من أعلام النبوة فإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عن قوم بأوصاف ونعوت وُجِدَتْ كلها في الخوارج فكان الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام حتى قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه.
وذكر البخاري في صحيحه([12]) باتصال السند إلى يسير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً ؟ قال: سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق "يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية".
قلت: وكان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وغيرهم يحذرون منهم غاية التحذير وذلك لعظم فتنتهم.
قال الإمام مسلم في صحيحه([13]): حدثنا أبو كامل الجحدري، حدثنا حماد وهو ابن زيد ، قال حدثنا عاصم قال: كنا نأتي أبا عبد الرحمن السلمي ونحن غلمة أيفاع([14])، فكان يقول لنا: " لا تجالسوا القصاص غير أبي الأحوص وإياكم وشقيقاً.
قال: وكان شقيق هذا يرى رأي الخوارج وليس بأبي وائل.
قال الحافظ في الفتح (12/283-286) : أما الخوارج فهم جمع خارجة أي طائفة، وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير: أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه، ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته إياهم كذا قال وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار، فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان، بل كانوا ينكرون عليه أشياء، ويتبرؤون منه.
وأصل ذلك: أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك.
وكان يقال لهم: القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه، ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا علياً ، فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ علياً ، فخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة وانتصر علي وقُتِلَ طلحة في المعركة وقُتِلَ الزبير بعد أن انصرف من الوقعة فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق" اهـ
الثاني: أخرج ابن ماجة في سننه([15]) عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة". وفي رواية أخرى: " قالوا وما هي يا رسول الله قال ما كنت عليه أنا وأصحابي".
وهذا الحديث حسن لغيره وله شواهد كثيرة([16]).
ولا ينكره إلا مبتدع أو جاهل أو متنطع ، وفيه دلالة واضحة على ظهور فرق الضلال والابتداع.
والأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام فقد ظهرت فرق كثيرة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام كالخوارج الذين يكفرون بالكبيرة ويستحلون أموال ودماء الأمة وظهرت غيرها من الفرق الأخرى كالقدرية والمرجئة والمعتزلة والجهمية والصوفية والشيعة والزنادقة والباطنية وغيرها من فرق الضلال نسأل الله السلامة والعافية.
الثالث: أخرج الشيخان([17]) عن حذيفة بن اليمان أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟
قال: نعم .
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ؟
قال: نعم، وفيه دخن([18]).
قلت: وما دخنه ؟
قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر.
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه([19]) فيها.
قلت: يا رسول الله صفهم لنا .
قال: هم من جلدتنا([20]) ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك .
قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام.
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل([21]) شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.
قال الحافظ في الفتح (13/36): "قال عياض: المراد بالشر الأول الفتن التي وقعت بعد عثمان، والمراد بالخير الذي بعده ما وقع في خلافة عمر بن عبد العزيز، والمراد بالذين تعرف منهم وتنكر الأمراء بعدهم فكان فيهم من يتمسك بالسنة والعدل وفيهم من يدعو إلى البدعة ويعمل بالجور.
قلت: والذي يظهر أن المراد بالشر الأول ما أشار إليه من الفتن الأولى، وبالخير ما وقع من الاجتماع مع علي ومعاوية ، وبالدخن ما كان في زمنهما من بعض الأمراء كزياد بالعراق وخلاف من خالف عليه من الخوارج وبالدعاة على أبواب جهنم من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم والى ذلك الإشارة بقوله: الزم جماعة المسلمين وإمامهم يعني ولو جار، ويوضح ذلك رواية أبي الأسود: ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك"([22]).
وكان مثل ذلك كثيرا في إمارة الحجاج ونحوه" اهــ
قلت: ومن الدعاة اليوم على أبواب جهنم العلمانيون واللبراليون والماسونيون ومن شاكلهم من دعاة الأفكار والأحزاب السياسية الهدامة فإنهم كلهم ممن قام وطلب الملك إما بانقلاب على حكام المسلمين لمصالحهم المنحرفة أو بالمشاركات الحزبية السياسية ذات الوصف التعددي الديمقراطي الغربي باسم العدالة وحقوق الإنسان دون النظر في واقع الأدلة الشرعية وواقع المصالح المرسلة للأمة حتى أوقعوا أمة الإسلام في المهالك وأضروا الأمة وشبابها ودعاتها وعلمائها أيما إضرار، وهناك التكفيريون "دعاة التفجير في بلاد الإسلام" باسم الإسلام والدعوة إلى الخلافة الراشدة، وما أشبه دعوتهم بفتنة ابن الأشعث ذلك الذي سانده جماعة من العلماء الأكابر كالحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن يسار وكانوا يأمرون بقتال الحجاج مع ابن الأشعث فلما حمي الوطيس وسقط الآلاف من القتلى وأصيب المسلمون بالذعر والمحن والقلاقل وتناسوا وقوفهم وجهادهم ضد أهل الكفر بسبب هذه الفتنة الدهماء بعد ذلك كله ونحوه شعر أولئك الأعلام بالخطأ وخطر الخروج على والي المسلمين الحجاج بن يوسف وأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان واستغفروا الله من ذلك كله وحسنت عودتهم.
فأين قراء التاريخ والمعتبرون من هذه الفتنة ونحوها فما أشبه الليلة بالبارحة سوءًا وعدواناً وجهالة وغفلةً إلا من رحم الله.
فرحم الله أئمتنا فهم القوم لا يصرون على الخطأ بل يتوقفون حيث توقف بهم الشرع الحنيف.
والحاصل في هذا الباب: كل من رفض أصلاً من أصول أهل السنة المتفق عليها بعد قيام الحجة عليه عُدَّ من أهل الضلال والأهواء وخرج عن دائرة السنة ، ومنهم مَن خروجه ما يكون خروجاً عن الملة متى تبين كفره جلياً - لنا عليه من الله برهان - ومنهم ما يكون خروجاً عن السنة مع بقاء مسمى الدين.
لقد صدق رسولنا عليه الصلاة والسلام فقد أخبر عن ظهور طوائف البغي والضلال فكان الأمر كما أخبر دون ريبة أو شك ولو تتبعنا تلكم الأخبار لوجدناها كثيرة لا يتسع المقام لبسطها كلها وخصوصاً في ورقات كهذه، فالسنن السنن فإنها قوام الدين ولا يتخاذل عنها إلا من أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
([1]) واسمه حرقوص بن زهير رأس الخوارج قتل مع من قتل يوم النهروان ، وقال الحافظ في الفتح (1/294) وقع في موضع آخر في الصحيح أنه : عبد الله بن ذي الخويصرة.
([2]) التراقي: جمع ترقُوة بضم القاف، وهو العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق.
([3]) الرمية: الصيد المرمي، حيث شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد.
([4]) النصل: حديدة السهم.
([5]) الرصافه: بكسر الراء ثم مهملة ثم فاء أي عصبه الذي يكون فوق مدخل النصل
([6]) قذذه بضم القاف وفتح الذال المعجمة الأولى جمع قذة وهو ريش السهم.
([7]) بمعنى أنه مر سريعاً في الرمية، وخرج لم يعلق به شيء، فشبه خروجهم من الدين ولم يتعلقوا منه بشيء بخروج ذلك السهم.
([8]) علامتهم.
([9]) العَضُدُ الساعد وهو من المرفق إلى الكتف.
([10]) البضعة: بفتح أوله بمعنى القطعة من كل شيء.
([11]) بفتح أوله ودالين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة وآخره راء، وهو على حذف إحدى التاءين وأصله تتدردر ومعناه : تتحرك وتذهب وتجيء.
([12]) صحيح البخاري (6/2541 رقم 6535، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم ، باب من ترك قتال الخوارج للتألف و لئلا ينفر الناس عنه).
([13]) صحيح مسلم (1/20)، المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة).
([14]) الأيفع: الذي قارب البلوغ ولم يبلغ، وجمعه أيفاع.
([15]) صحيح ابن ماجة (2/1322 رقم 3993، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم).
([16]) رواه جمع من الصحابة منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمرو ومعاوية بن أبي سفيان وعوف بن مالك وخلق كثير، وهو مخرج في كتب السنة والمسانيد وغيرها.
([17]) متفق عليه : أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام (3/1319 رقم 3411) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة (3/1475 رقم 1847).
([18]) أي ليس خيراً خالصاً ، بل فيه ما يشوبه ويكدره ، وقيل الدخن الأمور المكروهة.
([19]) كانوا سبباً في رميه فيها.
([20]) من أنْفُسِنا وعَشِرتِنا.
([21]) ساقها.
([22]) هذه رواية لمسلم (3/1476 رقم 1847) ، كتاب الإمارة ، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال ، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة.