لله ثم للتاريخ، هذا ما أحدثه الحوثيون في اليمن(35)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
الحلقة الخامسة والثلاثون: الحوثي والغدر
الغدر كان ولا يزال علامة مميزة في مسيرة جماعة الحوثي منذ اللحظة التي وطئت فيها أقدامهم صعدة وسفيان، مرورا بعمران وصنعاء، ووصولا إلى كل محافظة استولوا عليها.
ليس تصرفا عابرا، ولا تكتيكا مؤقتا، بل هو نهج متجذر في فكر الجماعة وسياسة قياداتها، يمثل أسلوبا منهجيا لإبقاء اليمنيين في حالة خوف دائم، ويحول كل اتفاق أو تفاهم إلى مجرد مرحلة مؤقتة في طريق السيطرة الكاملة على الناس والأرض.
منذ البداية، لم يكن الحوثي يعرف الثقة، ولا يوف بأي وعد يقطعه، حتى مع القبائل التي ساندته في البداية أو وقعت معه على هدنة أو اتفاقية.
ففي صعدة وسفيان، وعد القبائل بالهدوء والأمان، وبالمقابل حصل على تعاونهم المباشر، ثم انقلب عليهم بعد أيام، فشن الهجمات، وفرض الإتاوات، وابتكر من القوانين المزيفة ما يجعل ولاء القبائل له واجبا لا نقاش فيه.
وقد وثقت منظمات حقوقية منذ وقت مبكر هذا النمط من التعامل، إذ أشارت تقارير هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch - 2014) إلى أن الحوثيين بعد سيطرتهم على صعدة وسفيان وعمران، عقدوا اتفاقيات مؤقتة مع القبائل المحلية، ثم نقضوها بعمليات مداهمة واعتقال وفرض قيود قسرية على السكان.
وفي عمران وصنعاء، كرر الحوثي الأسلوب نفسه لكن بأسلوب أكثر وحشية.
فقد أبرم اتفاقيات مع مشايخ القبائل والمسؤولين المحليين، ووعدهم فيها بالحقوق والحماية مقابل الولاء المؤقت، ليعود لاحقا وينقض العهد، مستغلا الفرصة ليعزز وجوده العسكري ويشرعن سيطرته السياسية.
وقد أشار تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2015م بعنوان (We Pray to God by Torturing Journalists) إلى أن الجماعة استخدمت الهدوء السياسي بعد دخول صنعاء غطاء لاعتقالات جماعية للصحفيين والناشطين الذين ظنوا أن التفاهمات السياسية ستضمن لهم حرية العمل.
لقد تحول الغدر السياسي إلى سياسة رسمية، ومنهج دائم، لا حيلة تكتيكية، كما يصف التقرير، (إذ لم تحترم الجماعة أي التزامات قانونية أو أخلاقية في تعاملها مع خصومها أو شركائها السابقين).
وليس الغدر الحوثي محصورا في الاتفاقيات مع القبائل، بل امتد إلى كل من تعامل معهم من السياسيين والمفكرين والحلفاء المؤقتين.
أي شخص يوقع اتفاقا مع الحوثيين، عليه أن يعلم أن فرص الوفاء شبه معدومة.
وقد أكد تقرير Rights Radar (2023م) أن جماعة الحوثي مسؤولة عن 97٪ من حالات الوفاة تحت التعذيب في اليمن، وهو رقم مذهل يدل على أن كل تفاهم أو التزام ينتهك لاحقا، وأن الخيانة ليست حادثا فرديا بل سياسة عامة.
ولم يتوقف الأمر عند الحقوق الفردية، بل شمل الحياة العامة.
فقد ذكر تقرير اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان (2024م) أن الجماعة ارتكبت أكثر من ألفي انتهاك خلال عام واحد فقط، شملت القتل والاختفاء القسري ونهب الممتلكات الخاصة، في محافظات صنعاء والحديدة وإب وصعدة، رغم اتفاقيات التهدئة المعلنة آنذاك.
هذه الوثائق تكشف أن كل وعد بالسلام من الحوثيين كان غطاء لجولة جديدة من السيطرة والقمع.
أما في التعامل مع المنظمات الدولية، فحدث ولا حرج.
فبعد أن أعلنت الأمم المتحدة عام 2024م عن تفاهمات لضمان حرية عمل منسوبيها في مناطق سيطرة الحوثيين، انقلبت الجماعة على تلك التفاهمات سريعا.
فقد وثقت هيومن رايتس ووتش في مايو 2025م أن الحوثيين اعتقلوا موظفين أمميين ومدنيين من منظمات إنسانية، في خرق واضح للضمانات الممنوحة لهم، ودون أي مبرر قانوني أو محاكمة عادلة، مما وصفته المنظمة بأنه: سلوك متكرر في التنصل من الالتزامات الإنسانية والقانونية.
ولم يقتصر غدر الحوثي على السياسة، بل امتد إلى الاقتصاد والمجتمع. فبحسب بيان الحكومة اليمنية في ديسمبر 2024م، أقدمت الجماعة على إصدار عقود وتصرفات في الممتلكات العامة والخاصة بصنعاء دون سند قانوني، ما اعتبر تزويرا إراديا في وثائق الدولة واعتداء على الملكية، وأكد البيان أن جميع تلك العقود باطلة وغير ملزمة قانونا.
وهذه الحادثة تجسد بوضوح كيف تستبدل القوانين بالولاءات، والعهود بالمكر السياسي.
ثم يأتي تقرير Yemen Monitor (يونيو 2025م) ليضع الخلاصة: أكثر من 161 ألف جريمة وانتهاك ارتكبتها جماعة الحوثي خلال أحد عشر عاما، تشمل القتل، والاعتقالات، والتعذيب، ونهب الممتلكات، وزراعة الألغام، واستهداف المدنيين، وتقييد الحريات العامة.
كل ذلك يبرهن أن الغدر ليس حالة طارئة، بل سلوك ممنهج يشمل كل جوانب إدارة الجماعة للمجتمع والدولة.
الغدر الحوثي إذن لم يكن فعلا سياسيا محدودا، بل أصبح ثقافة سلطة، وعقيدة حكم، وأداة دائمة لترسيخ الخوف وإلغاء الثقة بين أبناء الوطن الواحد.
وكل عهد نقضوه، وكل وعد خالفوه، كان لبنة جديدة في جدار الشك الذي فصل اليمنيين عن بعضهم.
ومهما حاول الحوثي التبرير لممارساته، تبقى الحقيقة واضحة: كل اتفاق معه مجرد خدعة، وكل وعد ينقض، وكل عهد يخترق.
وقد صدقت هيومن رايتس ووتش حين قالت في تقريرها الأخير: كل تفاهم سياسي مع الحوثيين ينهار أمام نزعتهم المطلقة للسيطرة وتقديس السلالة على حساب الدولة والمجتمع.
إن تاريخ اليمن سيشهد أن الغدر الحوثي لن يدوم، وأن كل من اعتمد على الكذب والخيانة كمبدأ حكم سينهار في النهاية أمام صمود الناس، وإرادة الحرية، وإيمان اليمنيين بأن الوطن أكبر من كل مشروع يستبغضه.