كلمة عن أصول الفقه، وتعريف العلة
بقلم الدكتور: صادق بن محمد البيضاني
س 676: شيخنا الحبيب: تعلمون أن أصول الفقه دخَله الكثيرُ من علوم المتكلمين والسؤال: هل العلة بالمعنى الأصولي التي هي من العلم الصحيح الذي أحتج به؟، أقصد هل العلة: وصف ظاهر منضبط، وإن تخلف هذا فليست علة، وهل العلة التي يجوز الحكم معها وجودًا وعدمًا هي التي ينطبق عليها التعريف السابق، وهل إذا وجدت علة منصوصة يصح استنباط علل أخرى -بارك الله فيكم-؟
ج 676: لا شك أن أصول الفقه قد دخل أحكامه الكثيرُ من علم الكلام، وصارت بعض قواعده يغلب عليها العقل، إلا أن كبار المجددين فيه كالإمام ابن حزم، وابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن الوزير الصنعاني، والشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي، وأضرابهم من الأعلام هذّبوا كثيرًا من قواعده وربطوها بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وقد بينوا للأمة ما وافق الدليل وما خالفه من علم الجدل والمنطق مما يخالف الشرع.
وأما ما يتعلق بالعلة فهي كما تفضلت: وصف ظاهر منضبط، ولك أن تعرفها وتقول: هي ما جعله الشرع إمارة مُعَرِّفة لثبوت الحكم([1]).
إلا أنه لا يجوز لعالم أن يقطع بأن العلة من كذا هو كذا إلا بدليل، وإلا كانت دعوى باطلة؛ فلو قال: يظهر أن العلة كذا والله أعلم، فهذا لا بأس به؛ لأن القطع بالعِلِّيَّة من غير نصٍّ دعوى لا دليل عليها.
ومن هنا قال علماؤنا: العلة علتان- علة منصوص عليها، وعلة مستنبطة؛ فالمنصوص عليها كقوله -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الصحيحين: "إنَّما جُعِل الاستئذانُ مِن أجْلِ البصَر"([2]).
وبهذا فإن علة الاستئذان هنا منصوص عليها؛ وهي حتى لا يقع النظر على عورة أحد.
وكقوله -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري لابن مسعود حين أتاه بحجرين ورَوْثة، فأخذهما وألقى الرَّوْثة وقال: " هذه ركس([3])"([4]).
فهنا العلة المنصوص عليها في تركه لاستعمال الروثة هي كونها نجسة.
وأمثال ذلك كثيرة، فهذا النوع يجوز لك أن تقطع بعليته؛ لأنه تعلَّقَ به نصٌّ شرعي.
وأما العلة المستنبطة فلا يحل القطع بها؛ لأنها محتملة، فيحتمل العلماء لها عدة علل، وكل عالم يحتمل ما يراه مناسباً عنده، فيرده آخر ويقول: بل الأنسب خلاف ما قال فلان.
ومثالها: العلة من فرضية الوضوء؛ فيقول عالم: العلة تعبدية وهي مما استأثر الله بعلمه، ويقول آخر: العلة حتى يقابل العبد ربه وهو على طهر، ويقول ثالث: لأن الوضوء علامة الإيمان، وهكذا تتعدد العلل المحتملة لعدم ورود النص القائم بها.
وهذه العلة غير المنصوص عليها -أي المستنبطة- هي التي درج عليها العبادي -رحمه الله- في منظومته حيث قال:
ويحصُلُ العِلمُ بأصْلِ العِلَّةِ
أو ظَنِّهـا بِهذِهِ الأدِلــَّةِ
النصِّ، والإيماءِ، والمناسبةْ
والسّبرِ، والتقسيمِ من بعد شبهْ
والسادس الدورانُ ثم الطردُ
كذاك تنقيحُ المناط بعدُ
وحاصل ما يقال: إن العلة إذا كانت منصوصاً عليها فهي التي يكون الحكم معها وجودًا وعدمًا، أما غيرها فلا يلزم؛ لأنه مما استأثر الله بعلمه.
وعلى ذلك فلا ينبغي استنباطُ أي عللٍ أخرى إذا ورد النص بالعلية، وبالله التوفيق.
[1] بهذا عرفها الشيخ رشيد الدين الحواري في «لباب القياس» كما ذُكر ذلك عنه في "شرح مختصر الروضة" لنجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم، ابن سعيد الطوفي، المتوفى سنة 716هـ، بتحقيق الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة ط. الأولى 1407 هـ / 1987 م، (3/ 244).
[2] أخرجه البخاري في "صحيحه" [كتاب الاستئذان - باب إنَّما جُعِل الاستئذانُ مِن أجْلِ البصَر (5/2304 رقم 5887)]، ومسلم في "صحيحه" [كتاب الآداب – باب تحريم النظر في بيت غيره (3/ 1698 رقم 2156).]، والترمذي في "السنن"، [كتاب الاستئذان والآداب - بَاب مَنْ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِم (4/434 رقم 2709)] من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-.
[3] أي نجس.
[4] أخرجه البخاري في "صحيحه" [كتاب الوضوء - باب: لا يستنجى بروث (1/70 رقم 155)].