لله ثم للتاريخ، هذا ما أحدثه الحوثيون في اليمن(53)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
الحلقة الثالثة والخمسون: الحوثي ونهب مؤسسات ومصانع الدولة
لم يكن الهدف العسكري سوى بوابة لهيمنة اقتصادية شاملة.
فقد تمددت الأيادي الحوثية من مقار الوزارات إلى خزائن البنوك، ومن شركات الدولة إلى المصانع، حتى صار اقتصاد اليمن أسيرا في قبضة جماعة لا ترى في مؤسسات الوطن إلا غنائم حرب طويلة.
كانت شركة التبغ والكبريت الوطنية – كمران، ذلك الصرح الذي تأسس منذ سبعينيات القرن الماضي، أحد أكبر موارد الدولة من العملة الصعبة فما إن أحكم الحوثيون سيطرتهم على صنعاء، حتى أقالوا إدارة الشركة الشرعية وعينوا لجنة حارس قضائي تابعة لهم، لتتحول أرباحها منذ عام 2017 إلى خزائن الجماعة، وفق ما أكد بيان وزارة الخزانة الأمريكية الذي نص بالحرف: استولت جماعة الحوثي على شركة كمران واستخدمتها لتمويل أنشطتها العسكرية.
ثم امتدت يد المصادرة إلى شركة شبام القابضة (Shibam Holding)، وهي من كبريات الشركات العقارية والاستثمارية في اليمن.
كانت تملك مئات العقارات والمنشآت الحكومية، فحولها الحوثيون إلى مصدر تمويل خفي، تدار عائداتها بواسطة شخصيات اقتصادية موالية، بينهم صالح مسفر الشاعر، الذي وصفه تقرير الخزانة الأمريكية لعام 2021 بأنه المسؤول عن إدارة الأصول المنهوبة وتمويل عمليات الحوثيين.
وامتدت أياديهم إلى الثروة النفطية.
فقد أحكمت الجماعة سيطرتها على شركة النفط اليمنية في صنعاء، وحولت مكاتبها إلى إدارة احتكارية تستورد المشتقات من تجار محددين، بينهم شركات موالية مثل الفيقي الدولية ورويال بلس، المدرجتان في قوائم العقوبات الأمريكية لعام 2024 بتهمة تهريب النفط الإيراني عبر البحر الأحمر. كما استحوذت الجماعة على عائدات منشأة رأس عيسى وخطوط التوزيع المرتبطة بالناقلة صافر، لتتحول موارد الدولة النفطية إلى خزينة حرب لا تنضب.
وامتد النهب إلى القطاعات الإنتاجية الأخرى: فمصانع الأسمنت الوطنية في عمران والبرح صودرت، وأعيد تشغيلها بإدارة حوثية تحول أرباحها مباشرة إلى ما يسمى المجهود الحربي.
كما وضعت يد الجماعة على شركة الغزل والنسيج في صنعاء، ومصنع الأدوية الحكومي سبأ فارما، والشركة اليمنية للأسماك، والهيئة العامة للأراضي والعقارات، والهيئة العامة للتأمينات والمعاشات، وكلها مؤسسات كانت تمثل شريانا اقتصاديا للدولة والمجتمع، فتحولت إلى صناديق مغلقة في يد سلطة لا تعرف معنى المال العام.
ولم يقتصر التسلط على الداخل فحسب، بل نسج الحوثيون شبكة خارجية تمتد إلى شركات شحن بحرية في الإمارات وتركيا، مثل تايبا شيب مانجمنت DMCC (Tyba Ship Management DMCC) وأركان مارس بتروليوم DMCC (Arkan Mars Petroleum DMCC)، التي ذكرها بيان وزارة الخزانة الأمريكية عام 2024م ضمن الكيانات التي تستخدم لتهريب النفط وتمويل الجماعة بالعملة الصعبة.
وهكذا، لم تبق مؤسسة إلا وطالها العبث: من شركة الكهرباء إلى الخطوط الجوية اليمنية، ومن البريد إلى الاتصالات، ومن موانئ الحديدة إلى البنوك التجارية.
فكل شيء صار تحت إدارة اللجنة الاقتصادية العليا الحوثية، التي تصدر القرارات لا باسم القانون، بل باسم الولاية.
واليوم، وبعد أكثر من عقد من السيطرة، يمكن القول إن جماعة الحوثي لم تكتف بتدمير مؤسسات الدولة، بل أعادت تشكيلها وفق نموذجها الخاص: اقتصاد طائفي مغلق، يمول الحرب باسم الزكاة والخمس ونحوهما، ويفقر الشعب باسم الصمود.
لقد باتت اليمن كلها شركة محتكرة، ومديرها الأعلى في الكهف، ومجلس إدارتها من تجار الحرب.
وبينما يموت المواطن فقرا وجوعا، تكدس الجماعة مليارات الريالات في خزانة لا تفتح إلا لتغذية جبهات القتال.
إنها ليست حربا فقط على الأرض، بل حرب على اللقمة، على الأمل، على ما تبقى من روح هذا الوطن الذي ينهب في وضح النهار.