لله ثم للتاريخ، هذا ما أحدثه الحوثيون في اليمن(43)
بقلم الدكتور صادق بن محمد البيضاني
الحلقة الثالثة والأربعون: الحوثي والزيدية: من فقه الاعتدال إلى طائفية الحقد والثأر
كانت الزيدية عبر القرون مذهبا فقهيا له سماته الخاصة في الفقه والاجتهاد، نشأ في أحضان فقهائه، وهو نسبة لزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ونجد مذهبه مستنسخا من مذهب الأحناف في الجملة أصولا وفروعا غير انه في كثير من الفروع يستند إلى أقوال وآثار آل البيت.
ولم يكن زيد بن علي إماميا غاليا ولا متطرفا، وكان معتزليا في بعض المسائل، وأقرب في بعض أصوله إلى أهل السنة منه إلى الشيعة الاثني عشرية، وقد خالفهم في مسأئل منها: العصمة والإمامة، ورفض القول بغيبة الأئمة ووراثة الإمامة بالنص، وكان يترضى على الصحابة، ولما قيل له: ما تقول في أبي بكر وعمر؟، قال: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يتبرأ منهما، وإنما خرجت على الظلم، فغضب بعض الشيعة وغادروه، فقال كلمته المشهورة:رفضتموني!.
ومن هنا سمّي من تبعه بالزيدي، ومن تركه بالرافضة.
وقد عرفت اليمن الزيدية منذ القرن الثالث الهجري، حين دخلها الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، فأسس في صعدة نواة الدولة الزيدية التي امتدت قرونا. وكان أغلب أئمة الزيدية قديما أصحاب علم وزهد واجتهاد، يقيمون دولتهم على فقه اجتهادي، لا على تكفير ولا على سب ولا على حقدٍ طائفي.
ولذلك عاش أهل اليمن قرونا طويلة في ظل الزيدية متعايشين مع المذاهب الأخرى؛ من شوافع وسنة، دون أن تراق الدماء باسم المذهب.
وكان فكر الزيدية من ذوي السلطان أقرب إلى فقه سياسيٍ يحكم الواقع، لا إلى لاهوت غارق في المآتم واللعنات.
هذه الروح الزيدية المعتدلة كانت دائما مهددة ببذور فكر متطرف داخل المذهب نفسه، فإن فكر الجارودية، أحد فروع الزيدية العقائدية اقتربت من غلو الإمامية، فزعمت أن الصحابة ظلموا آل البيت وأن الحق حجب عنهم.
وكانت هذه مقدمة فكرية تشبه الخط الأول في طريق التطرف، والتي انبثق عنها السفاح عبدالله بن حمزة الذي الذي ارسل أخاه يحيى بن حمزة بجيش كبير إلى (قاعة) إحدى قرى مديرية سحار بصعدة وأمره بقتل علماء المطرفيين الذين حضروا لمناظرته فقتلهم جميعا، ثم امر أخاه وجيشه أن يقتلوا كل من يعرف من المطرفية وتخريب قراهم وإحراق مزارعهم، فقتل عشرات الآلاف من الناس، وأحرق عشرات القرى، وخرب آلاف البيوت، في مذبحة تاريخية، وفي إحدى المرات أرسل أخاه يحيى إلى صنعاء التي تركها الأيوبيون لانشغالهم باليمن الأسفل، فأسر منها ستمائة امرأة بأمر وموافقة أخيه الإمام عبد الله قاتله الله، وخرج بهن إلى قاع طيسان بصنعاء، فقسمهمن بين رجاله الذين شاركوه في أسرهن.
لقد جاء حسين بدر الدين الحوثي بدكتاتورية شيعية جمعت ما بين الفكر الإثني عشري الرافضي والفكر الجارودي، فلم يكن امتدادا لفقه زيد بن علي، بل كان امتدادا لعمامة قم ومشروع الولي الفقيه، بعدما تلقى دورات عقائدية وسياسية في طهران، وهناك امتلأ صدره بضلالات الخميني التي ترى العالم ثنائية من مستضعفين ومستكبرين، ومن ثورة وعدو، ومن موت ونصر، حتى غلب على خطابه الطابع الثأري المظلم.
ومن رحم تلك المرحلة اخرج شعاره الذي صار هوية لجماعته: (الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام).
وما بين كلمات الشعار تكمن الحقيقة المرة: أن الجماعة لم تكن تهتف لله ولا للإسلام، بل لمشروع فارسي تسلل إلى اليمن تحت عباءة آل البيت، يعيد إنتاج فكر الخميني بمفردات يمنية جديدة.
لقد حول الحوثي المذهب الزيدي من مدرسة فقهية إلى أداة سياسية، ومن عبادة الله إلى عبادة الثورة والسيد، ومن فقه العدل إلى فقه الحقد والثأر.
إن الزيدية التي عرفت في عصور الأئمة، كانت تنبذ الغلو وتدعو للتعايش، حتى إن علماءها الكبار ـ كالقاسم بن إبراهيم والهادي يحيى بن الحسين ـ لم يعرف عنهم لعن ولا سب ولا دعوة للقتل.
لكن حسين الحوثي أحيا فكر المجرم عبد الله بن حمزة وفكر أخيه السفاح يحيى بن حمزة الذي سفك دماء المطرفية، ذاك الفكر الذي يرى في المخالف خصما يجب القضاء عليه، فالتقى فكره بفكر الخميني في إيران، الذي يرى الموت طريقا إلى النصر، والدم وقودا لتمكين المذهب.
لذلك يظهر جليا: أن الفرق بين الزيدية والحوثية كالفرق بين مدرسة العلم ومدرسة العنف؛ فالزيدية في أصلها مذهب فقهي، بينما الحوثية مشروع فارسي إرهابي بلباس يمني.
لقد تسلل الفكر الإيراني إلى صعدة كما يتسلل السم في العروق؛ شيئا فشيئا حتى اختلطت العقيدة بالسياسة، وغاب الفقه وبقيت الشعارات.
وباتت صعدة نسخة مصغرة من قم، واللطم في عاشوراء مشهدا دخيلا على بيئة لم تعرفه من قبل، كما ارتفعت رايات الصرخة في أرضٍ كانت يوما دار علمٍ وزهد وكرم.
لقد كان من المؤلم أن يختطف اسم الزيدية ليمثل فكرا إرهابيا لا يمت إليها بصلة.