السبت 18 ربيع الآخر 1447 هـ || الموافق 11 أكتوبر 2025 م


قائمة الأقسام   ||    سلسلة خطب الجمعة    ||    عدد المشاهدات: 51

سلسلة خطب الجمعة(1)

التوحيد أعظم حقوق الله على عباده

للشيخ الدكتور صادق بن محمد البيضاني


 الخطبة الأولى

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أما بعد:

فإنَّ خير الكلامِ كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

أيها المسلمون:
إن أعظمَ ما أُمر به العباد، وأجلَّ ما خُلِقوا لأجله هو توحيدُ الله جل جلاله، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

فغاية الخلق العبادة، وغاية العبادة التوحيد.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين(3/444): (فالتوحيد أول ما يُدخَل به في الإسلام، وآخر ما يُخرَج به من الدنيا).

أيها الأحبة في الله:
التوحيد أعظم قضية في الوجود، فهو العهد الأول بين العبد وربه، وهو أول واجب على المكلف، وآخر ما يُختم به عمر المؤمن الصادق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عند أبي داود وغيره: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).

ومعنى "لا إله إلا الله" أي لا معبود بحقٍّ إلا الله، نفيٌ لكل معبودٍ من دونه، وإثباتٌ للعبادة له وحده لا شريك له.

أيها المؤمنون:
اعلموا أن التوحيد ثلاثة أنواعٍ جامعة لمعاني الإيمان كلها:

أولها: توحيد الربوبية، وهو إفراد الله بالخلق والملك والتدبير، فلا خالقَ إلا الله، ولا رازق إلا هو، ولا محيي ولا مميت إلا هو، قال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ).

وثانيها: توحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة والمحبة والخضوع، فلا يُدعى إلا هو، ولا يُستغاث إلا به، ولا يُذبح ولا يُنذر إلا له، قال سبحانه: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)
وقال سبحانه: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ).

وثالثها: توحيد الأسماء والصفات، فنُثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيهٍ ولا تعطيلٍ ولا تأويلٍ ولا تمثيل؛ قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

أيها الإخوة في الله:
التوحيد ليس كلمةً تُقال فحسب، بل هو عقيدةٌ تُعاش، ومنهجٌ يُتبع، وسلوكٌ يُترجم في حياة العبد؛ فليس الموحّد من قال بلسانه؛ لا إله إلا الله، ثم دعا غير الله، أو خاف من دون الله، أو طلب الحاجات من الموتى والقبور.

قال تعالى محذرًا: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ).
أي على طرفٍ من الدين، إن أصابه خيرٌ اطمأن، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه.

والمخلص الحق هو من يعبد الله في السراء والضراء، في السر والعلن، لا يريد بعبادته رياءً ولا سمعة، ولا نفعًا دنيويًا، بل يعبد الله طاعة له وحبًّا له وخضوعًا لعظمته، قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عند النسائي وغيره: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهه).

فطوبى لمن صفا قلبه من الرياء، وسلمت نيته من الشرك الخفي، وجعل بينه وبين الله سرائرَ من الطاعات لا يعلمها أحدٌ إلا خالقه.
فأولئك هم صفوة الخلق، الذين طهَّر الله قلوبهم من شوائب الرياء، وزيَّن سرائرهم بنور الإيمان، لا يعملون العمل ليُقال عنهم صالحون، بل يعملونه لأنهم يعلمون أن الله مطلع على خفايا الصدور.
يُخفون الطاعة كما يُخفي صاحب اللؤلؤ جواهِره، يخشون أن يفسد الإخلاصَ في قلوبهم مدحُ الناس أو ثناؤهم، فإذا قاموا بالليل ناجوا ربهم، وإذا أنفقوا لم تُرَ أيديهم، وإذا عملوا عملاً صالحاً نسوه وذكروه يوم لقائه، حيث جعلوا قلوبهم لله وحده، لا يطلبون بها إلا وجهه، ولا يرجون إلا رحمته، ولا يخافون إلا عذابه.
تراهم في الدنيا غرباء بين الناس، قلوبهم معلقة بالسماء، لا يعرفون منازل الدنيا، لأنهم يسيرون نحو دارٍ أخرى، دارٍ وعد الله بها عباده المخلصين: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).

فطوبى لهم يوم يلقون ربهم بقلوب نقية وأعمال عظيمة، إذ يقال لهم: هذا يومكم الذي كنتم توعدون، فادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، هنالك ينكشف سرُّ الإخلاص، وتُرفَع الدرجات، ويُقال للمخلصين: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

اللهم ارزقنا توحيدا صادقا، وإخلاصًا يملأ قلوبنا نورًا وهدايةً، ونجنا من الشرك والرياء والسمعة، إنك على كل شيء قدير.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 الخطبة الثانية

الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُوجب الجنة لمن حقق معناها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها المسلمون:
إذا كان التوحيد هو حق الله على العباد، فإن الإخلاص هو روح هذا التوحيد، فمن لم يخلص، لم يحقق التوحيد الكامل، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

ولتحقيق الإخلاص، هناك أبواب عظيمة لا بد أن يطرقها المؤمن، منها:

الأول: تحقيق الإيمان الصادق، فالإخلاص ثمرة الإيمان، ومن صدق في إيمانه صدق في عمله، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).

الثاني: معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته، فمن عرف الله أحبه، ومن أحبه أخلص له، قال سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).

الثالث: استحضار نظر الله إلى القلب، قال النبي كما في صحيح مسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

الرابع: الخوف من حبوط العمل بالرياء، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).

الخامس: ترك مدح الناس وذمهم، فإن الأرزاق بيد الله لا بيد البشر، قال كما ثبت عنه عند الترمذي وغيره: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك).

السادس: الإكثار من ذكر الله وقراءة القرآن، فهو شفاءٌ للقلوب، ونورٌ للصدور، قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

للسابع: (إخفاء العمل الصالح قدر الاستطاعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق: (سبعة يظلهم الله في ظله... وذكر منهم فقال: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

أيها الأحبة:
لن يثبت على طريق التوحيد إلا من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن هواها، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).

فاتقوا الله عباد الله، وجددوا توحيدكم، وأخلصوا أعمالكم لوجه ربكم، وراقبوه في السر والعلن، واعلموا أن الجنة دار الموحّدين، والنار دار المشركين، واسألوا الله الثبات على كلمة التوحيد حتى الممات.

اللهم اجعلنا من أهل لا إله إلا الله، وحققنا بها قولًا واعتقادًا وعملاً، واجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم الله فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا من أهل توحيدك الخالص، الذين لا يشركون بك شيئًا، واغفر لنا ما مضى من تقصيرنا في حقك، وثبّت قلوبنا على دينك حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا.


وأقم الصلاة.




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام