ما هو ضابط التشبه بغير المسلمين؟
بقلم الدكتور: صادق بن محمد البيضاني
س 290: سمعت أن لبس البنطلون والقميص والبدلة والكرافتة - من لبس الكفار وأن هذا يعتبر تشبهًا بالكفار فكيف هذا؟ وهل للمسلم لباس معين، وإذا كان الوضع كذلك، فلماذا نستعمل اختراعات الكفار بدون ذكرها لأنها كثيرة وهي في حياتنا كلها من أفكار واختراع الكفار وتم صنعها بأيدي الكفار في بلاد الكفار وفي مصانع الكفار - فكيف يكون استخدام هذه الاختراعات حلالًا ونقول في الملابس أنها تشبه بالكفار، أليس استخدام مثل هذه الأدوات أيضا تشبهًا بالكفار لأنها من صنعهم وأفكارهم وإذا كان الحكم غير ذلك، فلماذا الملابس تشبه بالكفار واستخدام اختراعاتهم ليست تشبهًا بهم وكلاهما نستخدمه في الحياة؟
ج 290: ليس كل لباس صنعه أهل الكفر ولبسه المسلمون يعد تشبهًا بهم، ولكن لا يعني هذا أنه يجوز لبس كل شيء صنعه أهل الكفر، والقاعدة في هذا الباب: أن كل لبس حرمه الشرع أو كرهه واعتاده أهل الكفر فهو في حق المسلمين من التشبه مع كونه محرمًا أو مكروهًا شرعًا.
وعلى سبيل المثال: أخرج الشيخان عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة" ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أكسكها لتلبسها" فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخا له بمكة مشركًا([1]).
فالحديث فيه دلالة على أن من الثياب ما لا يحل شرعًا لكونه تشبهًا بالأعداء أو كونه من لبسهم بمعنى أن للباس علاقة بالدين.
ولذا أجمع علماء الإسلام على تبويب باب اللباس أو كتاب اللباس في الفقه ولم يخالف أحد ليعدوا اللباس من الدين رغم أنه في أصله من الأمور المباحة لولا الواجب منه والمحرم والمكروه ونحوه مما له تعلق بالشرع، وذكروا في هذا الباب أنواعًا عدة من الثياب التي لا يجوز لبسها لكونها من ثياب الكفار التي نهى عنها الشرع أو لكونها شابهت ما عليه أهل الكفر فكانت أشبه بثيابهم.
فحرمها أهل العلم أو كرهها من باب التشبه عملًا بما ثبت عند أبي داود وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"([2]).
إذن فليست الثياب من مطلق المباح ولكنها تختلف من نوع لآخر، فإن عارضت نصًا شرعيًا أو أشبهت ثياب أهل الكبر أو نافت شخصية المسلم المعهود بزيه فلا تحل إما للنهي المحض وإما لكونها من التشبه الظاهري لأهل الكفر - التشبه الذي ينافي الشخصية الإسلامية ـ فلبس البنطال الواسع والكرفته والبدلة غير الضيقة صارت كلها اليوم من لباس عموم المسلمين لكن لو أنها أظهرت مفاتن الشخص بسبب ضيقها أو شعاراتها المخلة لم يجزه شرع أو عرف معتبر بل هو من التشبه بالأعداء.
فمتى كان المسلمون المتدينون رجالًا يتباهون بلباس الكفار الذي يفتن نساءهم بسبب هذه البناطيل التي تظهر مقاطع ومفاصل الرجل ومفاتنه والتي هي ثياب الكاسي العاري - كاسي لأن عورته لا تظهر جلية وعاري لأن ملامحها يبين بواطنها.
لقد أبدلنا الشرع عنها بالسراويل وهي شبيهة بالبنطال لكنها فضفاضة واسعة فهذه جائزة اللبس.
ولذا أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: "من لم يجد الإزار فليلبس السراويل ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين"([3]).
لكن نحن إلا من رحم الله استبدلنا السراويل بجواز لبس البنطال وهذا ليس من الدين في شيء، وعليه فيلزم المسلم المتعقل أن يقف حيث وقف الدليل ولا يتعداه.
نعم يقول الفقهاء الأصل في العادات الإباحة لكنهم قيدوا ذلك بألا تكون العادة مذمومة شرعًا، فإن ذمت شرعًا فقد استقلت بحكم مستقل وليست من العادات.
وهذا يعني أن ما لبسه أهل الكفر لا يدل على حرمته إلا ما نافى ما عليه الشرع كراهة أو حرمة.
وقد قال بعض الأحناف ما اشتهر من الثياب بين المسلمين وهو من زي الأعداء فلا يعد تشبهًا، لكن هذا ليس على إطلاقه بل يقيد أيضًا بالقيد السابق أي بشرط ألا ينافى ما عليه الشرع كراهة أو حرمة.
والحاصل كل لبس أذن به الشرع أو سكت عنه مما ليس فيه تشبه بالأعداء فهو جائز، وما دونه فحسب ما سبق توضيحه.
وأما قول السائل: فلماذا نستعمل اختراعات الكفار بدون ذكرها لأنها كثيرة وهي في حياتنا كلها من أفكار واختراع الكفار وتم صنعها بأيدي الكفار في بلاد الكفار وفي مصانع الكفار، فكيف يكون استخدام هذه الاختراعات حلالًا ونقول في الملابس أنها تشبه بالكفار.
فالجواب: أنه لا خلاف بين علماء الإسلام قديمًا وحديثًا من جواز التفكر في هذا الكون وإقامة الاختراعات الدنيوية المختلفة لخدمة الآدميين، فمن اخترع السيارة فله ذلك ومن اخترع طائرة فله ذلك ومن اخترع الغواصة فله ذلك لكون هذه الأشياء لخدمة البشر فليس كل من اخترع مثلهم كان متشبهًا بهم، لا، لماذا؟ لأن الله دعا المسلمين أن يفكروا وأن يبدعوا و يخترعوا، ولذا قال تعالى: "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ"([4]).
وقال جل شأنه: "أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا"([5])، وقال جل شأنه: "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"([6])، وقد استدل أهل العلم بهذه الآيات ونحوها على جواز التفكر والإبداع والاختراع.
إذن: الإبداع شيء والتشبه شيء آخر فيلزم التفريق بينهما، ولا ينبغي أن يقول شخص: العالم الفلاني لبس أو جوَّز.
ولكن الواجب أن يسأل ما الدليل الشرعي في هذه المسألة دليلا لا شبهة فيه فإن الدين يؤخذ من الكتاب والسنة، والعلماء الصادقون وسيلة تبصير لهذه الأمة بموجب الدليل، وبالله التوفيق.
_________
([1]) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب الجمعة، باب يلبس أحسن ما يجد (1/302 رقم 846)]، ومسلم في صحيحه [كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع (3/1638 رقم 2068)] كلاهما من حديث عبد الله بن عمر.
([2]) أخرجه أبوداود في سننه [كتاب اللباس، باب في لبس الشهرة (2/441 رقم 4031)] من حديث ابن عمر.
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه [أبواب الإحصار وجزاء الصيد، باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل (2/654 رقم 1746)]، ومسلم في صحيحه [كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه (2/835 رقم 1178)] كلاهما من حديث ابن عباس.
([4]) سورة الغاشية، الآية (20).
([5]) سورة الفرقان، الآية [45 : 50].
([6]) سورة النحل، الآية (8).