آفات الخطاب الدعوي المعاصر(2)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
الحلقة الثانية: الانشغال بدراسة القضايا الجانبية أكثر من قضايا الأمة الكبرى
إن من أخطر ما يبتلى به الفكر: الانشغال بالقضايا الجانبية غالبا على حساب قضايا الأمة الكبرى، فتضيع الجهود، وتتناثر الطاقات، ويغيب التركيز عن الأولويات التي تنهض بها الأمة وتعيد لها مكانتها.
ولتوضيح هذه الإشكالية، سأتناولها من خلال المحاور الآتية:
أولا: حقيقة الانشغال بالقضايا الجانبية
من مظاهر الخلل في واقعنا الدعوي أن ينصرف بعض العاملين في حقل الدعوة إلى قضايا جزئية انصرافا غالبا، بحيث تشغلهم عن الأصول العظمى التي بعث الله بها الرسل، كالاهتمام بجدالات لا طائل تحتها، أو تضخيم مسائل فرعية حتى تصير معيار الولاء والبراء، بينما تترك القضايا الكبرى التي تتعلق بوجود الأمة ورسالتها، وسبب ذلك غياب فقه الأولويات الذي لا يعني ترك الفرعيات، فإن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)، بمعنى خذوا الإسلام من جميع جوانبه، لا كما يقول بعض الجهلة: (خذوا لباب الإسلام، واتركوا قشوره)، فإن هذه المقولة من وضع العلمانيين، حتى صار يرددها بعض الجهلة لقلة علمهم.
وقد قيل في الحكمة: (من شغل نفسه بما لا يجب، ضيع من أمره ما يجب)، بمعنى لا تشغل نفسك دائما بالأدنى وتترك الأعلى، واجعل الأمرين نصب عينيك.
ثانيا: خطورة الانشغال بالجزئيات مع نسيان الكليات.
وهذا المحور يتفرع منه عدة فروع:
الفرع الأول: إضاعة الأولويات.
فالأمة تحارب في عقيدتها وأخلاقها، وبعض أبنائها منشغلون غالبا بفروع الأمور.
الفرع الثاني: الفرقة والتمزق. حيث يتحول الخلاف الجزئي إلى نزاع وقطيعة.
الفرع الثالث: تعطيل الإصلاح الحقيقي.
حيث تنصرف الجهود عن تربية الجيل على القرآن والسنة إلى معارك وهمية.
قال الله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم).
ثالثا: الأمثلة الواقعية
وإليكم أبرز هذه الأمثلة:
الأول: خلافات محتدمة حول مسائل فرعية في العبادات بينما تغيب التربية على التوحيد وقضايا الأمة الكبرى.
الثاني: نقاشات لا تنتهي في قضايا جزئية، بينما تهمل معركة الوعي ضد الإلحاد والعلمانية والإباحية ومنكري السنة والعقلانيين وأمثالهم من الطوائف الأخطر على الإسلام والمسلمين.
الثالث: صرف الطاقات في نقد الأشخاص والفرق والأحزاب والتيارات أكثر من توجيه الجهود إلى خدمة الإسلام ومواجهة العدو الداخلي والخارجي المشترك، والواجب العمل في الأمرين حسب الضرر، وفق الكتاب والسنة.
رابعا: المنهج الشرعي في ترتيب الأولويات
وهذا يكاد أن يكون غائبا لدى الكثير من العاملين في الحقل الدعوي، ويتلخص في التالي:
الأول: البدء بما بدأ الله به: قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن كما في الصحيحين: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله).
الثاني: التمييز بين الأصول والفروع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/ 164): (وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم كلاما يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون).
الثالث: العناية بالقضايا الكبرى: كتحكيم الشريعة، ونشر العلم الصحيح، وبناء الإيمان في النفوس، ومواجهة حملات الإلحاد والتغريب والإفساد.
خامسا: واجب الدعاة وطلاب العلم.
حيث يجب عليهم ما يأتي:
الأول: أن يربوا أنفسهم وأتباعهم على فقه الأولويات.
الثاني: أن يشتغلوا بما ينفع الأمة لا بما يثير الشقاق، وهذا لا يعني السكوت عن الحق وعن بيان ما عليه الطوائف من الانحرافات والضلال والبدع.
الثالث: أن يميزوا بين ما هو قطعي يجب الاجتماع عليه، وما هو اجتهادي يسوغ فيه الخلاف.
الرابع: أن يوقنوا أن الانشغال بالجزئيات مع إهمال الكليات إضاعة للأمانة التي حملهم إياها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت عند أحمد وغيره: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).
والحاصل: أن الانشغال عن القضايا آفة خطيرة تميت روح العمل الدعوي الحق، وتضعف الأمة أمام أعدائها، وتنشئ أجيالا غافلة عن مقاصد الإسلام العظمى. والنجاة في لزوم المنهج النبوي، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على التوحيد والعبادة والأخلاق، ويهيئهم لحمل رسالة الإسلام للعالمين، جامعا بين كليات الدين وفروعه.
قال الله تعالى: (قل هذه سبيلي ادعو الى الله على بصيرة انا ومن اتبعني، وسبحان الله وما انا من المشركين).