الأربعاء 7 جمادى الأولى 1447 هـ || الموافق 29 أكتوبر 2025 م


قائمة الأقسام   ||    لله ثم للتاريخ، هذا ما أحدثه الحوثيون في اليمن    ||    عدد المشاهدات: 36

لله ثم للتاريخ، هذا ما أحدثه الحوثيون في اليمن(42)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني 

الحلقة الثانية والأربعون: الحوثي والمغتربون: الغربة المزدوجة، وطن ضاع وصوت أُسكت


لم تكن الغربة يوما غريبة على اليمنيين؛ فقد خرجوا منذ قرون يجوبون الأرض طلبا للرزق، وتركوا وراءهم قلوبا معلقة بأبواب البيوت، تسقيها الذكريات بالدعاء والدموع. 

لكن الغربة التي صنعها الحوثي لم تكن غربة اغتراب عادية، بل غربة هوية ووطن ودولة.

فمنذ أن سيطر الحوثيون على صنعاء وبعض المناطق اليمنية دخل اليمن نفقا مظلما من العزلة الدولية والانقسام الإداري، وانكسرت معه هيبة الجواز اليمني، وتقطعت أوصال العلاقة بين المواطن ودولته، ليجد المغترب نفسه في الخارج كمن يعيش بلا ظل ولا عنوان.

ذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش (HRW) في تقريرها السنوي لعام 2022م أن: سيطرة جماعة الحوثي على مؤسسات الدولة، واستغلالها إصدار الوثائق الرسمية والجوازات لأغراض سياسية، جعل آلاف اليمنيين في الخارج بلا أوراق ثبوتية أو اعتراف قانوني.

ولم يقتصر الأمر على فقدان الوثائق، بل امتد إلى فقدان الكرامة؛ إذ بات المغترب اليمني ملاحقا بالريبة أينما ذهب، ينظر إليه على أنه ابن دولة ممزقة لا تمثلها حكومة موحدة، ولا يملك نظاما دبلوماسيا قويا يحميه.

تقرير المنظمة الدولية للهجرة (IOM) الصادر في نوفمبر 2023م يؤكد أن أكثر من 400 ألف مغترب يمني حول العالم يواجهون خطر الإقامة غير النظامية بسبب تعذر تجديد الجوازات أو تصديق الوثائق نتيجة الانقسام السياسي والإداري.

لقد كان الجواز اليمني قبل انقلاب الحوثي من الوثائق المعترف بها في معظم دول العالم، لكن بعد استيلاء الجماعة على مصلحة الجوازات في صنعاء، تحول إلى شبه ورقة مشكوك في صحتها لدى بعض الدول.

وفي تقرير نشره موقع الجزيرة نت بتاريخ 21 يوليو 2021م، جاء فيه أن: عددا من الدول رفضت التعامل مع الجوازات الصادرة من مناطق الحوثيين لعدم موثوقيتها، ما تسبب في إرباك حياة آلاف اليمنيين في الخارج.

وفي شهاداتٍ نقلتها منظمة سام للحقوق والحريات (فبراير 2023م)، أُجبر مغتربون يمنيون على العودة من مطارات عربية وآسيوية لأن جوازاتهم صادرة من مناطق الحوثيين، مما وضعهم في مواقف محرجة ومؤلمة.

وهكذا أصبح الجواز اليمني، الذي كان رمزا للانتماء، شهادة على التمزق الوطني، يعاني صاحبه من تحقيقات ورفض وتأجيل في كل مطار يقف فيه.

ولطالما كانت تحويلات المغتربين اليمنيين شريان حياة للاقتصاد الوطني، إذ تشكل أكثر من 30% من الناتج المحلي بحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في سبتمبر 2022م، لكن هذا الشريان لم يسلم من يد الحوثيين؛ فقد فرضوا جبايات على شركات الصرافة، وضرائب على التحويلات المالية القادمة من الخارج تحت مسمى المجهود الحربي، بحسب تحقيق موقع العربية نت (2 يناير 2024م).

وبات المغترب الذي يشقى ليلا ونهارا في الغربة، يدفع من قوته قهرا ليغذي آلة الحرب في الداخل، بدل أن يعيل أسرته التي تنتظر لقمة الخبز في ظل الفقر والجوع.

ويؤكد تقرير مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي اليمني (ECSY) الصادر في مايو 2023م أن الحوثيين فرضوا على مكاتب الصرافة نسبة تصل إلى 10% من قيمة الحوالات الخارجية لصالح ما يسمونه دعم الجبهات، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة التحويلات وانخفاض الثقة بالنظام المالي اليمني.

وفي الخارج أيضا يعاني المغتربون من غياب التمثيل الرسمي؛ فلا قنصليات حقيقية ترعى كل مصالحهم، ولا سفارات تمتلك الصلاحيات الكاملة، لأن السفارات التي بقيت مع الحكومة الشرعية لا تغطي كل الدول، والسفارات التي يحاول الحوثي تعيين ممثلين فيها لا تعترف بها أي دولة.

وقد ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية (AFP) في تقريرها بتاريخ 10 ديسمبر 2022م أن عشرات اليمنيين في إفريقيا وجنوب شرق آسيا يعيشون بلا هوية دبلوماسية بسبب النزاع بين الشرعية والحوثيين، وبعضهم محتجز في دول العبور لعدم اكتمال وثائقهم.

حتى المرضى الذين يسافرون للعلاج يحرمون من المرافقة أو التجديد الطبي لجوازاتهم، كما أوضحت منظمة أطباء بلا حدود (MSF) في تقريرها حول أوضاع المرضى اليمنيين الصادر في أغسطس 2022م.

ومهما يكن فالغربة اليمنية لم تعد مجرد ابتعاد عن الوطن، بل أصبحت جرحا نازفا في الوجدان.
يشعر المغترب اليوم أنه منفي من وطنه ومن العالم معا؛ فالدولة التي تحكم باسمه لا تمثله، والحكومة التي تمثله لا تملك سلطته، وبين الطرفين يدفن وجع الإنسان اليمني الصامت.
وقد بين تقرير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة – ديسمبر 2023م) أن نسبة الاضطرابات النفسية بين اليمنيين في الخارج ارتفعت بمعدل 60% خلال سنوات الحرب، نتيجة القلق على الأهل وصعوبة الإجراءات القانونية وضياع الوثائق.

يروي أحد المغتربين في ماليزيا لموقع DW الألماني في (يناير 2024م) ويقول: أعيش هنا منذ سبع سنوات، ولا أستطيع تجديد جوازي، أنا حرفيا إنسان بلا هوية، لا أستطيع فتح حساب بنكي، ولا تجديد إقامتي، ولا حتى العودة إلى وطني الذي لم يعد وطنا.

وفي السعودية، يروي آخر لصحيفة الشرق الأوسط في (مارس 2023م): التحويلات التي أرسلها إلى أهلي تخصم منها جبايات حوثية، يقولون إنها لدعم الجبهات، وأنا أعمل لأطعم أطفالي، لا لأمول الحرب.

لقد حول الحوثي الغربة من تجربة اغتراب مؤقتة إلى نظام دائم من الإقصاء والمهانة.
فالمغترب اليمني الذي كان سفير الكد والكدح أصبح رمزا لمعاناة وطن بلا دولة.

لقد قطع الحوثي بينه وبين وطنه خيوط التواصل، وجعل وثيقته بلا وزن، وصوته بلا صدى، وعرقه موردا لحرب لا تنتهي.




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام