الخميس 17 ذو القعدة 1446 هـ || الموافق 15 ماي 2025 م


قائمة الأقسام   ||    مختصر المنتقى من الفتاوى وزياداته    ||    عدد المشاهدات: 5862

كلمة توجيهية لأهل ليبيا
بقلم الدكتور: صادق بن محمد البيضاني


س 614: بارك الله فيكم شيخنا: نرجو من فضيلتكم التكرم بكلمة توجيهية لإخوانكم وطلابكم في الجمهورية الليبية، جعل الله ذلك في موازين حسناتكم؟

ج 614: ننصح إخواننا في ليبيا بأمور عدة:
الأمر الأول: الحذر من الاختلاف؛ فقد ثبت عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عند أبي داود وغيره أنه قال: "الخلاف شر"(1)، وذلك لأن الاختلاف بين طلاب العلم سبب من أسباب تفرق الأمة، وسبب من أسباب ضعف الإيمان، وربما أن الشخص قد يطلب العلم فيجمع شيئاً من العلم، ثم بعد ذلك ينساه لانشغاله بالاختلاف وما لا طائل منه، وقد جاء في صحيح البخاري  من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ"(2)، فاحذروا الاختلاف.

الأمر الثاني: لا تشغلوا أنفسكم بالخلاف الواقع بين العلماء، فإذا اختلف عالمان فلا يتحزب مجموعة من الطلاب لعالم دون الأخر، وعليكم أن تعرفوا لعلمائكم حقهم؛ فقد جاء في مسند الإمام أحمد والحديث حسن، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنهما - وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، ويعرف لعالمِنا حقه"(3).

وما دام أن علماءكم على العقيدة الصحيحة والمنهج القويم، وحصل بينهم اختلاف في وجهات النظر في مسائل شرعية معاصرة أو غير معاصرة، فينبغي للجميع أن يعرفوا  لهم قدرهم، وألا ينشغلوا بالكلام في هذا الخلاف، ولا مانع أن ينقل بعضهم ويقول: قال فلان، وقال فلان، ولكن لا يكون هذا حديثه في كل المجالس، فللأسف أن بعض الطلاب يتطور عنده الخلاف إلى درجة التعصب؛ فيتكلم على العالم الفلاني المخالف لشيخه، ويتحزب له، ثم بعد ذلك إذا به يتحول وكأنه إمام في الجرح والتعديل، وهو لا يعرف كوعه من بوعه، ربما أنه ما زال جديدَ عهدٍ باستقامة، فضلًا عن أن يكون جديد عهد بطلب علم، وإذا به صار مجرِّحاً ومعدِّلاً، ويقول: العالم الفلاني ضال، وربما لا يقول العالم الفلاني، بل يستصغره ويقول (فلان)، وسابقاً كان يقول له (فضيلة الشيخ العلامة)، ويقول شيخُنا، ثم بعد ذلك يقول (فلان) من باب الاستهتار والنقيصة، ثم يقوم بلمزه وبتجريده عن السنة، وبالكلام فيه، فأي أدب هذا، وأي خلق، وأي تربية؟!  - هذه غيبة، والعياذ بالله.
ثم اعلموا أن شروط المجرح أربعة؟!، وأنت يا من تجرح في أهل العلم، انظر هل اجتمعت فيك هذه الشروط الأربعة: 

الشرط الأول: أن يكون المجرح عالمًا ورعاً تقياً، فهل أنت عالم، وهل أنت ورع، وهل أنت تقي؟، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

الشرط الثاني: أن لا يكون التجريح عن تعصبٍ وهوى؛ إذ يغلب اليوم فيمن يجرح أنه عن تعصب للمشايخ.

الشرط الثالث: أن يكون عالماً بأسباب الجرح، يعني: أن يكون قد ألمّ بقضية من سيتكلم فيه، لماذا قيل في فلان كذا...؟

نحن الآن إذا اختلفنا في قضية من أمور الدنيا ذهبنا إلى القاضي، فقال القاضي: يا فلان هات ما لديك من الوثائق، وقال للثاني: هات ما لديك من الوثائق، فيطلع عليها القاضي ربما لأيام وربما لشهر أو أكثر ثم يحدد الجلسة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، وربما لا يفصل القاضي إلا بعد زمن متأخر؛ فتارةً بعد شهرين أو ثلاثة، وربما بعد خمس سنوات، وهذا في ما يتعلق بأمور الدنيا، فكيف في ما يتعلق بالآخرة، وكيف بالذي يتعلق بالدين؟، ما أعجل بعض الإخوان، وما أسهل الحكم منهم على غيرهم! 

ما أسهل أن يقول: فلان ضال وفلان مبتدع، من أنت حتى يكون لك رأي أو يكون لك قول!؟، هذا هو التعصب الممقوت، والظلم الذي لا يحل.

الشرط الرابع: أن لا يكون المتكلم قرينَ من يجرّح ويتكلم فيه.   

فقد ذكر جماهير المحدثين بأنه إذا كان الطالبُ طلبَ العلم عند شيخٍ ومعه تلميذٌ آخر، فلا يقبل كلام الطالب في التلميذ الآخر، وذلك لأنه ربما يكون الدافع الحسد، والحسد موجود عند العلماء، ومن باب أولى أن يكون عند طلاب العلم.

وأكرر عليكم هذا الأمر، وهو أن تعرفوا لعلمائكم حقهم.

الأمر الثالث: أن تحافظوا على طلب العلم؛ فلولا العلم لما عرفنا الحلال والحرام، وقد صدق الشاعر حين قال:

رَأَيْتَ العِلْمَ صَاحِبُهُ كَرِيم
ولو ولدتهُ آباءٌ لئامُ
ليسَ يزالُ يرفعهُ إلى أن
يُعَظِّمَ أمرَهُ القَومُ الكِرامُ
وَيَتَّبِعُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ
كراعي الضأنِ تتبعهُ السَّوامُ(4)
فَلَولاَ العِلْمُ مَا سَعِدَتْ رِجَالٌ
ولا عرفُ الحلالُ ولا الحرامُ(5)

فطلب العلم هو الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : "من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة"(6).

 فحافظوا على طلب العلم؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول - كما في جامع الترمذي وغيره - : "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا؛ إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِر"(7).

وقال الله - عز وجل - : "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"(8).

فأنتم إذا طلبتم العلم حصلتم على السيادة، وعلمتم الناس، أما إذا بقيتم جهالاً، فلا سيادةَ ولا قيمة لكم، فاطلبوا العلم وانتفعوا وانفعوا الناس، فإذا فعلتم ذلك كنتم سادةً في الميدان.

الأمر الرابع: أنصح إخواني في ليبيا أن يبتعدوا عن الفتن؛ فقد جاء في سنن أبي داود وغيره قولُه - صلى الله عليه وسلم - : "إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن"(9)، فلا تتدخلوا فيما لا يعنيكم، ألا يكفي ما حصل في ليبيا؟، واعلموا أن هناك أيادي خفيةً تلعب وتفسد وتفرق الأمة، بدأوا لهم بثورة الربيع العربي بتدبير أمريكي أوربي صهيوني يمزق الأمة، فذهب القذافي، ثم بعد ذلك كان الحال بعده أسوأ مما كنا نتوقع، حتى وإن كانت المساجد قد فتحت على مصراعيها وانتشر الخير، لكن للأسف لا يوجد استقرار ولا أمن، وقد كثر القتل في مثل هذه الأيام، وتسلح البدو والقبائل، وكثرت المفاسد، حتى صار بعض رجال الدولة لا يأمنون على أنفسهم أن يذهبوا إلى المساجد خصوصًا لصلاة الفجر، لذلك يا طلبة العلم كونوا بعيدينَ عن الدخول والخوض في الفتن، وكونوا ناصحين ومرشدين، فنحن لا نقول: اعتزلوا الناس، بل ابرزوا في المساجد وناصحوهم ووجهوهم سواء في المساجد أو غيرها، لكن بالحكمة والعلم واللين والحلم وبالتي هي أحسن: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"(10).

جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة –رضي الله عنها - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ في شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ» (11)، فانتبهوا لهذه التوجيهات.

وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعل أعمالي وأعمالكم خالصة لوجه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــ
([1]) أخرجه أبو داود في "سننه" [كتاب المناسك - باب الصَّلاَةِ بِمِنًى (2/145 رقم 1962)] من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - موقوفًا.
([2]) أخرجه البخاري في "صحيحه" [كتاب الرقاق - باب ما جاء في الصحة والفراغ وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، (5/2357 رقم 6049)].
([3]) أخرجه أحمد في "المسند" (37/416 رقم 22755)، والحاكم في المستدرك [كتاب العلم - فصل في توقير العالم.. (1/211 رقم 421)]، من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وجاء في حديث آخر مروي عن ابن عباس كما أخرجه الطبراني في الكبير: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لنا حقنا».
([4]) الماشية التي لا تعلف.
([5]) الأبيات للإمام الشافعي - رحمه الله -، انظر ديوانه ص (107) "مصدر سابق".
([6]) أخرجه مسلم في "صحيحه" [كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (4/ 2074 رقم 2699)].
([7]) تقدم تخريجه
([8]) سورة الزمر: (9).
([9]) أخرجه أبو داود في "السنن" [كتاب الفتن، باب في النهي عن السعي في الفتنة (4/164 رقم 4265)] من حديث المقداد بن الأسود.
([10]) سورة النحل: (125).
([11]) تقدم تخريجه.




اقرأ أيضا



للتواصل معنا

فايس واتساب تويتر تلغرام