مقدمات ومبادئ ينبغي التنبيه عليها قبل الخوض في مسائل الفقه
الحلقة (2 )
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
أولاً: معنى الفقه
الفقه لغةً: الفهم, وقيل الفهم الدقيق النافذ؛ وهذا مأخوذ من قول الله عز وجل "قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول"([1]) بمعنى "لا نفهم", وأيضًا مأخوذ من قوله تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين" - بمعنى ليتفهموا - "ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم"([2]).
وأما في الاصطلاح, فله عدة معان منها:
1) الإدراك؛ لقوله سبحانه: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم"([3]) بمعنى لا تدركون, ومن الشريعة ما يُدرك فإن مَنْ تعلم العلم أدرك المسائل الفقهية، ومن لم يتعلم العلم فلن يدرك هذه المسائل حتى يتعلم.
2) معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية أو ما طريقه الاجتهاد.
فأما ما دليله تفصيلي فقد تقدم كما في قوله تعالى: "وأقيموا الصلاة"([4]), وأما ما طريقه اجتهادي فقد أشرنا له في الحلقة السابقة, وذلك كالمسائل العارضة فدليلها لم يُفصل في الكتاب والسنة ولكن استدل الفقهاء لها بأدلة مجملة, وأما ما كان دليله على سبيل الإجمال فلا شك أن المجتهد سيجتهد فيه ثم يحكم بما يراه وقد يخالفه غيره، والصواب لمن كان دليله قويًا، وقد بينا أمثلة ذلك في الحلقة الماضية.
ثانياً: تاريخ الفقه الإسلامي
مر الفقه الإسلامي بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: المرحلة العامة " الكلية " فلم يكن الفقه في بداية أمره بما نُعَرِّفه به اليوم من أنه: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية من طهارة وصلاة وزكاة وصوم ونحوها, بل كان في بداية الأمر كما عرفه الإمام أبو حنيفة أنه: "معرفة النفس ما لها وما عليها", فدخل في تعريفه : معرفة العقائد والتوحيد, وما يتعلق بالوجدانيات: وهي المتعلقة بالقلب والنوايا كالحسد والحقد والكراهية والرياء, وما يتعلق بالأخلاق والآداب: كالتواضع وخفض الجناح, هذا فضلًا عن دخول الأحكام الشرعية كأحكام الصلاة وغيرها في هذا التعريف من باب أولى.
فهذا كله يدخل في تعريف الفقه عند أبي حنيفة؛ ولذا نجد أن الإمام أبا حنيفة لما ألف كتاب العقائد سماه "الفقه الأكبر": وهو أصول الدين وهذا هو الفقه الأول الذي يجب على المسلم أن يتعرف عليه, فيتعرف على ما يجب عليه نحو ربه من توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات, وما يتعلق بالحذر من الشرك ونحوه.
المرحلة الثانية : هي المرحلة التي جعل العلماء الفقه فيها عبارة عن: "معرفة الأحكام الشرعية", فخرج ما يتعلق بالعقائد وبقي ما يتعلق بالوجدانيات والأخلاق فضلًا عن الأحكام الفرعية التفصيلية العملية كأحكام الصلاة وغيرها؛ فنجد أن في هذه المرحلة ادخال فقه بعض الأخلاق والآداب, بل ومضى على ذلك فيما يظهر الحافظ ابن حجر كما في كتابه بلوغ المرام, وأدخل البعض: ما يتعلق بالوجدانيات كالحسد والكراهية، وهذا في الجملة يختلف عن المرحلة الأولى.
المرحلة الثالثة : وهي المرحلة المتأخرة، التي خُصَّ فيها الفقه الإسلامي بأنه: ما يتعلق بالأحكام الشرعية التفصيلية العملية وما طريقه الاجتهاد, وعلى ذلك لن يكون كلامنا متعلقًا بأحكام الأخلاق أو الوجدانيات أو العقائد, وإنما سيكون متخصصًا ببيان الأحكام الشرعية الفرعية التفصيلية العملية أعني المرحلة الثالثة لأنها صارت المقصودة من الفقه إذا أطلق.
ثالثاً : مسميات الفقه
له عدة مسميات وعدة معاني, وأشهرها ما يلي :
1) شِرْعة: وقد سماه ربنا سبحانه بهذا الاسم كما في قوله تعالى: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا"([5]).
2) شريعة: ودليله قوله سبحانه "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها"([6]), أي على فقه في الدين.
3) الدين الإسلامي: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"([7]), ومعنى أمرنا : ديننا، ومنه قوله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي"([8]).
4) فقه الفروع : هكذا سماه بعض الفقهاء.
5) فقه العبادات والمعاملات : وهي أيضاً تسمية اشتهرت لدى بعض الفقهاء.
6) فقه الحلال والحرام : وهي أيضاً تسمية اشتهرت لدى بعض الفقهاء.
رابعاً : موضوع الفقه الإسلامي وما يتعلق به
موضوع الفقه : أفعال المكلفين من حيث الترك أو الفعل أو التخيير؛ لأن الشريعة الإسلامية جاءت بخمسة أحكام وهي :
الأول : الوجوب, كـ "أقيموا الصلاة"([9]) والحكم فيه الوجوب.
الثاني: الاستحباب, كـحكم تحية المسجد عند دخوله الاستحباب على الراجح؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"([10]).
الثالث : التحريم, ومن ذلك قوله تعالى: "ولا تقربوا الزنا"([11]).
الرابع : الكراهة, وذلك في الدليل الذي يعارض الدليل الذي ظاهره التحريم إذا لم يتبين النسخ, كحكم الصلاة في الأوقات المنهي عنها, ففي حديث النبي عليه الصلاة والسلام "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا"([12]), وذكر منها: "وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب"؛ فإن تحية المسجد مستحبة للدليل السابق: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"([13]).
لكن لو صلاها في وقت النهي فقد وقع في الكراهة؛ لأنه عارض ذلك الاستحباب دليل النهي الظاهر.
الخامس: التخيير: بمعنى الإباحة كالشرب والطعم ولبس أنواع الثياب المباحة وما إلى ذلك.
خامساً : شروط من يصح تكليفه
لا يكلف الله عبداً بعبادة شرعية إلا إذا استوفى شروط التكليف، وهي :
الأول : العقل.
لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الحديث الذي في مسند الإمام أحمد وعند بعض أهل السنن عن عائشة وجماعة من الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "رفع القلم عن ثلاث", بمعنى: رفع الحكم الشرعي عن ثلاثة, "عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل"([14]), فالمجنون لو صلى لم تقبل صلاته؛ لأنه لا يدرك ذلك, كيف والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: "ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"([15]), لماذا؟؛ لعدم الإدراك, فالذي يسكر هو أهون من الذي لا عقل له من حيث خاصية بقاء العقل وذهابه.
الثاني : البلوغ.
ودليله ما ورد في الحديث السابق "والصبي حتى يحتلم".
الثالث : الإسلام.
فلا يقول قائل الكافر بالغ وهو عاقل, إذن فهو مكلف!!
لا يمكن هذا القول، لأنه لا تكليف إلا بإسلام، فالإسلام شرط لصحة العبادة.
قال تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام"([16]), وقال سبحانه "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه"([17]), فالكافر يطالب بالعبادات وبفروع الشريعة كالصلاة والصيام, لكنه لن يقبل منه حتى يأتي بالمفتاح, وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ ولذا يقول الله عز وجل عن أهل الكفر وما سيحصل لهم يوم القيامة: "ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين"([18]), فلو أطعموا المسكين أو صلوا أو لم يخوضوا كانوا من أهل النار؛ لأنهم لم يأتوا بالمفتاح الذي يدخلهم الإسلام وهو الشهادتان.
وإلى لقاء قادم بإذن الله، وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
________________ا
([1]) سورة هود, الآية (91).
([2]) سورة التوبة, الآية (121).
([3]) سورة الإسراء, الآية (44).
([4]) سورة البقرة, الآية (43).
([5]) سورة المائدة, الآية (48).
([6]) سورة الجاثية, الآية (18).
([7]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين عائشة.
[8] سورة المائدة، الآية (3).
([9]) سورة البقرة, الآية (43).
([10]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي قتادة, واللفظ للبحاري.
([11]) سورة الإسراء, الآية (32).
([12]) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عقبة بن عامر الجهني.
([13]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي قتادة, واللفظ للبحاري.
([14]) أخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سننه وغيره من أصحاب السسن عن أم المؤمنين عائشة.
([15]) سورة النساء, الآية (43).
([16]) سورة آل عمران, الآية (19).
([17]) سورة آل عمران, الآية (85).
([18]) سورة المدثر, الآية [45:42].