الحديث المُدَلَّس وأحكامه
الحلقة (21)
بقلم الدكتور : صادق بن محمد البيضاني
ما زال الحديث عن أقسام المردود بسبب السقط، وإليكم القسم الخامس والأخير الذي بسبب السقط:
الخامس: المُدَلَّس
وهو قسمان: تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ.
قال الحافظ ابن جماعة في المنهل الراوي: فالأول تدليس الإسناد: وهو أن يروي عَمَّنْ لقيه أو عاصره ([1])ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه، ولا يقول أخبرنا وما في معناه ونحوه بل يقول: قال فلان أو عن فلان أو أن فلاناً قال وشبه ذلك، ثم قد يكون بينهما واحد وقد يكون أكثر.
وهذا القسم من التدليس مكروه جداً، وفاعله مذموم عند أكثر العلماء ومَنْ عُرِفَ به مجروح عند قوم، لا تقبل روايته بَيَّنَ السماع أو لم يبينه.
والصحيح التفصيل في ما بَيَّنَ فيه الاتصال بـ: سمعت وحدثنا ونحو ذلك فهذا مقبول، وفي الصحيحين وغيرهما منه كثير، وذلك لأن هذا التدليس ليس كذباً ما لم يبين فيه الاتصال، بل لفظه محتمل فحكمه حكم المرسل ([2])، إذا لم يثبت التصريح ولو في رواية أخرى.
وظاهره أن ابن جماعة لا يفرق بين تدليس الإسناد والمرسل الخفي، والصحيح التفريق.
قال الحافظ في النزهة: "والفرق بين المدلَّس والمرسل الخفي دقيقٌ حصل تحريره بما ذُكِر هنا: وهو أن التدليس يختص بمن روى عَمَّنْ عُرِف لقاؤه إياه، فأما إن عاصره، ولم يعرف أنه لقيه، فهو المرسل الخفي.
ومن أدخل في تعريف التدليس المعاصرة، ولو بغير لُقي، لزمه دخول المرسل الخفي في تعريفه، والصواب التفرقة بينهما ([3])اهـ ، ثم أخذ الحافظ يدلل على ذلك.
قلت: والمرسل الخفي وكذا المدلس ينجبر ويعضد بمثله ونحوه في المرتبة إن وجد له شاهد أو متابع، ما لم يكن المدلِّس ِممَّنْ احْتُمِلَ سماعه فإن كان كذلك فحديثه حجة ، وهو مرتبتان عند الحافظ في طبقاته:
الأولى: مَنْ لم يوصف بذلك إلا نادراً كيحيى بن سعيد الأنصاري.
الثانية: مَنِ احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته، وقلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة.
فائدة:
قال الحافظ في الطبقات: الثالثة: "مَنْ أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم مَنْ رَدَّ حديثهم مطلقاً، ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي، قلت: والصحيح أنه يحتج به إذا صرح ولو في رواية أخرى كما تقدم.
الرابعة: مَنِ اتُّفِقَ على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء، والمجاهيل كبقية بن الوليد، وهذا في تدليس التسوية، وقد تقبل الرواية بشرط التصريح في كل السند أو جله كما سيأتي بيانه.
الخامسة: مَنْ ضُعِّفَ بأمر آخر سوى التدليس فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع إلا أن يُوَثَّقَ من كان ضَعْفُه يسيراً كابن لهيعة" اهـ
قلت: والأخذ بهذه المراتب أسلم لطلبة الحديث حتى لا يحصل الخلط.
القسم الثاني: تدليس الشيوخ وهو أن يسمي شيخاً سمع منه بغير اسمه المعروف، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لم يشتهر به كي لا يعرف وهذا أخف من الأول.
وتختلف الحال في كراهيته بحسب اختلاف القصد الحامل عليه، وهو إما لكونه ضعيفاً أو صغيراً أو متأخر الوفاة أو لكونه مكثراً عنه فيكره تكراره على صورة واحدة وهو أخفه.
وقد جرى عليه المصنفون وتسامحوا به، وأكثر الخطيب منه.
إلا أنه لا بدَّ من النظر في هذا الشيخ الذي حصل به التدليس.
والبحث عن اسمه ليعرف حاله، فإن كان مقبول الرواية قبل حديثه، وإن كان دون ذلك فمردود، وينظر هل سمع أم لم يسمع، ثم يحكم على روايته بما تستحق.
وهناك نوعان من التدليس مشهوران وهما يندرجان تحت تدليس الإسناد:
الأول: تدليس التسوية: وهو إسقاط ضعيف بين ثقتين سواء سمع أحدهما من الآخر أم لا – وأعني أنه عاصره – ومن مشاهير من عرف بذلك الوليد بن مسلم، وهذا نوع قبيح إلا أنه لا يعد جرحاً للراوي، ولكن لا تقبل روايته إن كان ثقة حتى يصرح بالتحديث إلى تلميذ طرف الخبر – أي يصرح بالتحديث عن شيخه وشيخ شيخه، وهكذا إلى منتهاه ما لم يكن الحديث قد جاء من طريق آخر صحيح أو حسن، فيه التصريح الذي لا يحتمل غيره.
الثاني: تدليس السكوت: وهذا قبيح أيضاً إلا أن الأول أقبح وهذا محتمل.
وتعريفه: أن يحدث الراوي فيقول: مثلاً حدثنا أو أخبرنا فيسكت ثم يقول: فلان وهكذا، فسكوته قد يفيد أنه تكلم في نفسه بشيء لا يفيد أنه سمع ممن حدث عنه، وإنما بواسطة راوٍ آخر، أو أنه نفى أن يكون حدثه من تفوَّه به عندما قال: حدثنا.
ولتوضيحه كأن يقول الراوي علانيةً حدثنا: فيسكت، ويقول في نفسه مثلاً ما حدثنا ثم يقول: هشام وهكذا، ومعناه أنه ما سمع هذا الحديث من هشام، وإنما سمعه من غيره، ففيه شيء من الانقطاع، وقد يكون سمعه بالفعل إلا أنه يشك فيه بسبب سكوته، وممن عرف بذلك عمر بن علي بن عطاء المقدمي وهو من رجال الكتب الستة.
قال الحافظ في تهذيب التهذيب: "قال ابن سعد: كان ثقة ، وكان يدلس تدليساً شديداً يقول سمعت وحدثنا ثم يسكت، فيقول هشام بن عروة والأعمش، وقال: كان رجلاً صالحاً ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس، وأما غير ذلك فلا ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا.
وقال أبو حاتم: محله الصدق ولولا تدليسه لحكمنا له إذا جاء بزيادة غير أنا نخاف أن يكون أخذه عن غير ثقة"([4]) اهـ
وهذا النوع والذي قبله ينبغي أن يتوقف في رواية مَنْ عرف به حتى ظهور الشاهد أو المتابع، والله أعلم
فائدة: هناك تدليسان آخران وهما: تدليس العطف والقطع وكلاهما من تدليس الإسناد أيضاً.
قال الحافظ في الطبقات: "تدليس القطع وهو أن يحذف الصيغة ويقتصر على قوله مثلاً الزهري عن أنس.
وتدليس العطف: وهو أن يصرح بالتحديث في شيخ له، ويعطف عليه شيخا آخر له، ولا يكون سمع ذلك من الثاني" اهـ.
انتهت أقسام الحديث المردود بسبب السقط.
وفق الله الجميع لطاعته، وألهمهم رشدهم.
([1]) لا يقال: أو عاصره حتى لا يقع الخلط بينه وبين المرسل الخفي، فالخفي لا تلزم فيه اللقي بخلاف المدلَّس.
([2]) محمد بن إبراهيم بن جماعة، المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي، تحقيق: محيي الدين عبد الرحمن رمضان، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية، 1406هـ ، (ص72).
([3]) ابن حجر العسقلاني، نزهة النظر شرح نخبة الفكر، مصدر سابق، (ص114).
([4]) أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، تهذيب التهذيب، دار الفكر، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1404هـ ، 1984م ، (7/ 427).