سبع جلسات تفاهم مع منكر السنة (7) والأخيرة
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
الجلسة السابعة: لماذا تأخر تدوين السنة؟
كثيرا ما يثار سؤال: لماذا لم تدون سنة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كما دون القرآن؟ ولماذا تأخر تدوين الحديث النبوي حتى القرن الثاني الهجري؟
وقد اتخذ بعضهم هذا السؤال مطعنا في السنة النبوية، وأساسا للتشكيك في حجيتها.
لكن من ينظر بعين العقل والإنصاف، ويتأمل بوعي في حكمة الله، وسياق الأحداث، وطبائع الأمور، سيجد أن لتأخر التدوين العلني الشامل للسنة أسبابا موضوعية عقلية، بل وحكما بديعة تظهر عناية الله بحفظ هذا الدين.
والجواب عن سؤال الحلقة الخص ذلك في محاور:
أولا: التدوين ليس هو الحفظ الوحيد
الخلط الذي يقع فيه كثيرون أنهم يظنون أن الحفظ هو التدوين.
وهذا خطأ، فالعقل يقر بأن الحفظ الشفهي قد يكون في بعض البيئات أقوى من الكتابي، لا سيما في بيئة كبيئة العرب التي كانت تعتمد قديما على الحفظ والرواية بدرجة مذهلة.
لقد حفظ العرب القصائد الجاهلية بمئات الأبيات بل بآلاف دون خط، وتناقلوا أنسابهم وأيامهم بدقة متناهية، فلماذا يستنكر عليهم أن يحفظوا سنة نبيهم وهم يرونها وحيا من عند الله؟
والعقل يفرق بين بيئة اليوم التي تعتمد على الورق والملفات والهواتف، والأجهزة الإلكترونية الأخرى، وبين بيئة القرن الأول التي كانت الذاكرة فيها هي الحافظة الأمينة، وكانت الأمة كلها تحفظ بالتلقي، وتتوارث الحديث حفظا وتطبيقا.
ثانيا: الحكمة في عدم مزج السنة بالقرآن.
من تأمل الأمر بعين الإنصاف، أدرك أن عدم تدوين السنة مع القرآن في صحيفة واحدة، كان حماية للقرآن من أي خلط أو التباس.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه).
وقد فهم هذا النهي على أنه نهي وقتي لا دائم، هدفه صيانة القرآن، وضمان ألا تختلط السنة به، خاصة في عهد النبوة حيث كان القرآن يوحى به تباعا، وكان يتلى في الصلاة، ويكتب في الصحف المفرقة، ثم جمع في مصحف واحد في عهد أبي بكر، ثم عثمان.
والعقل يدرك أن من أعظم أسباب ثبات القرآن هو هذه العناية الربانية بتجريده عن كل ما ليس منه، وعدم السماح بأي اختلاط بينه وبين كلام النبي، ولو كان وحيا غير متلو.
ثالثا: التدوين كان موجودا لكنه لم يكن عاما.
ظن بعضهم أن تأخر التدوين يعني غيابا كاملا لأي كتابة، وهذا غير صحيح.
فالعقل المنصف لا يستدل بعدم وجود موسوعات شاملة في القرن الأول على غياب الكتابة مطلقا.
لقد كان كثير من الصحابة والتابعين يكتبون الأحاديث لأنفسهم، ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص الذي كان يدون كل ما يسمعه من النبي، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق).
كما وجدت صحف كثيرة، منها صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، وهي من القرن الأول الهجري وغيرها من صحف الصحابة والتابعين وقد سردنا هذه الصحف ضمن سلسلة حلقات كيف تحاور من ينكر أحاديث السنة الصحيحة، وذكرنا الأحاديث الصحيحة في الترغيب بكتابة الحديث النبوي.
فلم يكن هناك منع من التدوين الشخصي، لكن الذي تأخر هو التدوين الرسمي الجماعي الشامل، وهو ما سنأتي إلى حكمته.
رابعا: لماذا تأخر التدوين الشامل إلى القرن الثاني؟
إن العقل لا يكتفي بوصف الواقع، بل يسأل: لماذا حدث هذا؟ وما حكمته؟
والجواب: لأن الحاجة لم تكن ملحة في البداية، ثم أصبحت ملحة لاحقا.
في القرن الأول، كانت الأمة أقرب عهدا بالنبي، والسنة محفوظة بالأسانيد، والرواة معروفون، والحياة الإسلامية قائمة على العمل بالسنة.
لكن لما اتسعت الدولة الإسلامية، ودخل في الإسلام أقوام لا يعرفون لغة العرب، وظهرت الفرق المنحرفة التي اختلقت الأحاديث، أصبح التدوين ضرورة.
وهنا فقط تحركت الدولة الإسلامية، فأمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله، في بداية القرن الثاني، بتدوين السنة رسميا، قائلا: (انظروا حديث رسول الله فاجمعوه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء)، وتقدم سرد ذلك بالتفصيل ضمن حلقات كيف تحاور من ينكر أحاديث السنة الصحيحة.
وهكذا، جاء التدوين في وقته المناسب، حين ظهرت الحاجة، وبأدق معايير التوثيق العلمي.
خامسا: لماذا كان التأخر نعمة؟
قد يبدو في ظاهر الأمر أن التأخر مشكلة، لكن من ينظر بعين العاقل، يكتشف أن هذا التأخر كان من أوجه الحفظ الرباني المنهجي للسنة:
لأنه سمح بتصفية الحديث وتنقيته من الكذب والضعف، من خلال علوم الحديث وعلى رأسها علم الجرح والتعديل.
وأتاح نشوء علم الإسناد، الذي لا يوجد في أي حضارة غير الإسلام.
وأعطى الفرصة للتمييز بين الثابت والمنقطع، والضعيف والمتروك، والموضوع، ونحوها من الأنواع، فصار ديننا مبنيا على السند، لا على الأساطير.
تخيل لو دونت كل الروايات منذ اليوم الأول بلا تمحيص!
لربما اختلط الحق بالباطل، وأدخل في الدين ما ليس منه.
لكن الله شاء أن يؤخر التدوين الشامل حتى تتكون البيئة العلمية القادرة على التوثيق والتصفية، فكان التأخر حفظا لا تفريطا.
فيا إخواني: إنما يؤتى الشك من ضعف الفهم.
إن الذين يطعنون في السنة بدعوى تأخر التدوين، غالبا ما يسقطون معايير عصرهم على عصر آخر.
لكن من تدبر السنن، وتفكر في حكمة الله، رأى أن الأمر كان محسوبا بدقة: لا خلط مع القرآن، ولا كتابة عشوائية، ولا تدوين إلا بعد التمحيص، ولا اعتماد إلا على الثقات
فما ضاعت سنة النبي، ولا فرطت الأمة في حفظها، بل حفظت كما لم تحفظ سنة نبي قبله، بأسانيد ورجال وتوثيق يشهد له حتى المستشرقون المنصفون.
وهكذا، بعقل متزن وقلب ثابت، وديانة صحيحة، ندرك أن تأخر تدوين السنة لم يكن نقصا، بل كان جزءا من نظام الحفظ الإلهي لهذا الدين.
انتهت الحلقات كاملة، والحمد لله أولا وآخرا.