الحلقة (3)
المقدمة الثالثة
تعداد الفرق ونبذة عن أشهرها
المتأمل في حديث الفرق الهالكة يجد أن رسول الله عليه الصلاة والسلام حصرها في ثنتين وسبعين فرقة جاعلاً مقياس المخالفة خروج جماعةٍ ما عن ما كان عليه النبي وأصحابه من الهدي السليم، والمنهج القويم، فقال عليه الصلاة والسلام: "كلها في النار إلا واحدة.
قالوا: وما هي يا رسول الله ؟
قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي([1])".
فكل دعوة خالفت الطريق النبوي الشريف فأصحابها هلكى هكذا أخبرنا نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونجد أن مفهوم المخالفة في الحديث عام غير محصور بمعين أو أفراد.
أي أن نوعية المخالفة قد تكون في الأصول والفروع ولكن لا يعني أن كل من خالف في الأصول أو الفروع فهو من الفرق الهالكة بل لا بد من النظر في حقيقة المخالفة أهي مخالفة يسع فيها الخلاف في إطار السنة والجماعة أم لا ؟
فإن سُبِق المخالف بخلاف معتبر فلا يخرج عن دائرة أهل السنة والجماعة، ولكن إن شذ أو أنكر فرعاً أو أصلاً أقيمت عليه فيه الحجة وأزيلت عنه الشبهة، فإن تراجع فبها ونعمت وإلا فهو ضال مضل معدود من أفراد فرقة من الفرق الهالكة، والذي يقيمها هم أهل العلم ممن لديهم بصيرة وورع فلا يظلمون ولا يعتدون في الأحكام على المخالف، أما من عُرِف بظلم إخوانه بمجرد المخالفة فلا يُعتد بحكمه على الآخرين.
وفِرَقُ الضلال كثيرة، بل تجاوزت المئات إلا أنها في أصولها لا تخرج عن الثنتين والسبعين فرقة.
ومن أراد الوقوف عليها وعلى تواريخ نشأتها وأربابها جملةً وتفصيلاً فله أن يقرأ الملل والنحل لأبي محمد بن حزم والملل والنحل لأبي الفتح الشهرستاني وكتاب أبي محمد اليمني عليه رحمة الله ونحوها من الكتب التي ذكرت تاريخ الفرق بالتفصيل.
ولا مجازفة لو قلنا:
إن سبب ضلال الأمم دخولهم وخوضهم في علم الكلام والجدل الذي تزعمه الزنادقة، وعلم الجدل والكلام رأس كل بلية، وجذوره لم تأت إلا من أرباب اليهود ومجوس فارس والبوذية وبلاد اليونان، وقد بدأ دخوله في الأوساط الإسلامية في منتصف القرن الأول وتقوى في القرن الثاني الهجريين، ويُعد عبد الله بن سبأ رأس الزنادقة على الاطلاق، وشاركه في ذلك جماعة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ممن أظهر الاسلام نفاقاً وكذباً، وأدخلوا معهم كتب فلاسفة ومتكلمي اليونان والبوذية والمجوسية وترجموها إلى العربية، ونشطوا مع مرور الزمن واستمر نشاطهم جيلاً بعد جيل حتى بلغ ذروته زمن الخليفة العباسي " المأمون" الذي كان رأساً في دعم أهل الفتنة من المتكلمين والفلاسفة وخصوصاً رؤوس التجهم والتشيع منهم، والذين بدورهم أوغروا صدر الخليفة على علماء الحديث ومشايخ السنة حتى امتحنهم بفتنة خلق القرآن، وكانت تلكم الكتب سبباً في تقوية مذهب المتكلمين من أهل الزندقة والجدل سواء كانوا رافضة أو معتزلة أو جهمية أو غيرهم، فأكثروا الشبه والطعون في السنة ومحاربة أهلها، وقد فحش شيوع علم الكلام في الشيعة والمعتزلة والقدرية حتى صار ديدنهم بدلاً عن علم الكتاب والسنة.
وما ظهر علم الكلام في البلاد الإسلامية حتى فشا فيهم التعطيل والتحريف والتكييف والنفي والتأويل لصفات الجبار جلَّ وعلا وظهر أقوام ينتسبون إلى الدين وهم منه براء فمنهم المارقون ومنهم دون ذلك طرائق قددا.
وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام القائل: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل([2])".
وأول هذه الفرق ظهوراً الخوارج ، وقد سبق الحديث عنهم وقابلتهم الشيعة وهم من تشيع لعلي بن أبي طالب وهم فرق شتى إلا أنه يغلب على فرق التشيع التأثر بالمنهج والعقيدة المعتزلية الضالة، ولذا فهم في قواعدهم وأصولهم مشارب شتى لا يستقيمون على أصل موحد والحديث عنهم يطول ومحله كتب الفرق ثم تسلسلت من بعدهم طوائف كثيرة إلا أنَّنا نقول:
إن بداية أمر الشيعة والخوارج لم يكن تأثراً بعلم الكلام والجدل بل كان تأولاً وحمية وتعصباً بسبب التيارات السياسية آنذاك في خلافة عثمان رضي الله عنه ولوجود عدو الله اليهودي عبد الله بن سبأ الذي قام بدور الإضلال والتضليل حتى أوقع بعض أهل البيت وأتباعهم في مهب التعصب الديني والتشيع المقيت.
ويمكننا ذكر أشهر هذه الفرق والطوائف مع بيان أربابها ومعتقداتهم فيما يتعلق بالعقائد والأديان:
أولاً: الخوارج: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كان أول من فارق جمـاعة المسلمين من أهل البدع الخوارج المارقون([3]).
وقال: وهم أول من كفّر أهل القبلة بالذنوب، بل بما يرونه هم من الذنوب، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك([4]).
وسموا بالناصبة أيضاً لمناصبة علي رضي الله عنه و آله العداء، وصرّحوا ببغضهم له.
وظهروا في العاشر من شهر شوال عام 37هـ ببيعتهم عبد الله بن وهب الراسبي.
ثانياً: الشيعة وهم من تشيع لعلي بن أبي طالب وذريته وكانوا يرون أن الأحق بالخلافة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم فرق كثيرة أحسنها حالاً شيعة الزيدية، و أسوأها حالاً الفرق الكافرة كالإسماعيلية، والامامية الاثني عشرية الرافضية، والباطنية والمكارمة، والنصيرية، والدروز، وملل أخرى.
وقد ظهرت طائفتا الخوارج والشيعة في خلافتي عثمان وعلي رضي الله عنهما.
ثالثاً القدرية: ظهرت في أواخر القرن الأول وهم أتباع معبد الجهني، وهو أول من تكلم في القدر.
وعقيدتهم أنه لا قدرة لله في قدرة العبد بزعمه أن العبد يفعل ما يشاء باختياره وقدرته كيف شاء ومتى شاء ، فهم نفاة القدر، ويطلق عليهم مجوس هذه الأمة.
قال أبو محمد ابن قتيبة وهو عبدالله بن مسلم الدينوري في كتاب المعارف: "كان غيلان الدمشقي قبطياً قدرياً لم يتكلم أحد قبله في القدر ودعا إليه إلا معبد الجهني" اهــ
رابعاً: المرجئة وقد ظهرت هذه الطائفة في أواخر القرن الأول
وعقيدتهم أنها: لا تضر معصية مع إيمان، فالإيمان عندهم مجرد القول بالشهادتين دون أن يعمل شيئاً، وبذلك يضمن الإنسان دخول الجنة مهما كان عمله ويحتجون بقوله سبحانه تعالى: "لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى([5])".
وعندهم الأشقى في الآية الكافر.
خامساً المعتزلة: ظهرت هذه الطائفة في أواخر القرن الأول وبداية القرن الثاني، وقد تزعمها واصل بن عطاء، وعقيدتهم نفي صفات الباري جل وعلا وإثبات أسمائه.
سادساً الجهمية: ظهرت هذه الطائفة أيضاً في أواخر القرن الأول وبداية القرن الثاني، وزعيمهم الجهم بن صفوان وعقيدتهم نفي أسماء وصفات الباري جل وعلا.
سابعاً الجبرية: ظهرت هذه الطائفة في أوائل القرن الثاني
وقد انبثقت من فرقة الجهمية تحت لواء زعيمهم الجهم بن صفوان الذي نادى بالجبر وقال: لا إرادة للإنسـان بجوار إرادة الله.
وعقيدتهم: نفي الإرادة عن الإنسان حيث قالوا: لا قدرة للعبد بل العبد مجبور بفعل كل شيء حتى المعصية، ومنهم الغلاة الذين يقولون: كل ما يفعله العبد من خير أو شر فهو عين فعل الرب، تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً.
ثامناً الأشاعرة: تزعم هذه الفرقة الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله.
واسمه علي بن إسماعيل بن إسحاق المولود عام 270هـ والمتوفى عام 330 هـ، وقد ظهرت هذه الفرقة للرد على الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوها من فرق الضلال عند أوائل القرن الثالث الهجري منشقة عن المعتزلة وهم يثبتون لله الأسماء على ما وردت في الكتاب والسنة إلا أن الأشاعرة وقعوا في ضلال كبير وهو تأويل صفات الباري ما عدا الصفات السبع المجموعة في قول بعضهم:
حيٌ عليمٌ قديرٌ والكلامُ لهُ إرادةٌ وكذاكَ السمعُ والبصرُ
ومع أنهم أثبتوا السبع الصفات وأوصلها بعضهم إلى عشرين إلا أنهم لم يسلموا من تأويل كلام الباري فقالوا كلام الله نفسي غير حقيقي مستدلين بقول الأخطل المولد:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعِل اللسانُ على الفؤاد دليلا
وقد مكث أبو الحسن فترة على هذا المذهب الضال ثم يسر الله له أن تراجع وتمسك بمذهب الحق أهل السنة والجماعة رحمه الله لكن بقي المتعصبون له على مذهبه السابق فرد عليهم وبين ضلال اتباعه من الأشاعرة وأعلن البراءة من المذهب المبتدع يرحمه الله.
تاسعاً الماتريدية: تزعم هذه الفرقة أبو منصور الماتريدي، وهي فرقة كلامية كالأشاعرة في كثير من الأمور، وقد قاموا لتصدي ضلالات الجهمية والمعتزلة وغيرها من فرق الضلال بالأساليب الكلامية العقلية حيث قدموا العقل على النقل وأثبتوا لله تعالى أسماءه الحسنى، إلا أنهم أدخلوا في أسمائه تعالى بعض الأسماء غير ثابتة كالصانع والقديم والذات.
وقالوا بإثبات ثماني صفات لله تعالى فقط ، على خلافٍ بينهم وهي:
الحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين. وعلى أن جميع الأفعال المتعدية ترجع إلى التكوين ، أما ما عدا ذلك من الصفات التي دل عليها الكتاب والسنة [ الصفات الخبرية ] من صفات ذاتية، أو فعلية فإنها عندهم لا تدخل في نطاق العقل، ولذلك قالوا بنفيها جميعاً.
وقالوا بأن القرآن الكريم ليس بكلام الله تعالى على الحقيقة، وإنما هو كلام الله تعالى النفسي، لا يُسْمِعُه أحداً وإنما يُسْمَعُ ما هو عبارة عنه، ولذا فالكتب السماوية بما فيها القرآن بهذا الاعتبار الجائر كلها مخلوقة.
هذه أشهر الفرق التي خاضت في ذات الله وأسمائه وصفاته ووقعت في الضلال المبين بطرق تتصادم مع أدلة الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، وتعتبر هذه الفرق التسع مرد أصول أكثر فرق الضلال المشهورة في تاريخ الاسلام حتى اليوم.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
([1]) رواه جمع من الصحابة منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمرو ومعاوية بن أبي سفيان وعوف بن مالك وخلق كثير، وهو مخرج في كتب السنة والمسانيد وغيرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة".
وفي رواية أخرى: "قالوا وما هي يا رسول الله قال ما كنت عليه أنا وأصحابي".
وهذا الحديث حسن لغيره وله شواهد كثيرة، وقد أخرجه الأربعة إلا النسائي، كما أخرجه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم وأبو يعلى في مسنده، وغيرهم.
([2]) الجدل: رد الحق والكلام بغير علم بكلام باطل وفيما ينبغي عدم الكلام فيه، والحديث حسن، أخرجه الترمذي في سننه (5/378 رقم 3253، كتاب التفسير، باب 44 من سورة الزخرف) وكذا أخرجه ابن ماجة وأحمد وآخرون.
([3]) أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، مجموع الفتاوى (3/349) .
([4]) المصدر السابق (7/481).
([5]) سورة الليل، الآية رقم (15).