لله ثم للتاريخ، هذا ما أحدثه الحوثيون في اليمن(26)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
الحلقة السادسة والعشرون: الحوثي وتبعية المسجد
لم يكن المسجد في تاريخ اليمن مجرد بناء للعبادة، بل كان دائما القلب النابض للحياة الدينية والاجتماعية، ومنبرا لتعليم الناس وتوحيد صفوفهم، ومأوى للمصلحين والعلماء.
لكن هذا الدور العريق تعرض لتشويهٍ ممنهج منذ أن بسط الحوثيون سيطرتهم على مؤسسات الدولة، فجعلوا المسجد تابعا لمشروعهم الطائفي.
ففي الفكر الحوثي، المسجد ليس بيتا لله، بل أداة من أدوات السيطرة.
يخضع في مناطق نفوذهم لإشراف مباشر من المشرفين الثقافيين الذين يراقبون الأئمة والخطباء والمصلين معا.
يتم تعيين الأئمة والخطباء بقرارات حزبية طائفية لا بمعايير علم أو تقوى، وتدار الجوامع كأنها مؤسسات حزبية صغيرة، لكل منها مسؤول إداري وأمني وثقافي، يتبع في النهاية للقيادة العليا للجماعة.
تفرض في المساجد دروس أسبوعية مأخوذة من ملازم حسين الحوثي، وتمنع حلقات العلم الشرعي المستقلة التي لا تخضع لإشراف الجماعة. حتى الدروس في العقيدة والفقه والحديث والتفسير أصبحت تمر عبر فلترة فكرية، تحذف منها كل رواية أو أثر لا يتوافق مع عقيدة الولاية، ويفسر القرآن وفق رؤية سلالية محصورة، تعلي من شأن البيت وتنقص من قدر بقية الأمة.
لم تتوقف تبعية المسجد عند الفكر والتعليم، بل امتدت إلى الإدارة والمال.
فكل تبرع أو صدقة أو أوقاف تجمع من المساجد تدار عبر لجان حوثية تحولها إلى صناديق الجماعة تحت عناوين مثل المجهود الحربي أو دعم الجبهات.
وبذلك فقد المسجد استقلاله الشرعي، وصار مصدرا للتمويل لا للبركة.
أما الأئمة، فصاروا موظفين في جهاز سياسيّ صارم، يحاسبون على الكلمة والنغمة والنظرة.
الإمام الذي يرفض الصرخة يقصى، والذي يعترض على المنهج يعتقل، والذي يلتزم الحياد يستبدل بآخر أكثر ولاء.
وهكذا أُطفئت أصوات العلماء الحقيقيين، وحل محلهم خطباء جدد لا علم لهم ولا أثر، يرددون ما يملى عليهم، ويغرسون في الناس مفاهيم الانقياد والطاعة العمياء.
تحت هذا الواقع، تغيرت طبيعة المسجد في المجتمع اليمني.
لم يعد مكانا يتربى فيه الإيمان، بل أصبح مساحة للرقابة والتجنيد، ترصد فيها المواقف وتقاس فيها الولاءات.
ومن يكثر من الحضور يعتبر مؤيدا، ومن يغِب يتهم بالحياد أو بالتخاذل.
حتى الصلاة الجماعية لم تسلم من التوظيف، فصارت الجماعة تستغل لإيصال الرسائل السياسية وإظهار وحدة الصف الحوثي أمام العامة.
ولأن المسجد عندهم وسيلة لا غاية، فقد جرى إخضاعه لمنطق التبعية المطلقة.
كل شيءٍ فيه - من الخطيب والخطبة إلى الدرس إلى المحاضرات والمواعظ - يجب أن يصب في خدمة الجماعة. فالمساجد لم تعد بيوتا لله تدار بأهل التقوى، بل مراكز تعبئة فكرية منظمة تعمل على صناعة الجيل الحوثي الجديد، وإعادة تشكيل وعيه من منطلق طائفيّ ضيق لا يرى في الإسلام إلا أداة شرعية لسلطة السلالة.
تدريجيا، بدأت نتائج هذه السياسة تظهر بوضوح؛ انكمش دور المسجد، وتراجعت مكانته في النفوس، وأصبح كثير من الناس يتجنبون حضور دروسه ودعواته، بعدما أدركوا أن روح العبادة غابت عنه، وأنه لم يعد كما كان: بيتا لله وحده.
لقد حول الحوثي المسجد من دار عبادة إلى قيدٍ على العقول، ومن موقع وحدة للصف إلى أداة للفرقة، ومن منارةٍ للعلم إلى منبر للجهل، ففقد المسجد في ظله هيبته ومكانته.
ومع ذلك، يبقى الأمل قائما بأن تعود المساجد إلى حقيقتها الأولى: بيوتا يذكر فيها اسم الله، لا مجالس سياسية تدار فيها ملفات الحرب.
فالمسجد في وعي الأمة سيظل أقدس من أن يختزل في مشروع فئوي عابر، وأعظم من أن يستعبد لمن يرفع شعارات زائفة باسم الدين.
يقول الله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا).