لله ثم للتاريخ، هذا ما أحدثه الحوثيون في اليمن(64)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
الحلقة الرابعة والستون: الحوثي والتهجير: سياسة الخوف واقتلاع الجذور
منذ أن وطأت أقدام جماعة الحوثي مدن اليمن، لم يكن سلاحها مقتصرا على الرصاص والمدفع، بل امتد إلى سلاح أشد قسوة: التهجير.
تهجير الإنسان من بيته وأرضه، وقلع جذوره من وطنه، وكسر صلته بالمكان الذي ولد فيه، وكأنهم يريدون أن يصنعوا من الوطن خرائط خاوية بلا وجوه ولا أصوات.
من دماج إلى سعوان، ومن صعدة إلى تعز، تتكرر المأساة نفسها بوجوه مختلفة.
يدخل الحوثي إلى المناطق آمنا فيخلفها خرابا، ويزعم أنه جاء ليحمي الدين، فإذا به يهدم بيوت العلماء وطلاب العلم، ويطارد المساجد والمدارس، كأن العلم عدوه الأكبر.
لقد بدأ التهجير من دماج، تلك البلدة التي كانت منارة للعلم وموئلا للقرآن، فحولها الحوثي إلى رماد.
أخرج طلاب العلم وكثيرا من أهلها من ديارهم، لا لذنب اقترفوه سوى أنهم قالوا: نريد أن نتعلم كتاب الله وسنة رسوله.
واليوم يعيد المشهد نفسه في سعوان بصنعاء، حيث يحارب المراكز العلمية، ويحاصر المساجد، ويطرد طلاب العلم تحت تهديد السلاح.
كل منطقة يدخلها الحوثي تشكو الوجع ذاته: وجع الخوف والرحيل.
فلا يرحم شيخا كبيرا، ولا يرق لامرأة، ولا يلتفت إلى طفل يرتجف من البرد أمام بيته المهدوم.
إنه مشروع قائم على اقتلاع الناس من أرضهم ليبقى هو وحده السيد، كما تفرغ الأرض من سكانها لتملأ بأتباعه.
يقول تقرير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة لعام 2024م إن جماعة الحوثي استخدمت سياسة التهجير القسري كأداة للسيطرة السياسية والطائفية، وإنها مارست ضغوطا ممنهجة على السكان لإجبارهم على مغادرة مناطقهم، خاصة المعارضين والمستقلين من العلماء والناشطين.
وما يقوله التقرير هو ما يراه الناس كل يوم على الأرض.
إن التهجير عند الحوثي ليس فعلا عسكريا عابرا، بل عقيدة وسلوك، يمارسها بوعي كامل.
فهو لا يريد وطنا يجتمع فيه الناس على كلمة سواء، بل يريد أرضا يسكنها الخوف، وقلوبا تسكنها الطاعة العمياء.
يعتقد أن تفريق الناس هو طريق لبسط النفوذ، وأن كسر إرادتهم هو طريق لدوام سلطته.
لقد دمر الحوثي البيوت ليبني على أنقاضها ممالكه، وهجر العلماء ليخلو له المنبر، وأرعب الناس حتى يسكت كل صوت لا يسبح باسمه.
ومن رفض أو اعترض، صنف عدوا، وأُدرج في قوائم التهجير، كما لو أن الوطن لم يعد يسع إلا من يهتف للزعيم.
تحت شعار الثورة، والمقاومة ترتكب أفعال لا تمت إلى الدين بصلة، ولا إلى المقاومة بوجه.
فأي مقاومة تلك التي تهجر أبناءها؟
وأي ثورة تخرج العلماء والمصلحين وتبقي الجهل والدم؟
إنها ثورة على الوطن نفسه، وعلى قيم المسلم قبل أن تكون على خصوم سياسيين.
لقد وثقت منظمات حقوق الإنسان الدولية أكثر من مائة حالة تهجير جماعي نفذها الحوثيون بين عامي 2015 و2024م، شملت قرى بكاملها، ومساجد، ومدارس، ومراكز علمية، ومنازل لعائلات لم تحمل سوى مصحف أو كتاب علم.
لكن التوثيق لا ينقل حجم الوجع كله، فكم من أم نامت على أطلال بيتها تبكي أبناءها الذين شردهم الجوع والخوف!
وكم من طالب علم وجد نفسه في العراء بلا كتاب ولا مأوى!
التهجير في فكر الحوثي ليس استثناء، بل قاعدة.
فهو لا يتعايش مع أحد، ولا يقبل شريكا في الأرض ولا في الفكر.
يريد من الجميع أن يكونوا صورة واحدة لوجهه، وصوتا واحدا لصرخته، وإلا فالمصير: الرحيل أو السجن أو الموت.
عنصر خبيث لا يعيش إلا في بيئة مغلقة، لا تحتمل التنوع ولا تسمح بالتعدد، كأن الحياة عنده لا تزدهر إلا إذا أُطفئت أنوار الآخرين.
إنه لا يهجر الأجساد فقط، بل يهجر القيم، ويقتل روح الوطن.
يهجر التعايش، ويهجر العلم، ويهجر الأخلاق.
يترك وراءه أرضا خاوية من المعنى، ووطنا يئن من الداخل.
وحين تسأله عن السبب، يجيبك بلغة الشعارات عن مقاومة العدوان، بينما عدوانه هو الذي ينهش اليمن من أطرافها.
في زمن الحوثي صار البيت خطرا، والمسجد تهمة، والمدرسة جريمة.
وصار العلم سببا للهجرة، بعد أن كان سببا للبقاء.
يريد أن يبقى اليمني بلا فكر، وبلا تاريخ، وبلا ذاكرة، لأن الذاكرة تعني الجهاد، والعلم يعني الوعي، والوعي عنده هو العدو الأول.
لكن اليمني لا يموت بالتهجير.
فقد جبل على الصبر، وعلى أن يبني من رماده وطنا جديدا.
خرج أهل دماج، لكن العلم الذي حملوه لم يطفأ، بل انتشر في الأرض.
وهكذا سيخرج المهاجرون من سعوان، لكنهم سيحملون معهم النور الذي لا يطفأ بمدفع ولا بقذيفة.
لقد أراد الحوثي أن يفرغ اليمن من علمائها، فإذا باليمن يمتلئ بصوتهم في كل مكان.
أراد أن يقتل الوعي، فإذا بالوعي يخرج من بين الركام.
أراد أن يزرع الخوف، فإذا بالقلوب تصرخ بالثبات.
إن التهجير جريمة لا تسقط بالتقادم، وسيسجل التاريخ أن هذه الجماعة لم تكن يوما مشروع دولة، بل مشروع طرد، وخراب، ونفي.
وسيذكر أن اليمنيين حين واجهوا التهجير، لم يحملوا الحقد، بل حملوا الوطن في قلوبهم.
وسيأتي اليوم الذي تعود فيه البيوت عامرة بحول الله وقوته، والمراكز العلمية مفعمة بالعلم والذكر، ويعود اليمن كما كان: وطنا يسع الجميع، لا يطرده أحد ولا يفرقه أحد.
وحينها سيعرف الحوثي أن من يهجر الناس إنما يهجر نفسه من صفحات التاريخ، وأن كل بيت هدمه سيبنى من جديد، وكل طالب علم طرده سيعود معلما، وكل صوت أسكته سيعود صدى للحق.
فالوطن لا يمحى بالتهجير، والحق لا ينفى بالسلاح، واليمن وإن طال ليله، ففجره قادم بإذن الله.