لله ثم للتاريخ، هذا ما أحدثه الحوثيون في اليمن (18)
الحلقة الثامنة عشرة: الحوثي والصهاينة، عداوة مصطنعة وشعارات جوفاء
من يتأمل مسار التاريخ السياسي الحديث في المنطقة يدرك أن رفع شعار (العداء للصهاينة) كان بوابة للكثير من الجماعات والأنظمة التي اتخذته ستارا للهيمنة الداخلية، بينما الحقيقة أن المعركة لم تخض يوما مع الصهاينة بقدر ما خيضت ضد شعوب المنطقة نفسها.
والحوثي ليس استثناء، بل هو امتداد لهذا النهج الذي حمل في ظاهره معاداة إسرائيل، وفي باطنه سحق الأوطان.
التجارب التاريخية المماثلة أكبر شاهد على ذلك: فشعارات البعثيين في العراق وسوريا تم رفعها قديما تحت شعار : (تحرير فلسطين من البحر إلى النهر)، لكن الدبابات لم تتجه يوما إلى القدس، بل سحقت بها حماة وحلب وبغداد والكويت.
والنتيجة كانت تدمير مقدرات الدول، وإغراقها في الدماء، فيما ظل الصهاينة آمنين.
والنظام الإيراني بعد ثورة 1979م: صدعوا أسماع العالم بـ شعار : (القدس أولا) وشعار (يوم القدس العالمي)، لكن الحروب اندلعت في لبنان والعراق واليمن وسوريا، فامتلأت المنطقة بالمليشيات والطائفية، بينما لم تطلق حرب شاملة واحدة على دولة بني صهيون.
والقذافي في ليبيا: ظل يرفع شعار مواجهة الصهاينة لعقود، لكنه وجه جيشه لقمع الليبيين وتدمير مدنهم، واستمر حتى قامت عليه ثورة 2011م فانهار القذافي والوطن كله، وانقسم اليوم إلى دويلتين، ولم يتحرر شبر من فلسطين.
وهكذا يتبين أن الشعار عند هؤلاء لم يكن سوى أداة سياسية لتخدير الشعوب وإضفاء قداسة على الاستبداد.
ولهذا فالحوثي نسخة مكررة من التاريخ حيث جاء الحوثي على ذات النسق، يرفع شعار الموت لإسرائيل، بينما: يزرع الألغام في حقول اليمنيين بدلا من زرعها على حدود فلسطين ضد الصهاينة، ويهدم بيوت اليمنيين في تعز وصنعاء والمناطق اليمنية بدلا من هدم تحصينات الصهاينة في القدس وغزة، ويفرض الجبايات على التجار اليمنيين حتى أفلسوا، بينما التجارة العالمية مع الصهاينة مستمرة بلا انقطاع، ويطلق الصواريخ والطائرات المسيرة، لكن وجهتها غالبا على أبناء وطنه.
من يدفع الثمن؟
المزارع: الذي يرى أرضه وقد امتلأت ألغاما بدل أن تمتلئ قمحا.
التاجر: الذي أفلس بعد أن ضوعفت عليه الجبايات، بينما يقال له إن ذلك من أجل المعركة الكبرى مع الصهاينة.
الطفل: الذي فقد تعليمه بعدما تحولت مدرسته إلى ثكنة عسكرية.
المرأة: التي ترملت بعد أن أُرسل زوجها إلى جبهات عبثية.
الوطن: الذي تهاوت بنيته التحتية، من مطارات وموانئ وطرقات ومستشفيات، تحت ذريعة المعركة مع الصهاينة.
واللافت أن دولة بني صهيون نفسها لم تعلن يوما أنها في مواجهة عسكرية حقيقية مع الحوثي، سوى ان الحوثي يرسل بعض مسياراته أو صواريخه إلى دولة بني صهيون باسم الدفاع عن غزة، ولم تقتل جنديا صهيونيا واحدا، فيرد الصهاينة بسرب من طيرانه الحربي فيقتلون من الشعب اليمني ميئات القتلى ويجرحون الميئات، مع تدمير المطارات والطائرات المدنية والموانئ والسفن والبنية التحتية، بينما لو وجه الحوثي صواريخه وطائراته المسيرة على ابناء وطنه قتل عشرات الآلاف من اليمنيين، فكم قضوا في معارك شعارها فلسطين وواقعها اليمن.
وهنا يتجلى التواطؤ غير المباشر: شعار يثير الضجيج، لكنه لا يوجِع إسرائيل، بل يوجِع اليمن.
والحاصل: أن الحوثي والصهاينة وجهان لعملة واحدة، كلاهما يستخدم السياسة والشعار غطاء لتدمير الآخر:
الصهاينة يحتلون فلسطين ويهدمون بيوتها.
والحوثي يحتل اليمن ويهدم بيوتها.
الصهاينة يقولون: نحارب الإرهاب، وهم يقصفون الأبرياء.
والحوثي يقول: نحارب الصهاينة، وهو يقصف شعبه.
إنها المفارقة المريرة في تاريخ الأمة، أن يتحول الشعار المقدس إلى وسيلة دنسة، وأن يكون اسم فلسطين مجرد قناع لمشاريع باطنها تفتيت الأوطان. واليمن اليوم في أمس الحاجة لوعي جمعي يكشف زيف هذه الادعاءات، ويعيد البوصلة إلى مكانها الصحيح: عداوة الصهاينة لا تكون بالشعارات، بل بصدق الموقف، وعدالة الداخل، ووحدة الصف، وإعمار الإنسان والأرض.
والله من وراء القصد.