آفات الخطاب الدعوي المعاصر (5)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
الحلقة الخامسة والأخيرة: الاستعجال في التبديع والتفسيق والتكفير
في هذه الحلقة نواجه آفة الاستعجال في إطلاق الأحكام على الناس بالبدعة أو الفسق أو الكفر، دون تمحيص أو ضوابط أو فهم دقيق.
هذا التسرع يزرع الفتن ويفرق الجماعة ويهدم روابط الإخاء بين المسلمين.
نسلط الضوء على خطورة هذا الانزلاق، والحكمة في التريث قبل إصدار الأحكام الشرعية من خلال المحاور التالية:
أولا: خطورة التسرع في أحكام الدين
لقد ابتلي بعض الطلاب ومحبو بعض المشايخ في زماننا بالجرأة على إطلاق الأحكام العظام، تبديعا وتفسيقا بل وتكفيرا أحيانا، بمجرد مخالفة يسيرة أو شبهة ضعيفة.
وهذا مسلك خطير يناقض منهج أهل السنة والجماعة الذين كانوا يتأنون ويزنون الأمور بميزان الشرع.
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).
وقال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا).
وقال سبحانه: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون).
ثانيا: التحذير النبوي من إطلاق التكفير
جاء في الصحيحين: (أيما رجل قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما).
قال بعض العلماء: فيه تغليظ عظيم في إطلاق الكفر على المسلم، وأنه إذا لم يكن كذلك رجعت على القائل نفسه.
فكيف بمن جعل همه تصنيف الناس جماعات وأفرادا في قوالب البدعة أو الفسق أو الكفر، دون دليل ولا ورع ولا تثبت؟
ثالثا: منهج أئمة الدين في الإنكار
السلف الصالح وأئمة الدين كانوا من أبعد الناس عن التسرع في إطلاق الأوصاف المهلكة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (12/466): (ليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة).
رابعا: آثار الاستعجال في التبديع والتفسيق والتكفير
تتلخص هذه الآثار في أمور، أبرزها:
الأول: تمزيق الصف الدعوي. إذ ينشغل الشباب بتصنيف بعضهم بعضا بدل التآزر على نصرة الدين.
الثاني: تشويه صورة الدعوة. حين يرى الناس طلاب العلم لا هم لهم إلا التبديع والتفسيق، ينفر الناس من الدين والعلماء والمتدينين، وهذا ما نعانيه اليوم.
الثالث: فتح باب الفتن والشجار والاقتتال.
فكم من شجار ظهر، ودماء أريقت، وكم من عداوات ثارت، بسبب أحكام استعجل أصحابها بلا بينة.
قال الله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
خامسا: الميزان الشرعي في الحكم على الناس
الأصل في المسلم الإسلام حتى يثبت خلافه بيقين.
فالخطأ والبدعة لا يقتضيان دائما الكفر أو الفسق أو البدعة، ولذلك ليس كل طالب علم، ولا كل داعية، ولا كل متحمس غيور، يحق له أن يبدع أو يقيم الحجة، بل يشترط فيمن يقيم الحجة أن يكون عالما معتبرا، بصيرا ورعا، عارفا بأسباب الجرح، متجردا للحق غير متعصب لغيره، عارفا بمقاصد الشرع، متزنا في عقله وقلبه.
فعجبا لك يا طالب العلم الصغير، يا أيها المقلد: كيف تسارع إلى التبديع والتكفير دون أن تدرك دقائق المسألة، ودون أن تمييز بين الجهل والتعمد، وبين المتأول والمبتدع، وبين حكم من مات دون قيام الحجة عليه، وحكم من هو حي سواء قامت أم لم تقم، وهما حكمان منفصلان؟! وبين عالم معتبر ورع يخاف الله ويتقيه، وبين داعية متسرع، لأن الأحكام الكبرى تحتاج إلى علم وافي، وعدل، وصبر، وتثبت.
والحاصل: الاستعجال في التبديع والتفسيق والتكفير داء خطير، يهدد وحدة الأمة، ويجرها إلى الفتن.
والواجب علينا التثبت والعدل والرفق، وأن نربي الأجيال على منهج الوسطية الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا).
اللهم ارزقنا البصيرة في الدين، والعدل في الحكم، والورع عن إطلاق الألسنة بما لا يرضيك.